لا يطلب أشهر تلفزيون في العالم من الواحد منا سيرته الذاتية كي يسمح له بالظهور فيه، ولا يختبره حتى بأسئلة بسيطة قبل منحه فرصة اعتلاء شاشته، بل يفسح المجال، لكل من يملك كاميراً وجهاز إلكترونياً متصلاً بالانترنت، من أجل أن يبث وينشر المقطع الذي يريد، وما عليه سوى أن ينتظر تقييم الآخرين له، الذي سيحكم عليه إما بنجومية تدّر عليه ولو القليل من الأرباح، أو بخيبة قد تجعله يغلق حسابه بالقناة. تلفزيون "اليوتيوب" الذي طبّق حرفياً قاعدة "تلفزيون من لا تلفزيون له"، أتاح الفرصة للآلاف عبر العالم لإنتاج ونشر برامجهم الخاصة. اتفق رواد الانترنت على تسمية الظاهرة ب"البودكاست" حتى مع تشعّب هذه الكلمة وإحالتها على وسائط إلكترونية أخرى. هكذا تحوّل هؤلاء إلى مدوّنين جدد يمارسون حرية التعبير بالصوت والصورة وليس فقط بما هو مكتوب كما كان قديماً في مدوّنات حاصرها الغبار. لكن هل استطاعت عشرات "البودكاسترز" المغاربة تقديم الإضافة المطلوبة؟ وهل كشفت هذه البرامج، التي تكون فردية في الغالب، عن مواهب جديد؟ أم أن هذه الظاهرة لا تعدو أن تكون مجرّد حشو إلكتروني؟ دوافع "البودكاسترز" ازدهرت برامج "البودكاست" في المغرب بشكل واضح منذ أن فتح "اليوتيوب" مجال الشراكة للمغاربة قبل أزيد من سنة، ومكّنهم من دمج إعلانات "جوجل أدسنس" في مقاطع الفيديو التي ينشرونها، حيث كانت هذه الطريقة لا تتم سابقاً إلّا عبر التعاون مع وسيط إلكتروني يأخذ نسبة معينة من الأرباح ويفرض شروطاً معينة على المستخدم، أو عبر الاستعانة بأحد المغاربة القاطنين بدول متاحة فيها شراكة اليوتيوب. غير أن الربح المادي المباشر من إعلانات جوجل، لم يكن هو الدافع الوحيد لعشرات "البودكاسترز" المغاربة، فهناك دافع آخر هو طموح العمل مع قنوات فضائية مغربية تبحث بين رفوف "اليوتيوب" عن وجوه تصلح للكوميديا أو التنشيط في قنواتها، فضلاً عن دوافع أخرى منها الرغبة في التعبير. هكذا، انتقل عدد "البودكاسترز" في المغرب من رقم لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة قبل ثلاث سنوات، إلى العشرات في الفترة الحالية. غالبيتهم تنشط في برامج ترفيهية تستخدم الكثير منها تقنية استدعاء لقطات خارجية سواء لتطعيم الحلقة أو للتعليق عليها، في وقت لا زالت فيه البرامج التعليمية والتثقيفية والاجتماعية والسياسية، ضعيفة نوعاً ما، ولا تحقق حتى إن وُجدت، معدلات مشاهدة كتلك التي يحققها النوع الأول. القيمة الفنية للبودكاست في تصريحاته لهسبريس، لا يجد الناقد الفني عبد الكريم واكريم، أي قيمة في هذه البرامج، واصفاً إياها ب"مجرّد تعليقات تريد الإضحاك بصورة شعبوية وبليدة في بعض الأحيان، وذلك بالاستهزاء من حالات وأشخاص". ويشرح المتحدث أكثر بقوله إنّ هذه البرامج تتشابه عبر تضمنها تعليقات تتخلّلها مشاهد من الحالات التي يتناولونها بالنقد، وهي المشاهد المقتطفة في الكثير من الأحيان من أعمال كوميدية مصرية، تُوضع في مونتاج "عشوائي"، إلّا أنها قليلاً ما تؤدي دور الإضحاك المنوط بها، يقول واكريم، بسبب غياب الإبداع وكثرة التكرار. بيدَ أن منير بنصالح، باحث في مجال التواصل الإلكتروني، أشار إلى وجود تطوّر في الكم والكيف ببرامج "البودكاست" المغربية خلال الثلاث سنوات الأخيرة، وهو ما رافقه "تحسن ملموس" على المستوى الفني، يعود أساساً إلى اضطلاع من تلقوا تكوينا في مجالاتهم بمهمة الرقي بهذا الميدان، وهو ما "نوّع" المواضيع المنجزة بين الدين والفن والأسرة والمجتمع وما إلى ذلك، حتى وإن لا زال "البودكاست" المغربي في مرحلة جنينية مقارنة بدول في المنطقة، يقول بنصالح. سؤال الموهبة في "البودكاست" انطلاقاً من مشاهدته الدائمة لمجموعة من برامج "البودكاست"، يرى منير بنصالح أن مجموعة من شخصياتها تستحق المشاهدة والتشجيع، وهناك منها من بيّن عن مواهب في مجالات متعددة كالكوميديا وأفلام التحريك، ممّا سيمكّنها من مستقبل واعد إذا ما تمّ توظيفها في محلها، في وقت يبقى بعضها لا يرقى لما هو منتظر، يستدرك المتحدث. وينبّه بنصالح إلى أنه صار ضرورياً تطوير "البودكاست" في المغرب، كي لا يقع نوع من "حريك" المتلقي المغربي إلى برامج من هذا النوع تحمل جنسيات أخرى، تماماً كما وقع لقنواتنا الوطنية، يضيف بنصالح، وهو ما "يضيع علينا فرص كبيرة لخلق القيمة المضافة محلياً، واستغلال الشبكة الإلكترونية على المستوى الوطني". غير أن عبد الكريم واكريم، يقول إنّ برامج "البودكاست" لم تقدم أيّ مواهب حقيقية، معتبراً أنها لا تتجاوز ما يُعرض في القنوات التلفزيونية المغربية من كوميديا "فجة"، بل ولا تصل حتى لها. مضيفاً أن هؤلاء "البودكاسترز" تنقصهم الجرأة التي نشاهدها مثلاً عند باسم يوسف الذي بدأ من "اليوتيوب" وهو النموذج الذي اعتبره غائباً تماماً في المغرب. شساعة الجمهور الإلكتروني استطاعت بعض حلقات "البودكاست" بالمغرب أن تتجاوز الواحدة منها عتبة مليون مشاهدة، إلا أن هذا "النجاح" لا يُحدثه فقط الإعجاب بالمحتوى، بل هناك من "البودكاسترز" من يستخدم طرقاً معيّنة لنشر برنامجه، تعتمد أساساً على الموقع الاجتماعي "فيس بوك"، مِنها تبادل النشر، طلب النشر من المواقع الإخبارية، طلب النشر من الصفحات الفيسبوكية الضخمة. ويرى منير بنصالح في هذا السياق، أن الجمهور الإلكتروني مختلف تماماً عن طبيعة الجمهور التلفزي أو السينمائي، فهو يتميز بعلاقته "الحميمية" مع الانترنت عبر حاسوبه الشخصي أو هاتفه الذكي أو لوحه الإلكتروني. وبالتالي، يضيف المتحدث، تظهر ميولات الاشخاص واختياراتهم بعيداً عن منطق الرقابة أو الذوق العام، ممّا يجعل معدلات المشاهدة مرتفعة مقارنة بالتلفزيون مثلاً. ويضيف عبد الله واكريم عاملاً آخر أساسياً في ارتفاع نسبة المشاهدة، وهو التواجد الكبير للفئات العمرية الفتية داخل الفضاء الإفتراضي، وهي الفئات التي تجنح كثيراً نحو هذا النوع من الإنتاجات ذات الطبيعة الترفيهية. وبعيداً عن نقاشات القيمة والمواهب ونوعية السوق، فإن أهم ربح يقدمه "البودكاست"، هي تلك الأرباح المادية التي يستفيد منها البعض ممّن تُحقق برامجهم معدلات مشاهدة محترمة. قد لا تشكل هذه الأرباح مورداً مالياً قاراً لاعتبارات متعددة منها ضعف سعر النقر والمنافسة القوية، لكنها على الأقل، تمنح بعض الأمل بمشاريع إلكترونية مدرّة للدخل، خاصة في ظل اتساع أعداد المغاربة الذين يلجون للشبكة العنكبوتية.