سبق في مقالاتنا السابقة على الجريدة الالكترونية هسبريس سواء مقالنا حول الكوركاس أو بخصوص وكالة الجنوب،أن حذرنا من وضعية الجمود التي تعرفها الأقاليم الصحراوية على المستويات الاجتماعية والاقتصادية بسبب بطء الحكومة في تفعيل مقتضيات المخطط المندمج الذي أسس له عاهل البلاد من خلال خطابه بمناسبة الذكرى الرابعة والثلاثين للمسيرة الخضراء والقائم على خمس توجهات تهدف إلى إضفاء روح متجددة على المسيرة التنموية بهذه الأقاليم. ينضاف إلى ما سلف انخراط طرفي السلطة المنتخبة من جهة، والإدارة الترابية من جهة ثانية في صراع دونكيشوتي ستطال تأثيراته السلبية كافة مناحي الحياة و تؤثر على المجتمع بصورة جلية وستجمد دينامية الحياة الفاعلة فيه. في ظل استمرار هذا الوضع وإزاء المعطيات المقلقة التي تجلت في ارتفاع معدلات البطالة واتساع اخطبوط الفساد والريع، ونهم وشراهة المضاربين العقاريين والتي أوصلت العقار إلى أثمان خيالية كلها مؤشرات رفعت درجة التوتر و اليأس و عدم الاطمئنان للمستقبل لدى المواطنين بهذه الجهة، وفي غياب منتخبين حقيقيين يكونون نتاجا للإرادة الصحراوية الحقيقية، ويعكسون هذه الإرادة في البرلمان وباقي المؤسسات، سواء في بحث احتياجات الساكنة ومراقبة الملايير المرصودة لتنميتها، أو في مواجهة الشطط في استعمال السلطة، والذي تمارسه الإدارة في التعامل مع المواطنين بين الفينة والأخرى، انبرى مجموعة من الشباب الصحراوي إلى الاحتجاج بطريقة سلمية وحضارية ليلفتوا أنظار أعلى سلطة في البلاد إلى التهميش الذي يعرفونه والفقر المدقع والبطالة التي تضرب بأطنابها في صفوفهم. وقاموا بنزوح جماعي نحو ضواحي مدنية العيون ونصبوا خيامهم، فشكل مخيمهم هذا محجا لمختلف الشرائح العمرية شيوخ نساء شباب وأطفال والتي تعيش مختلف أوجه الإقصاء والهشاشة، وليجسد بشائر ثورة هادئة واعية وحضارية لكل الفئات المهمشة بالصحراء، ويدار هذا المخيم بأسلوب منظم يدعو إلى الإعجاب خاصة بعد أن رفض منظموه استغلال مخيمهم لأغراض سياسوية ضيقة قد تخدم هذا الطرف أو ذاك، ومحددين مطالبهم ومنذ البداية في مطالب اجتماعية محددة يأتي على رأسها التشغيل والسكن ولتحذو حذوهم مجموعة من المدن الأخرى كالسمارة وبوجدور و بلدية المرسى وان لم تصمد كما صمد مخيم الغضب بالعيون الذي يدخل أسبوعه الثالث على التوالي. إلا أن اللافت في هذا ليس مسالة النزوح الجماعي إلى العراء، وترك المدينة التي لم يعد لنا بها مورد رزق ولا نملك فيها شبرا من الأرض-حسب تصريح احد المحتجين- ، بل الجديد هو صعود نغمة ظلت مكبوتة لسنوات طوال ربما تفاديا منهم للعنصرية والشوفينية وان كان هذا الطرح تفنده سلوكياتهم الحضارية والمرنة في العيش المشترك، هذه النغمة وان كانت تمارس في ارض الواقع بأشكال متنوعة من التكافل الاجتماعي والمصاهرة...، فقد أعلنت عن نفسها في مخيم الغضب من خلال بروز مصطلحات من قبيل: الصحراويين الأصليين أو "لاسينساو" او "أهل لاتييرا" إلى العلن، والذين يقصد بهم أبناء القبائل الصحراوية وخاصة منهم المحصيين في التعداد الاسباني. ولعل من الأسباب المباشرة لبروز هذه النزعة- التي قد نتفق معها أو نختلف- التهميش والتفقير الذي عرفته هذه الساكنة الأصلية بعد تكريس الحكومات المتعاقبة لمجهوداتها في معالجة مخلفات مرحلة "أم الوزارات" سيئة الذكر والتي تحكمت في إدارة ملف الصحراء لمدة طويلة وإدارته بقبضة حديدية بمحاولاتها المتكررة لطمس الهوية الصحراوية- كما هو الشأن بالنسبة للهوية الأمازيغية-، وتحطيم النسيج المجتمعي بالمنطقة عن طريق زرع بؤر الفتن والتشكيك وإذكاء النزعة القبلية واعتماد المقاربة الأمنية القائمة على الاعتقالات وتكميم الأفواه الحرة والاعتماد على تقارير المخبرين المغلوطة، المكتوبة في المنازل والمنافية تماما لواقع الساكنة سواء السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي. ولعل من ابرز أخطاء تلك المرحلة هو جلب عشرات الآلاف من المواطنين من شمال المملكة إلى الأقاليم الصحراوية بهدف تسجيلهم في عملية تحديد الهوية من اجل المشاركة في الاستفتاء حول مصير الإقليم الصحراوي، إلا أن هذه المرحلة طالت واستطالت ليجد هؤلاء المواطنين أنفسهم بمخيمات الوحدة في وضعية أسوء من وضعية اللجوء التي تعرفها مخيمات اللاجئين بتندوف. وتأتي مرحلة "الوطن غفور رحيم" لتحدث نزيفا بشريا انتقل من مخيمات اللجوء ومناطق مختلفة من العالم وتضيف إلى الكتلة البشرية المرتفعة أصلا بالأقاليم الصحراوية رافدا جديدا لم يكن بالحسبان. والنتيجة أننا جمعنا مئات الآلاف من البشر دون أن توفر لهم مسبقا أدنى وسائل العيش الكريم من سكن وتطبيب وتعليم وتشغيل، وستعود وزارة الداخلية من جديد في محاولة يائسة لتجد لها موضع قدم في إدارة ملف الصحراء ولو على الصعيد الداخلي- بعد أن كانت سابقا محجا لكل من لديه مشكل من الصحراويين- فقامت بالإشراف على عمليات التوظيف لأبناء الأقاليم الجنوبية، وإسكان قاطني مخيمات الوحدة، ثم إدماج العائدين إلى ارض الوطن، وكما هي عادتها فقد فشلت فشلا ذريعا في تدبير هذه الملفات حيث شابت عمليات التوظيف لسنوات 1999 و2003 و2005 خروقات حقيقة حيث بدلا من أن تكون حلا فعليا لمعضلة البطالة بهذه الأقاليم فقد تحولت إلى عملية لإقصاء الصحراويين الأصليين وتوظيف من له قرابة أو علاقات زبونية ومحسوبية بأطر وموظفي وزارة الداخلية والإدارة الترابية- حتى ولو لم تطأ أقدامه أرض الصحراء قط- وهذه الممارسات عهدها المغاربة في هذه الوزارة لسنين إلا انه من غير المقبول لعهد يبشر بالمفهوم الجديد للسلطة أن تستمر مثل هذه التجاوزات. أما عملية إسكان قاطني مخيمات الوحدة فلا تزال فضيحة التلاعب بالعقار بالصحراء تجلجل بحيث صارت حديث القاصي والداني. فبعد أن استولت الإدارة الترابية في مدنية العيون وحدها على ما يزيد عن الثلاثة آلاف بقعة أرضية، تمت المتاجرة بها في السوق السوداء. وبدل أن يقف المنتخبين في وجه هذه التجاوزات أسهموا بدورهم في اقتسام الكعكة بسرقة البقع الأرضية المجهزة من طرف إدارة العمران واستخدامها لشراء الذمم بمزيد من الأصوات الانتخابية، ولم تفلح محاولات ذر الرماد في العيون التي قامت بها وزارة الداخلية بإحصاء أبناء القبائل الصحراوية والأرامل والمطلقات لمنحهم بقع أرضية وهمية لم يروها إلى غاية كتابة هذه السطور، ولا بإيفاد لجنة من وزارة الداخلية للتحقيق في فضائح سرقة العقار بالأقاليم الصحراوية، ولا حتى تقديم أكباش فداء كتنقيل مدير شركة العمران والموظفة المشهورة باسم الحاجة لتشفي غليل الموطنين، ولا تزال المطالبة بفتح تحقيق قضائي شفاف ونزيه في فضائح العقار المسروق بالأقاليم الصحراوية وارتفاع أثمانه نتيجة المضاربات العقارية المشبوهة من أبرز انتظارات المواطنين بها. أما بخصوص تدبير ملف العائدين إلى ارض الوطن فحدث ولا حرج، فلا يخفى على أحد المعاملة التمييزية بين هؤلاء العائدين تبعا لمقولة الدارجة "أباك صاحبي" أو "إلي جداتو فالمعروف" ، فإن كان لك سند قوي في وزارة الداخلية فستحظى بالسكن في حي الرياض و المنصب الرفيع وإلا فأنت محظوظ إذا حظيت بكارطة للإنعاش الوطني وشبه منزل في مساكن العائدين، وما زاد الطين بلة انه في السنوات الأخيرة لم يعد شرطا أن تكون صحراويا من مخيمات اللجوء لتدخل في عملية إدماج العائدين "الوطن غفور رحيم"، بل أصبح كل من يلج عبر الحدود بهذه الصفة تمنح له مباشرة ويستفيد من نفس الإمكانات على هزالتها. من ابرز نتائج هذه المقاربة فقدان المواطن الصحراوي للثقة في كل المبادرات الصادرة عن هذه الوزارة وباقي مؤسسات الدولة وفقدان الإدارة الترابية مصداقيتها في التصدي لمشاكل المواطنين، أضف إلى هذا الثقة المفقودة أصلا في المنتخبين وشيوخ واعيان القبائل من هنا وأمام واقع مخيم الغضب الذي انتصب بما يفوق العشرة آلاف مواطن صحراوي أصلي ولا يزال العدد يرتفع يوما عن يوم، نتسائل ما الحل؟ نحن أمام مقاربتين أو فرضيتين كلتاهما صعبة وتتطلب الكثير من التضحيات؟ الفرضية الأولى: انتهاج المقاربة الأمنية وتفريق مخيم النازحين الصحراويين باستعمال القوة العمومية مع ما سيترتب عن المواجهات من ضحايا في صفوف المحتجين وفي صفوف عناصر قوات التدخل، مع استحضار النتائج غير المتوقعة التي قد ترتبها أعمال الشغب بالمدن الصحراوية على الامن والاستقرار والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والإضرار بالممتلكات العمومية وبالملكية الفردية عقب هذا الفعل. وقد يتم استغلال هذه الأحداث لترويج إشاعات باطلة وتوظيفها للنيل من سمعة المغرب. الفرضية الثانية: انتهاج المقاربة التنموية والاستجابة للمطالب الاجتماعية المرفوعة من طرف المحتجين من قبيل حل معضلة البطالة التي تفاقمت وحل إشكالية السكن مرورا إلى باقي المطالب، وترجمة هذه الحلول بشكل فوري ودون تأخير. وبعد أن تعزز المخيم بالآلاف من الموطنين، فإن المحتجين لن ينهوا مخيمهم دون لجوء الدولة لإحدى المقاربتين السالفتي الذكر أو جلب طرف من خارج الساحة الصحراوية ليمثل جهة التحكيم بين مطالب المحتجين المشروعة من جهة وبين الإدارة الترابية من ولاة وعمال وقياد ينضاف إليهم المتواطؤون من المنتخبين وشبكة المستغلين المنفعيين باسم الصحراء والذين صاروا خصما في القضية ولا يمكن اللجوء إليهم لإيجاد حل لها. في هذا السياق وهنا نود أن نؤكد ضرورة معالجة هذا الملف برؤية موضوعية وواقعية تعتمد التعامل بإنصاف مع هذه الشرائح من المجتمع وذلك بتفعيل اللجنة الملكية لمتابعة الشؤون الصحراوية المكونة من شخصيات مدنية وعسكرية وتخصيص غلاف مالي لحل مشكل البطالة والسكن في الأقاليم الصحراوية وإشراك أبناء المنطقة حتى يمثلوا في اللجنة الملكية، وبحضور ممثلي هذه اللجنة الملكية إلى الأقاليم والاستماع عن قرب وبشكل مباشر لمشاكل الساكنة المجسدة حاليا في مخيم الغضب والإسراع في تدبير هذا الملف الذي مازال إلى الان تحت السيطرة قبل أن يتسع ويتحول إلى ما لا تحمد عقباه. هذا على المدى القريب أما الحل الأمثل والدائم لمثل هذه المشاكل في حينها وقبل أن تتفاقم، هو العمل على تفعيل مشروع الجهوية والمرور إلى مرحلة تنزيله على أرض الواقع بما يضمن إشراك الصحراويين الأصليين في تدبير شؤونهم بأنفسهم، وهو ما يتوقع أن يتم الإعلان عنه في خطاب ذكرى المسيرة الخضراء لنونبر المقبل.