يعيش اﻹنسان في هذا الكون الفسيح الذي أودع الله فيه جميع مقومات الحياة، من طعام وشراب وهواء وسماء وتراب وماء وثمار وجبال وأحجار وبحار..فأنزل الله الكتب، وأرسل الرسل لهذا اﻹنسان للأخذ بيده الى معرفة ربه وخالقه، وترك له الحرية الكاملة في اختيار عقيدته " فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" وقوله تعالى"وهديناه النجدين.. " وقوله "..إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا" وقوله " لا إكراه في الدين" و "لكم دينكم ولي دين" ...وفي هذه الحرية المطلقة هناك من اختار عبادة البقر ، وهناك من اختار عبادة الحجر، وهناك من اختار عبادة البشر..وهناك من اختار عبادة الواحد اﻷحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، لهذا القرآن الكريم منع منعا باتا ان تسب هذه اﻵلهة المزيفة التي اختارها أصحابها آلهة من دون الله ؛ حتى ﻻ يسب المعبود الحق جل جلاله قال تعالى : "ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم، كذلك زينا لكل أمة عملهم، ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون.. " . وقد اتفق علماء االإسلام على أن معنى الآية : لا تسبوا آلهة الكفار فيسبوا إلهكم وكذلك هو ؛ فإن السب قد يفضي إلى سب الرحمن الرحيم العزيز الحكيم، وفي هذا السياق يقول النبي صلى الله عليه وسلم : "لعن الله الرجل يسب أبويه . قيل : يا رسول الله؛ وكيف يسب أبويه ؟ قال : يسب أبا الرجل فيسب أباه ، ويسب أمه فيسب أمه " ؛ فمنع الله تعالى في كتابه أحدا أن يفعل فعلا جائزا يؤدي إلى محظور ؛ وسبب نزول هذه اﻵية ان المشركين قالوا : لئن لم تنتهن عن سب آلهتنا لنسبن إلهكم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية..والسؤال الذي يجب طرحه هنا فهل مشايخنا اﻷفاضل ودعاتنا الكرام الذين تصدروا للدعوة الإسلامية في بلادنا العربية والإسلامية والغربية لهم نصيب من معرفة مقاصد هذا الدين الحنيف...؟ أم مازال السب واللعن حي يرزق فوق منابرنا وجامعاتنا ومدارسنا..!! وهكذا الحال في بعض كنائس النصارى ومعابد اليهود في الغرب يسبون ويلعنون ويحرضون مريديهم على الكراهية والحقد والعنصرية تجاه المسلمين خصوصا، وما هو مخالف لعقيدتهم ولمذهبهم عموما..!! وهذا شيء لا يقبله العقل السليم والفهم السليم للدين - وأي دين سواء الدين اليهودي أو النصراني أم دين الإسلام - كيف يرتكب باسم الله وباسم أنبياء الله ورسله ما يحرمه الله ورسله..!! ؛ لكن عندما يغيب العقل والتعقل والحكمة والفهم الصحيح لرسالة الديانات السماوية التي أتت رحمة للبشرية من قبل رب العالمين، تتصدر الحماقة والجنون والوحشية تصرفات هذا الإنسان..! ومن يقرأ أحداث التاريخ البشري عموما، وما جرى ويجري علي ساحاته من أحداث إلى حد الآن، قد لا نصدق ما نقرأه بين جوانح وبطون هذا التاريخ من مصائب ومآسي يشيب لها الولدان، وتقشعر منها الأبدان، وعندما نعمق النظر أكثر ونبحث عن العلل والأسباب التي أدت إلى هذه المآسي نجد أن عدم فهم الدين فهما صحيحا واستخدامه لقضايا سياسية وشخصية له نصيب في هذا؛ لأن الدين سيف ذو حدين كما يقال، يمكن أن يستعمل في الاتجاه الصحيح من خلاله نبني الإنسان والأوطان ونصنع الحضارة والتاريخ، ونتعايش فيما بيننا بسلام وحب ووئام، أو يستخدم في تهديم البلاد وقتل العباد وتفكيك الأوطان وهذا هو الحاصل للأسف...!! كم أباد اليهود من بشر عبر تاريخهم الطويل؟ وكم قتلوا من إنسان على أرض فلسطين المغتصبة بالحديد والنار، وباسم نصوص التوراة الموحى بها من رب الأرض والسماء على النبي موسى عليه السلام..!! وكم قتل النصارى كذلك من بشر في الحروب الصليبية والإستعمارية باسم ربهم وإنجيل نبيهم عيسى عليه السلام..؟؟!! وما محاكم التفتيش الكاثوليكية التي أنشئت في إسبانيا خلال القرن الثاني عشرلخير دليل..!! ؛ بحيث كان الهدف من إنشائها هو القضاء على المسلمين في الأندلس، كما شملت اليهود لاحقا منذ بداية القرن الرابع عشر، وفي القرن السادس عشرظهرعدو جديد خارج عن المذهب الكاثوليكي المعتمد آنذاك لدى الملوك في أوروبا، وهم "البروتيستانت" ؛ حيث تم إحراقهم أحياء وإلحاقهم بالمسلمين واليهود "كهراطقة" ؛ والهراطقة هم مبتدعة النصارى او الذين تمردوا على تعاليم الكنيسة ، وإدخال بعض الإصلاحات والاجتهادات في نصوص الأناجيل المقدسة المعتمدة لدى الكنيسة الكاثوليكية ؛ فهؤلاء لم يسلموا كذلك من بطش محاكم التفتيش ، ولو أنهم ينتمون إلى نفس العقيدة المسيحية..!!، ويكفي هنا أن نسطرماقاله "غوستاف لوبون" في كتابه المعروف "حضارة العرب" يقول: "يستحيل علينا أن نقرأ دون أن تقشعرجلودنا من قصص التعذيب والاضطهاد التي قامت بها محاكم التفتيش الإسبانية ضد المسلمين المنهزمين..أحرقت منهم ما استطاعت من الجموع..واقترح الراهب "بليدا" قطع رؤوس كل العرب دون أي استثناء ممن لم يعتنقوا المسيحية بعد ؛ بما في ذلك النساء والأطفال .. كما قتل بليدا في قافلة واحدة 100 ألف مهاجر، كانت متجهة نحو إفريقيا والمغرب.." فمحاكم التفتيش كان هدفها الأول والأخير القضاء على المسلمين واليهود في الأندلس ، وعلى كل مخالف لقواعد المذهب الكاثوليكي المعتمد لدى ملوك أوروبا، ورغم المعاهدة التي تمت بين أبي عبد الله الصغير والملوك الكاثوليك سنة 1492م، وأقسم البابا عليها، ومن بنودها: "تأمين الصغيروالكبيرفي النفس والأهل والمال ، مع إبقاء الناس في أماكنهم ودورهم ، وإقامة شريعتهم على ماكانت ، ولايحكم على أحد منهم إلابشريعتهم ، وأن تبقى المساجد كما كانت..ولايمنع مؤذن ولامصلي ولاصائم ولاغيره في أموردينه " ؛ لكن هذه المعاهدة لم تدم طويلا وتم نقضها كليا..!!. وبدأت التصفية وقبراللغة العربية وحظرها، وأحرق الكردنال "أكزيمينيس" مايزيد عن ثمانين ألف كتاب ، وفي غرناطة وحدها سنة 1500م أجبرالمسلمون على تسليم أكثر15 مليون كتاب تتميزبتجليدات زخرفية لاتقدر بثمن ، فقد تم حرقها واحتفظوا ببعض كتب الطب والهندسة والفلك والجغرافيا والرياضيات والفلسفة.. مازال إلى اليوم العالم الغربي يقتات من فتاتها، وهكذا تفنن ملوك الإسبان في إذلال المسلمين بالأندلس ؛ بحيث منعوا الختان والوقوف تجاه القبلة ، والاستحمام والاغتسال وحظرالملابس العربية ، وإذا وجدوا رجلا لابسا للزينة يوم العيد عرفوا أنه مسلم فيصدر في حقه الإعدام ، وكذلك لووجدوا في بيته مصحفا للقرآن الكريم ، أوامتنع عن الطعام في رمضان ..وكانوا يكشفون عورة من يشكون أنه مسلم ، فإذا وجدوه مختونا يعاقب عقابا شديدا ، وفي أغلب الأحيان يعدم . حتى تناول "الكسكس" المغربي واستخدام الحناء تعتبر جريمة من الجارئم وصاحبها يعاقب..!!. ولما شعرالإمبراطور"شارل الخامس" بميل الموريسكيين (المسلمون الأندلسيون الذين تنصروا كرها وأخفوا إسلامهم) إلى الهجرة أصدر قرارا في سنة 1514م يحرم عليهم تغييرمساكنهم ونزوحهم إلى مدينة "بلنسية" التي كانت دائما طريقهم المفضل إلى الهجرة ، تابعه بمرسوم آخر، أن كل شخص يطمح لشغل وظيفة في إسبانيا، عليه إثبات عدم وجود أي عضو يهودي أومسلم في عائلته منذ أربعة أجيال على الأقل..!!. فمابين عامي (1609-1614) تم طرد مالايقل عن 500 ألف شخص إلى البلدان الإسلامية المجاورة كالمغرب وتونس والجزائر ودول امريكا اللاتينية..بعد نهب ومصادرة أملاكهم ، وقد تمت إبادة كثيرة منهم أثناء هذا الترحيل ؛ حيث كان القراصنة يلقوهم في البحرليموتوا غرقا ، وخاصة لمن كان يريد الهروب أوالمقاومة..!! ومن وصل سالما إلى سواحل البرازيل والشيلي وسورينام.. وجد هناك محاكم التفتيش البرتغالية التي كانت تمنع هجرة الأندلسيين المسلمين إلى البرازيل عندما احتلوها في القرن السادس عشر؛ ففي سنة 1594م تم إصدارقانون من محكمة التفتيش بولاية "بهية" البرازيلية توضح من خلاله علامات المخفي للإسلام ، ومما جاء في بعض بنوده: "الغسل والنظافة خاصة أيام الجمعة ، والقيام الباكر، والصيام ونظافة الملابس ، ولبس الخاتم الفضي..!!" الأمرالذي دفع بالكثيرمنهم الهروب إلى دول الجوار؛ كالأرجنتين والشيلي وفنزويلا وسورينام..وماتزال إلى اليوم عائلات في البرازيل يعتز أفرادها بأصولهم الموريسكية ، ويحتفظون في بيوتهم بمصاحف قرآنية توارثوها عن أجدادهم جيلا بعد جيل ، وبعضها خطط بأيديهم وعلى طريقة الخط المغربي المعروف، وأنا شخصيا نحتفظ بالكثيرمن هذه المخطوطات..(نقلا عن كتاب: المسلمون بأمريكا الجنوبية والعودة إلى الجذور للداعية الصادق العثماني). كما أن اليهود تعرضوا للقتل والطرد والتعذيب بفتاوى تحريضية من القسيسين والرهبان من أنهم أناس رفضهم الله ولعنهم، وبأنهم خنازير(أي اليهود)، وأقيم من حولهم سياج عزل صحي يقي أرواح المسيحيين من عدواهم، وانكمشت الاتصالات على الصعيد الاجتماعي معهم، وتعددت حوادث اضطهادهم وطوردوا من مكان لمكان، فقد طردوا من فرنسا وأعيدوا أربع مرات فيما بين عامي 1182، 1321 وفي عام 1322م طردوا مرة أخرى حيث لم يبق منهم يهودي واحد في فرنسا خلال الأربعين عاما التالية، وفي أسبانيا حيث ازدهر اليهود في ظل الحكم الإسلامي، ثم بدأ اضطهادهم بوحي من الكنيسة عام 1492 وتم طردهم جميعًا من أسبانيا وذلك في 2 أغسطس من نفس العام وهو يوم اتخذه اليهود يوما للحداد في حياتهم. هذا مافعله النصارى في الأمم والشعوب من قتل وذبح وحرق وتشريد بحجة الدفاع عن دين الله وسنة المخلص عيسى نبي الله ورسوله..!! بالمقابل هل عرف تاريخ الإسلام والمسلمين محاكم التفتيش ؟ في اعتقادي الشخصي الجواب سيكون بنعم؛ بحيث هناك حقائق مرعبة وجرائم خطيرة ارتكبت باسم الإسلام وباسم تطبيق سنة النبي العدنان سجلتها بطون التاريخ الإسلامي، علما أن محاكم التفتيش في التاريخ الإسلامي تواجدت مع تيارات سياسية وأحزاب ومذاهب دينية، والتيار الديني الحاكم والقوي هو الذي كان يقوم بتصفية خصومه ومحاكمتهم وسجنهم وقتلهم باسم الله، أو باسم تطبيق شرع الله، ويمكن اعتبار أول محاكمة دينية سياسية صورية للمعارضة السياسية الإسلامية أجراها الوالي الأموي زياد ابن ابيه، والي معاوية على العراق ، وكان المتهم فيها الصحابي الجليل حجر بن عدي وأصحابه رضي الله عنهم أجميعن؛ بحيث كان رضي الله عنه يعترض قيام الأمويين ومشايخهم بسب الإمام علي رضي الله عنه على المنابر وفي المساجد والمناسبات الدينية، وكان والي الكوفة آنذاك المغيرة بن شعبة يتسامح مع حجر بن عدي إذا اعترض عليه في المسجد حين يبدأ في سب الإمام علي رضي الله عنه!! ولما تولى العراق زياد بن أبيه وكان شديد العداء لعلي رضي الله عنه وآل بيته ، وشديد التربص بحجر بن عدي، وسرعان ماتصادم الاثنان فاعتقل حجر بن عدي ومعه نفر من أصحابه وأودعوا السجن، وجمع أربع من كبار المسؤلين في حكومته ليشهدوا على حجر فكتب أحدهم وهو أبو بردة بن أبي موسى الأشعري: "بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما شهد عليه أبو بردة بن أبي موسى لله رب العالمين، شهد أن حجر بن عدي خلع الطاعة وفارق الجماعة ولعن الخليفة ودعا إلى الحرب والفتنة، وجمع الجموع يدعوهم نكث البيعة، وخلع أمير المؤمنين معاوية، وكفر بالله كفرة صلعاء" فأعجب زياد بهذه الشهادة وقال:"على مثل هذه الشهادة اشهدوا، والله لأجهدن في قطع عنق الخائن الأحمق، ثم دعا الناس فقال: اشهدوا على ما شهد عليه رؤوس الأرباع، قام عناق بن شرحبيل التميمي أول الناس فقال: اكتبوا إسمي، فقال زياد: إبدأوا بقريش ثم اكتبوا اسم من نعرفه ويعرفه معاوية بالصحة والاستقامة، وشهد غيرهم حتى وصلوا السبعين إسما. وكتب بأسماء اشخاص لم يشهدوا بالفعل على حجر وكان أحدهم شريح بن هانئ، الذي علم أن اسمه قد وضع في هذه الشهادة فأرسل إلى معاوية على وجه السرعة رسالة كان نصها: "لعبد الله معاوية أمير المؤمنين من شريح بن هانئ، أما بعد، فقد بلغني أن زيادا كتب إليك بشهادتي على حجر بن عدي، وأن شهادتي على حجر: إنه ممن يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويديم الحج والعمرة، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، حرام المال والدم فإن شئت فاقتله، وإن شئت فدعه ( تاريخ الطبري ج /5 / ذكر مقتل حجر بن عدي) . ومع هذه الشهادة الصادقة والحقيقية التي لا لبس فيها تشهد لحجر رضي الله عنه بأنه من المسلمين وممن يقيم الصلاة... ومع ذلك تم قتله ومن معه من رفاقه حدا بالسيف، سقط على إثرها شهيدا سنة 51 ه . كما تمت محاكمته وهو ميت رحمه الله وأسكنه فسيح الجنان مرة ثانية في سوريا عندما استولت جبهة النصرة على المنطقة التي يتواجد فيها قبره الواقع بمدينة عدرا ؛ بحيث نبش قبره وأتلف جثمانه بتاريخ 27 ابريل 2013 م ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العضيم، ولهذا اعتبر بعض المؤرخين أن حجر بن عدي رضي الله عنه أول ضحايا محاكم التفتيش الإسلامية القديمة، ومن غريب الأقدار كان رضي الله عنه أول ضحايا محاكم التفتيش الحديثة الداعشية ..!! ، وكان الوالي زياد ابن أبيه هو اول من بدأ هذه السنة السيئة ، وجاء بعده ابنه عبيد الله بن زياد والي الكوفة، فكان يقتل خصومه السياسيين دون محاكمات حقيقية وبفتاوى من علماء السوء وبشهادات مزورة أو تحت الإكراه..!! ، وكان يمارس ذلك جهارا نهارا ، إذ يروى أن عروة بن حيدر التميمي جاء إليه في حلبة رهان على الخيل فوعظه فقرأ أمامه قوله تعالى " أتبنون بكل ريع آية تعبثون ، وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون ، وإذا بطشتم بطشتم جبارين" فأخذه عبيد الله بن زياد فقطع يديه ورجليه ، ثم قال له كيف ترى ؟ فقال له عروة : أرى أنك أفسدت دنياي وأفسدت آخرتك !! قتله ثم أرسل إلى ابنته فقتلها أيضاً!! وعبيد الله بن زياد هذا هو الذي أرسل جيشاً لقتل الحسين بن علي رضي الله عنه ريحانة الجنة وحفيد النبي الكريم وإبن بنت رسول الله فاطمة الزهراء رضي الله عنهما..!! تلك المذبحة التاريخية التي غيرت وجه التاريخ الإسلامي وقسمت ظهر الأمة الإسلامية إلى شطرين ، وما زالت مخلفاتها إلى يوم الناس هذا ..!! ومع الأسف وفي خلافة عبد الملك وإبنه الوليد لقى مئات لآلاف من المسلمين حتفهم على يد الحجاج بن يوسف ، الذي كان يقتل الأبرياء بمجرد التهمة والظن، وكان يستبيح قتل الأسرى المسلمين الخارجين عليه ، وأكثر ضحاياه كانوا من الأبرياء المسالمين المتهمين ظلماً ، بدليل أنه عندما مات الحجاج سنة 95ه وجدوا في سجونه ثلاثة وثلاثين ألف متهمين بلا جريمة وكان السجين منهم يظل في السجن إلى أن يموت، وقد مات منهم في السجن خمسون ألف رجل وثلاثين ألف إمرأة ، وكان يحبس الرجال والنساء في موضع واحد، ولم يكن السجن إلا مجرد مقبرة ، الداخل فيه لايخرج منه إلا جثة هامدة..!! يروي الزهري أن الجيش الأموي استباح المدينةالمنورة ثلاث أيام بلياليها ، فقتل سبعة آلاف من الأشراف والصحابة وعشرة آلاف من بقية أهلها ، هذا بالإضافة إلى اغتصاب الحرائر من نسائها ، وذلك ما رددته كتب التاريخ كالطبري (4/372) وابن الأثير (3/10) ويقول المؤرخ ابن كثير أنه " حبلت ألف إمرأة في تلك الأيام من غير زواج" (تاريخ ابن كثير (8/372 ، 219). وبعد مذبحة أهل المدينة توجه الجيش الأموي إلى مكة حيث حاصر الحرم بالمجانيق التي تقذف بالنار فأحرقت الكعبة ، ولم ينقذ أهل مكة مؤقتاً إلا وصول الخبر بموت الخليفة يزيد بن معاوية واختلاف الأمويين على أنفسهم ، وبعد أن اتفقوا في مؤتمر الجابية على تولية مروان بن الحكم للخلافة أرسل الأمويين جيشاً آخر حاصر ابن الزبير وقتله سنة 73 ه وكان قائد الأمويين آنذاك هو الحجاج بن يوسف، حتى الشيخ الجليل والعالم الكبير سعيد إبن المسيب لم يفلت من الضرب بالسياط حيث كاد الخليفة الوليد أن يقتله لأنه استدعاه من المسجد فرفض المثول أمامه. قتل الإمام الحسين بعد أن قام بثورة ضد معاوية بن يزيد، وقتل الإمام زيد بن علي عند خروجه على الخليفة هشام بن عبد الملك وذلك سنة 121ه ، ولما قام ابنه يحيى يطالب بحق أبيه قتل هو الآخر عام 125ه ولما قام ابنه عبد الله يطالب بحق آبائه وأجداده قتل كذلك سنة 130ه!! ولما قام محمد بن عبد الله الملقب بالنفس الزكية بثورة ضد الخليفة المنصور ناصره أبو حنيفة في دروسه وعرض عليه منصب القضاء والإفتاء رفض أبو حنيفة المنصب، عندئذ سجنه الخليفة وظل في سجنه حتى انتقلت روحه إلى جوار ربها، وذلك سنة 150ه ! وكذلك ترتب على خروج عبد الله بن الزبير ضد الحجاج ..ولقد كانت أكبر كارثة سجلها التاريخ السياسي للخلفاء الأمويين هو عندما قام عبد الرحمن بن الأشعث بثورة ضد الأمويين بسبب مظالم الحجاج بن يوسف الثقفي سجن 120 ألفا من الثوار ومنع عنهم الطعام والشراب في السجن حتى ماتوا وذابت أجسادهم .. !!. (بتصرف عن الطبقات الكبرى ج/5/94). للأسف الشديد وهكذا استمرت الحركات الدينية ومحاكم التفتيش الإسلامية في تاريخنا الإسلامي تتناسل جيلا بعد جيل تحصد الأرواح وتسفك الدماء وتذبح وتقطع الرؤوس باسم الله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتهلك الحرث والنسل، حتى أكابر علماء أمتنا الإسلامية أمثال الرازي والخوارزمي والكندي والفارابي والبيروني وابن سيناء وابن الهيثم والغزالي وابن رشد والعسقلاني والسهروردي وابن حيان والنووي وابن المقفع والطبري و الكواكبي والمتنبي وبشار بن برد ولسان الدين بن الخطيب، وابن الفارض ورابعة العدوية والجاحظ والمجريطي والمعري وابن طفيل والطوسي وابن بطوطة وابن ماجد وابن خلدون وثابت بن قرة والتوحيدي... لم ينجوا من محاكم التفتيش الدينية تارة بتبديعهم وتفسيقهم وتكفيرهم وتارة أخرى بإعدامهم وشنقهم وذبهم..!! . من منا لا يفتخر بهؤلاء الكوكبة من العلماء وبإنجازاتهم العلمية الرائعة في الفلسفة والفزياء والكمياء والطب والهندسة والجغرافيا والفقه والقانون والآداب والفلك والزراعة والبيطرة والجبر والحساب والفنون والآداب..؟؟ كانوا رحمهم الله أساتذة الشرق والغرب والعالم كله مدين لهم، ومازال يقتات على فتاتهم، ولولا إسهاماتهم في شتى العلوم والمعارف لكانت أوروبا إلى يوم الناس هذا تعيش في ظلام دامس..!! ؛ لكن العار كل العار عندما نراجع قصص هؤلاء العلماء الكبار في تاريخنا الإسلامي وما تعرضوا له من قبل فقهاء وشيوخ التكفير وقضاة محاكم التفتيش نصاب بالحيرة والدهشة، نرجو التكرم من قرائنا الكرام السماح لنا بعرض القليل منها ليس لغرد التشهير والتسلية، وإنما من أجل العبرة، فاعتبروا يا أولي الأبصار..!! أقول: هؤلاء العلماء الأعلام صدرت ضدهم سلسلة من الأحكام التكفيرية، بنفس التهمة التي كانت تصدره محاكم التفتيش في إسبانيا وفرنسا والبرتغال والبرازيل على العلماء الذين حاولوا إماطة الظلام عن الكنائس "الكهانوتية" ومنهم غاليلو، وجيوردا، ونويرنو، وكوبرنيكس، ونيوتن، وديكارت، وفولتير، وحرمت قراءة كتبهم، وتعذيبهم ومطاردتهم وحرقهم ومنع كتبهم..، نفس الأمر نجد سلاح التكفير والتفسيق والتبديع طالت الطبري بتحريض الفقهاء والغوغاء والعامة على قتله، وتم تكفير الرازي وابن سيناء والفرابي والكندي والغزالي، وابن رشد والأصفهاني..كما كفروا ابن الفارض وطاردوه في كل مكان، وقتل السهروردي، وقطعت أوصال ابن المقفع، ثم شويت أمامه ليأكل منها قبل أن يلفظ أنفاسه!! وكل هذا مع الأسف كان يتم تحت غطاء محاربة البدع وتطبيق شرع الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ان الجعد بن درهم مات مذبوحا، وعلقوا رأس أحمد بن نصر وداروا به في الأزقة، وخنقوا لسان الدين بن الخطيب وحرقوا جثته.. وقال إبن القيم الجوزية في إغاثة اللهفان عن إبن سيناء أبو الطب البشري والفيلسوف والفقيه: " إنه إمام الملحدين الكافرين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.." (إغاثة اللهفان 2/374) وقال عنه الكشميري في (فيض الباري 1/166): "ابن سيناء الملحد الزنديق القرمطي".... نسوق هذا الكلام ليس للتشفي أو الطعن في تراثنا وتاريخنا أو من أجل أن نحيي العظام والجماجمة وهي رميم! أو نخرج النفوس البريئة من قبورها التي ذهبت ضحية فتاوى التكفير ومحاكم التفتيش.. ظاهرها الحرص على إقامة الدين وشرائع الأنبياء والمرسلين، وباطنها الانتقام من الخصم السياسي للوصول إلى سدة الحكم، وتحقيق مصالح شخصية ضيقة لا تغني من الحق شيئا، وإنما نسوقه لنبرئ دين الله من الجرائم التي أرتكبت باسمه وباسم أنبيائه الذين أتوا جميعهم رحمة للعالمين . – باحث إسلامي