يستقبل المسلمون عبر العالم ذكرى عاشوراء بطقوس وتقاليد متناقضة. وبين طقوس الاحتفال والفرح التي دأب عليها معظم المسلمين السنة، ومراسيم العزاء والبكاء وجلد الذات التي يحييها المسلمون الشيعة كل عام تضيع حقائق الحدث التاريخي الذي وقع في عاشوراء.. هذا الحدث الذي يجهله أو يتجاهله فريق من المسلمين، وينحرف بمعانيه ودروسه فريق آخر. فما الذي حدث في عاشوراء على وجه التحقيق؟ ولماذا يتم تغييب هذا الأمر عن الكثير من المسلمين؟ وكيف نستفيد من دروس عاشوراء بنباهة واعتدال؟ عاشوراء..الحدث لا يختلف المسلمون على مكانة الإمام الحسين (ع) من النبي (ص)، فهو حفيده من ابنته فاطمة الزهراء وابن عمه وصهره علي بن أبي طالب (ع)، وهو فوق ذلك مع أخيه الحسن (ع) قرتا عينه (ص)، فقد كان شديد التعلق بهما حيث ورد في ذلك الكثير من الأحاديث، نذكر منها قوله يوما لأصحابه (ص): "إن ابني هذين ريحانتي من الدنيا"، وفي حديث آخر: "الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة"، وعن سلمان (رض) أنه سمع النبي (ص) يوما يقول: "اللهم أني أحبهما فأحبهما وأحب من أحبهما"، وقد روى يعلى العامري في مسند أحمد عن النبي (ص) أنه قال: "حسين منّي وأنا منه، أحبّ اللهُ من أحبّه، الحسن والحسين سبطان من الأسباط"1. هذا الحفيد العزيز وهذا السبط الذي جاء من رحم الدوحة النبوية سوف يكون ضحية لمجزرة همجية قادها ضده الجيش الأموي بأمر من يزيد بن معاوية أحد أعتى الطغاة الذين عرفتهم الدولة الأموية، فقد تولى ثلاث سنين بعد أن عهد له أباه معاوية بن أبي سفيان بعد اغتيال الإمام الحسن (ع)، فقتل في عامه الأول الإمام الحسين (ع) بكربلاء، واستباح حرمة المدينة في حملة انتقامية من الأنصار خلال العام الثاني، ورمى أحد قواده الكعبة بالمنجنيق في العام الثالث، ومازلنا نجد اليوم من يحاول تبرئة ساحته من هاته الجرائم التي بقيت أبد الدهر وصمة عار في جبين الأمة الإسلامية؟؟ لماذا خرج الحسين (ع)؟ من بعض علماء السنة كابن العربي في العواصم من القواصم من يحاول أن يحمل الحسين (ع) مسؤولية مقتله، حيث ورد في كتابه بما معناه أن الحسين قتل بسيف جده، وقد استند في هذا الرأي على بعض الأحاديث التي روجتها الدعاية الأموية بعد مقتل الإمام (ع) بكربلاء، كحديث "إنه ستكون هنات وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنًا من كان".. لكن الإمام الحسين (ع) لم يكن طالب سلطة، ولم يخرج إلا لإقامة العدل في دولة الإسلام ورفع الظلم وإعادة الحقوق المسلوبة إلى أصحابها بعد أن بالغ الأمويون في تجبرهم وتعنتهم، وزادوا في التنكيل بخصومهم، حتى ضج الناس من بطشهم واستهتارهم بقيم الإسلام، حيث يقول (ع) في إحدى خطبه: "أيها الناس إن الرسول (ص) قال: من رأى منكم سلطانا جائرا، مستحلا لحرم الله، ناكثا لعهده، مخالفا لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغير ما عليه بقول أو فعل، كان حقا على الله أن يدخله مدخله. ألا وإن هؤلاء القوم –يقصد يزيد بن معاوية وحاشيته- قد أحلوا حرام الله وأحلوا حلاله، واستأثروا بالفيء، أظهروا الفساد وأنا أحق بهذا الأمر". وقد شخصت الأبصار إلى الإمام الحسين (ع) وعقدت الآمال على ثورته ليس فقط لأنه كان من أهل بيت الرسول (ص)، بل لأنه كان إماما بنص النبي (ص): "ابناي هذان (يقصد الحسين والحسين) إمامان إذا قاما أو قعدا"2، وكان يتسم بالشهامة وسعة النظر وعلو الهمة وكل الصفات المطلوبة في القائد والحاكم اللائق. وقد ظهر للناس فساد الحكم الأموي في عصر يزيد بن معاوية، حيث اجتهد معاوية بن أبي سفيان قبل ذلك في تكريس الإستبداد بسياسة القمع والترهيب التي أسس لها منذ توليه زمام الأمور. فقد خاطب أهل مكة يوما وقد كان فيها بقية من الصحابة وأغلب التابعين قائلا: "أقسم بالله لئن رد علي أحدكم كلمة في مقامي هذا، لا ترجع إليه كلمة غيرها حتى يسبقها السيف إليه"، وكان من تجاوزاته قتل الصحابي الجليل حجر بن عدي الكندي (رض) وقد كان سيدا مطاعا في قومه ومن خواص أصحاب الإمام علي بن أبي طالب (ع)، وذلك لأنه أنكر سب الإمام علي وأهل بيته في خطب الجمعة، وزاد بأن ولى قبل وفاته ابنه يزيد مع علمه بفسقه ورعونته على المسلمين في وجود جمع من خيار أبناء الصحابة وعلى رأسهم الإمام الحسين (ع) الذي كان ملتزما بالميثاق الذي أبرمه أخوه الإمام الحسن (ع) مع معاوية، فلم يخرج رغم الكثير من المحاولات التي قام بها عدد من الزعماء والقادة الذين قاتلوا مع أبيه في صفين، وقد كانوا يرون في صلح الحسن مذلة لهم، ولمسوا في الحسين تبرما من قبول هذا الصلح. لكن، ما إن توفي معاوية وبويع يزيد بالخلافة في رجب سنة 60ه/679م، حتى كتب يزيد إلى عامله على المدينة الوليد بن عقبة أن يأخذ الحسين وعبد الله بن الزبير بالبيعة أخذاً شديداً ليست فيه رخصة حتى يبايعا. وهكذا تدبر الحسين (ع) شأنه مع والي المدينة في خبر طويل ورحل عنها إلى مكة في جمع من أهل بيته وأصحابه دون أن يبايع يزيد بالخلافة. لكن السلطات الأموية كانت تترصده أينما حل، وكان من الممكن تدبير محاولة لاغتياله في مكة، لولا أن بدأت ترد عليه رسائل أهل الكوفة تحثه على القدوم إليهم وتعده بالنصرة وتسليم الأمر إليه، ليرسل ابن عمه مسلم بن عقيل إليهم لاستطلاع الأمر. هل خذل أهل الكوفة الحسين؟ من المشهور عند الكثير من المسلمين شيعة وسنة بأن أهل الكوفة قد خذلوا الحسين بعد أن وعدوه بالنصرة، لكن واقع الأمور لمن وقف على تفاصيل تلك المرحلة الحساسة في تاريخ الإسلام لا يوحي بهذا الخذلان المتعمد كما يحاول البعض أن يصوره، خاصة وأن الكوفيين قد قاتلوا مع أبيه في معارك حاسمة كالجمل وصفين واستشهد أغلبهم بين يديه وكان منهم أبرز القادة الذين ناصروا قضية أهل البيت (ع) كحجر بن عدي الكندي، وسليمان بن صرد الخزاعي، وميثم التمار وعمرو بن الحمق الخزاعي ومالك بن الحارث الأشتر النخعي وغيرهم. وقد اجتمع أغلب أهل الكوفة لمسلم بن عقيل في البداية، فأعطوا بيعتهم للحسين (ع) ودفعوا مسلما إلى حثه على التعجيل بالقدوم إليهم للقيام معه. وكذلك فعل عندما أرسل إلى الحسين قائلا في كتابه: "" أمّا بعدُ، فإن الرائد لا يكذب أهله، وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفاً، فعجّل الإقبال حين يأتيك كتابي هذا، فإنّ الناس كلّهم معك! ليس لهم في آل معاوية رأي ولا هوى، والسلام". لكن "الانقلاب" الذي قام به وبدهاء أحد أشرس قادة يزيد في الكوفة "عبيد الله بن زياد" قد فاجأ الناس وعطّل حركة الثورة. كيف سقطت الكوفة؟ بعد علمه بالتفاف الناس حول رسول الحسين مسلم بن عقيل قام والي الكوفة النعمان بن بشير الأنصاري يخطب في المسجد، فقال:"إني لا أقاتل من لا يقاتلني" لكن أحد رجاله (عبد الله بن مسلم الحضرمي) وكان حليفا لبني أمية، كان لديه رأي آخر، حيث أخذ على النعمان الضعف وقلة النظر، وكتب إلى يزيد في دمشق يعلمه بواقع الحال في الكوفة. وما إن علم هذا الأخير بما حصل حتى راسل عبيد الله ابن زياد وقد كان واليا له على البصرة فضم إليه الكوفة وأطلق يده في إرهاب القوم لثنيهم عن متابعة الحسين (ع). وهكذا دخل ابن زياد متنكرا إلى الكوفة وقام بالكثير من التعديلات الأمنية بعد أن عزل النعمان، ليشرع في تهديداته بخطاب إرهابي توعد فيه بالانتقام من كل من ثبت عنده خلعه لبيعة يزيد ونصرته للحسين. كما نشر الجواسيس لترصد حركات الكوفيين وبخاصة رؤوس القوم، واجتهد في نشر أخبار كاذبة عن قرب وصول جيش الشام إلى الكوفة. يروي أبو مخنف لوط –وهو من أشهر رواة الطبري- أن المرأة كانت تأتي ابنها وأخاها فتقول: "انصرف، الناس يكفونك" ويجيء الرجل إلى ابنه أو أخيه فيقول:"غدا يأتيك أهل الشام، فما تصنع بالحرب؟ انصرف، فيذهب به" حتى تفرق أغلب الناس عن مسلم بن عقيل. ولم يكتف ابن زياد بذلك بل إنه تتبع قيادات الشيعة الذين راسلوا الحسين وآووا ابن عمه مسلما، فقبض على هانئ بن عروة وضربه وزج به في السجن، وقبض على المختار الثقفي وعبد الله بن الحارث وسليمان بن صرد الخزاعي وإبراهيم بن مالك الأشتر. بل إنه قتل ميتم التمار بعد حبسه وصلب معه تسعة آخرون. وقد حاول مسلم بن عقيل تخليصهم من الأسر وحاصر بمن بقي معه قصر الإمارة إلا أن ابن زياد استمال إليه أشراف الكوفة بالوعد والوعيد وأفشل بدهائه خطة مسلم، واستطاع أن يسرب الخوف والفتور إلى أنصاره حتى تفرقوا عنه ليظفر به في النهاية، حيث قتله وبعث برأسه وبرأس هانئ بن عروة إلى اليزيد بالشام. هل كان الحسين يسعى إلى حتفه؟ لقد كان هذا من بين أبرز الإشكالات المفتوحة والتي خاض فيها قوم دون تحقيق و تمحيص لبعض الروايات التي نسبت إلى النبي (ص) تنبئ باستشهاد الإمام الحسين (ع) في كربلاء، حيث جعلوه (ع) عارفا بكل تفاصيل واقعة قتله قبل أن تحدث! فهل كان الحسين (ع) بالفعل على علم بما سيقع له؟ ولماذا خاطر بالنساء والأطفال في معركة كان يعلم أنها خاسرة؟ لقد كان الإمام الحسين (ع) ومنذ بداية مسيرته يهيء لأسباب النصر، وهو أمر بديهي يمليه عليه تكليفه كإمام. فقد أرسل ابن عمه مسلم بن عقيل ليستطلع أحوال الكوفة، ولم يتحرك حتى وصله كتابه يحثه على الخروج. وقبله وصلته كتب لرؤوس القوم من زعامات وأشراف الكوفة يقدمونه عليهم ويعدونه بالنصر وخلع بيعة الأمويين. وحتى بعد أن أرسل ابن زياد فيلقا من الجيش لحصار الحسين وهو في طريقه إلى الكوفة بقيادة عمرو بن سعد حاول الحسين إقناع هذا الأخير بالالتحاق به. بل كان من الممكن أن تسقط الكوفة في أيدي شيعته لو وصل الحسين (ع) إليها قبل ابن زياد، أو نجح مسلم بن عقيل في حصاره لقصر الإمارة ولم تنطل حيل ابن مرجانة على عوام أهل الكوفة. وقد أتيحت لمسلم فرصة لاغتيال عبيد الله ابن زياد في دار هانئ بن عروة عندما كان مريضا وقد عاده عند وصوله قبل أن يقبض عليه بتهمة التآمر مع أنصار الحسين (ع) لكنه لم يشأ أن يغدر به تقيدا بأخلاق الإسلام التي تنكر لها خصومه. لكن انقلاب أحوال الكوفة بعد بطش ابن زياد بأهلها وحبسه بل وقتله لبعض زعمائها الذين بايعوا الحسين (ع)، هو ما حال دون هذا الانتصار. وحسب تسلسل الأحداث فإن الحسين (ع) لم يقف على تبدل هاته الأحوال وسقوط الكوفة حتى بدأت الأخبار تتسرب بعد خروج عدد من أنصاره منها خوفا أو طلبا للسلامة. فمما يروى أن الفرزدق الشاعر، قد لقي الإمام الحسين (ع) في طريقه بعد أن خرج من الكوفة، فسأله الإمام: كيف تركت الكوفة يا أبا عبد الله؟ فأجابه الفرزدق: تركت قلوب الناس معك وأسيافهم عليك! والقضاء ينزل من السماء والله يفعل مايشاء. عندها أيقن الحسين بإخفاق مشروع ثورته، ولأنه (ع) لم يكن من طلاب الدنيا، ولأن خروجه كان للحق ومن أجل إقامة دولة العدل وإعادة الأمور إلى نصابها، فهو لم يكتم هذا الخبر على من كان معه بل قام فيهم خطيبا وبلغهم بما جرى في الكوفة، بل وخيرهم بين الاستمرار معه في معركة قد حسمت نتيجتها، أو العودة إلى ديارهم سالمين. وقد كان هذا أول اختبار لأتباعه، حيث تفرق عنه كل من كان يطمع في نجاح هاته الحركة ليصيب شيئا من الدنيا، وقد كان أغلبهم يطمع في غنيمة بعد نصر يسير، وما جلبهم إليه إلا صيته (ع) في المسلمين ومكانته من الرسول (ص). ولم يبق معه إلا المخلصين من أصحابه وأهل بيته ونساؤهم. آنذاك قال الحسين (ع) كلمته المشهورة: "الناس عبيد للدنيا، والدين لعق على ألسنتهم ما درت معايشهم، فإن هم محصوا بالبلاء قل الديانون"، وعندها أيقن بالشهادة وبدأ في إعداد من معه إلى استقبال الموت بيقين المؤمن الصابر والمبتلى، حيث توجه إلى أصحابه قائلا: "إني لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا برما"، ورفض الإستسلام الذي عرضه عليه عمرو بن سعد بشروط مذلة منتفضا في كلمته المشهورة: "ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين، بين السلة (القتال) والذلة (الإستسلام)، هيهات منا الذلة"، ليسطر التاريخ إحدى أقوى ملاحمه الخالدة التي أعطت دروسا في الصبر والابتلاء والتصدي للظلم والقهر للأجيال اللاحقة التي تتطلع إلى التغيير3. أما ما يردده بعض وعاظ الشيعة على المنابر الحسينية، مما جاء في بعض المرويات بأن أي إمام لا يعلم ما يصيبه وإلى ما يسير فليس ذلك بحجة لله على خلقه4! وبأن الحسين (ع) كان يعلم بمصيره قبل أن يخرج، فذلك مما يخالف قوله تعالى: "قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم" (سورة الأحقاف-9). والكثير من المرويات والأحاديث التي تروج حول تفاصيل الأحداث التي وقعت في كربلاء ومأساة عاشوراء، إنما زيدت في مجالس العزاء عندهم للتأثير على الناس ودفعهم إلى البكاء أو التباكي مما ينحرف بهم في الكثير من الأحيان عن أهداف ثورة الإمام الحسين (ع) والدروس التي يجب استلهامها من هاته الواقعة الأليمة في تاريخ الأمة الإسلامية. تداعيات مقتل الإمام الحسين (ع) لقد كان لمقتل الإمام الحسين (ع) وأصحابه في كربلاء تداعيات خطيرة على النظام الأموي وعلى الأمة قاطبة. فقد فضحت حركة الحسين فساد رموز السلطة الأموية، وعرت عنهم ثياب الإسلام التي كانوا يتسترون بها أمام عامة المسلمين، خاصة بعد أن علم الناس بتفاصيل المجزرة ممن نجا منها من أهل بيت الحسين (ع). فكان ذلك أكبر ثلمة في الإسلام ووصمة عار في جبين الأمويين. خاصة وأن محرم الذي وقعت فيه هاته المأساة كان يحرم فيه القتال وفق أعراف العرب في الجاهلية، ليستحل فيه الأمويون دماء وحرمات أهل بيت الرسول (ص). روى الطبري أن زيد بن أرقم خرج من مجلس عبيد الله بن زياد وهو يقول: "أنتم يا معشر العرب، العبيد بعد اليوم، قتلتم ابن فاطمة وأمرتم ابن مرجانة، فهو يقتل خياركم ويستعبد شراركم، فرضيتم بالذل، فبعدا لمن رضي بالذل". وهكذا، كان لابد من انتظار ردود الأفعال التي انطلقت من الكوفة نفسها التي كانت تستعد لاستقبال الإمام وأهل بيته وأصحابه، حيث قام سليمان بن صرد الخزاعي واستقطب كل من ندم على تقاعسه في نصرة الحسين وسمى حركته بالتوابين الذين قتلوا عن آخرهم في مواجهة مفتوحة مع الجيش الأموي، ومن ذلك انتفاضة أهل المدينة وخلعهم لبيعة يزيد الذي أباحها لجيشه الذي عاث فيها فسادا لمدة ثلاثة أيام، لتتوالى بعد ذلك الثورات على النظام الأموي من قيام عبد الله بن الزبير في مكة، إلى حركة المطرف في المدائن، إلى ثورة المختار بن عبيد الثقفي التي انتقم خلالها من كل قتلة الإمام الحسين (ع)، إلى ثورة القراء في العراق..لينقطع حبل الوصال بين الأمة وعلمائها من جهة وبين الحكام وحاشيتهم من ذوي النفوذ والوعاظ المأجورين من جهة أخرى. حيث أشعلت ثورة الحسين فتيل كل هاته الحركات والثورات التي كانت تنهل من تفاصيلها ومعانيها وتدعو إلى الإنتقام ممن تسبب في مأساتها إلى أن خرج العباسيون الذين سطروا نهاية الحكم الأموي في بلاد المشرق. محاولات لطمس مأساة عاشوراء ما إن أدرك الأمويون خطورة إقدامهم على قتل حفيد رسول الله (ص) ووقع ذلك على الأمة الإسلامية، حتى شرعوا في طمس معالم جريمتهم بكل الوسائل والسبل، خاصة بعد أن قادت زينب أخت الحسين (ع) حملة واسعة للتشهير بهم وهي التي شهدت ما وقع في كربلاء، حيث أقدم الجيش الأموي على منعهم من الماء ورشق خيام النساء بالسهام، وبعد أن أجهزوا على كل الرجال وقتلوا الإمام الحسين (ع) قطعوا رؤوس الجميع ورفعوهم على الرماح وساقوا القافلة بمن تبقى فيها من النساء وبعض الأطفال (وفيهم علي بن الحسين الملقب بزين العابدين، وقد نجا من القتل لأنه كان مريضا) إلى الشام، ليشفي يزيد غليله ويفرح بانتصاره على بقية الرسول (ص). وهكذا صدرت الأوامر للوضاعين لاختلاق أحاديث ومرويات في فضل يوم عاشرواء لتبرير مظاهر الفرح والسرور التي عمت الشام التي غرس بها الأمويون ولاءهم في الناس، فمن تلك الأحاديث والمرويات التي جمعها ابن الجوزي في كتابه "الموضوعات" وبين وضعها؛ أن يوم عاشوراء يوم تاب الله فيه على آدم، واستوت فيه سفينة نوح على الجودي، ورد الله الملك على سليمان، وفلق البحر لموسى وأغرق فرعون وقومه، وبعث زكرياء رسولا وتاب على يونس وكشف ضر أيوب.. ومن ذلك حديث: "من وسع على نفسه وأهله يوم عاشوراء وسع الله تعالى عليه سائر سنته" ومن ذلك: "من اكتحل بالإثمد يوم عاشوراء لم يرمد أبدا" وغيرها من المرويات الموضوعة والتي لاقت للأسف قبولا كبيرا لدى العامة، فأصبح من عادات أغلب المسلمين (خصوصا من أهل السنة) الإحتفال بأيام عاشوراء وكأنها أيام عيد، مع أنها أيام انتهكت فيها حرمة أهل بيت النبي (ص) وقتل فيها أحب الناس إليه بعد أن خرج من أجل الإصلاح في أمة جده. قد يعترض البعض على ما يفعله بعض الشيعة في إحياء مراسيم عاشوراء من أفعال التطبير (جلد الذات) والنواح وغيرها، وهي أمور حرمها الكثير من مراجعهم5. لكن التغاضي عما حدث لأهل بيت الرسول (ص) خلال هاته المناسبة، أو الفرح والإحتفال الذي ما زال يبرره الكثير ممن يسمون أنفسهم علماء وهم إنما يرددون دون وعي وتحقيق ما دسه الأمويون في تراثهم من أكاذيب وترهات ليعد بحق من أكثر الإنحرافات والمزالق التي وقعت فيها الأمة، لأن ذلك لم يكن يعني عند الأمويين إلا التشفي في مآل أهل بيت الرسول (ص) بقتل الإمام الحسين (ع) وإفشال ثورته على الطاغية يزيد. ولا يعني اليوم أيضا لمن وقف على هذا الحدث وعلم بتفاصيل هاته المأساة إلا ذلك! فمتى يتوقف المسلمون لإعادة النظر في الكثير من تمثلاتهم العقدية وطقوسهم الموروثة، وهل نملك فعلا الجرأة للتحقيق في ذلك، أم أننا سنظل نردد الجواب الذي كان يتلقاه الأنبياء من أقوامهم: " بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون" (الزخرف-22). هوامش: 1 -يمكن الوقوف على هاته الأحاديث وغيرها في المتون السنية لدى كل الفرق الإسلامية على اختلافها. 2- حديث متفق عليه بين المسلمين: صرّح بذلك الخزّاز في كفاية الأثر (ص117) من حديث أبي أيّوب الأنصاري، وابن شهر آشوب في المناقب (3 : 394) وقال: أجمع عليه أهل القبلة، ورواه مجد الدين في التحف (ص 22)، ورواه الناصر في ينابيع النصيحة (ص237) وقال: لا شبهة في كون هذا الخبر مما تلقته الأمة بالقبول وبلغ حدّ التواتر فصحّ الاحتجاج به. 3- للوقوف على تفاصيل أحداث كربلاء يمكن الإطلاع على كتب التاريخ المعتبرة عند المسلمين كتاريخ الأمم والملوك للطبري وأنساب الأشراف للبلاذري والطبقات الكبرى لابن سعد وتاريخ اليعقوبي.. 4- أنظر الكافي للكليني، ج1، ص258. وهو حديث ضعيف لأن في سنده عبد الله بن قاسم الحضرمي الكذاب. 5- من المراجع الدينية التي ورد نهيها عن التطبير؛ آية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي، والإمام الخميني، وآية الله العظمى الشيخ محمد علي الأراكي، وزعيم الطائفة الراحل السيد محسن الحكيم (ق.س) حيث قال: "إن هذه الممارسات ليست من الدين ومضرة بالمسلمين، ولم أر أي واحد من العلماء عندما راجعت النصوص والفتاوى يقول بأن هذا العمل مستحب، يمكن أن نتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى، إن قضية التطبير هي غصة في حلوقنا". *باحث في اختلاف المذاهب الإسلامية [email protected] www.sarhproject.com