المسلسلات المدبلجة نموذجا إن حالة الوعي بأن اللغة هي وعاء الفكر وخزان التجارب و التمثلات وأنه عنوان الانتماء إلى دائرة الكينونة وأنها أي اللغة هي وحدها الكفيلة بتحقيق شرط الوجود الإنساني في بعديه التاريخاني والرمزي هي ما يجعل من اللغة في أبعادها الدلالية والتداولية قيمة الوجود الإنساني العاقل القائم على حرية الاختيار بمعنى يعنيه هذا كون الإنسان مكلف و مسؤول أمام تصرفاته وأفعاله وهذا أسمى المقامات التي خصها الله لعباده، وتأسيسا على مباحث الفيلولوجيا وإنجازات اللسانيات بمختلف مدارسها من بنيوية و وظيفية وكلوسيماتيكية وتحويلية حول ماهية اللغة وطبيعة الوظائف التي تلعبها أثناء عملية التواصل الاجتماعي فإن اللغة تشكل هنا معالمها بشكل اعتباطي في التوجيه والسيادة بما يعني ذلك أن للغة سلطتها المؤثرة والفاعلة في تشكيل الوعي الجمعي بلغة دوركهايم تبعا لطبيعة الحمولات الذهنية التي تكتنزها وكذلك الرموز والعلامات التي تستبطنها، ولهذا إذا ما حاولنا أن نفكك طبيعة العلاقة الجدلية التي تربط كل مجتمع بنسق العلامات التي يتداولها فإننا لا محالة سنجد اختلافا في التجارب والرؤى والتطلعات المستقبلية وأيضا القيم المادية والروحية التي تميز أي لسان عن باقي الألسن، و هذا ما جعل مفكرا كبيرا من طينة ميخائيل باختين في سياق حديثه عن العلامة بصنفيها اللساني والغير اللساني إجمالا يدعو إلى عدم فصلها عن الايديولوجيا وعن الأشكال المحسوسة للتواصل الاجتماعي في سياقاتها وأسسها المادية المحضة، الأمر الذي يدل على أن اللغة ليست بريئة أو مجتزأة عن الواقع المادي للإنسان بل هي الوسيلة الممكنة لتفسير وتأويل الواقع وأنها أي اللغة الأداة الناجعة كما يقول الدكتور منذر عياشي التي نستطيع من خلالها نقل الأفكار من مجردها إلى صيغتها، و المعتقدات من غيابها إلى حضورها، و التصورات من تخيلها إلى تمثيلها، مما يجعلها سلاحا ذو حدين إما أن تكون الحد الأول الذي يوصل إلى الحق والحقيقة، وإما أن تكون الحد الثاني الذي يوصل إلى الوهم و التضليل، وما دامت أتحدث هنا عن اللغة، عن محوريتها وعن معاييرها في التواصل الاجتماعي أريد أن أناقش وبما يسعفني من مناهج و معارف متواضعة مسألة المسلسلات المكسيكية والتركية المدبلجة التي أصبحت تعج بها تلفزتنا الموقرة، و هنا لابد أن أشير إلى مجمل البراديغمات التي تتم من خلالها عملية الإسقاط بواسطة اللغة، وأبدا بالطبع بالشخصيات الممثلة لما لها من قوة التأثير والحضور في لاوعي المشاهد ولعل المشاهد والمشاهدة المغربية عندما ينطق اسم من قبيل مانويلا وأليخاندرو و رودريغو و مارتين وروزاليندا و جوليا و بيير فإنه يصبح جزءا من ذات وكيان المشاهد بطريقة لاشعورية وبشكل متوهم بالشكل الذي يفضي إلى تشابك وتداخل بين شخصية الممثل وذات المشاهد الأمر الذي ينتج عنه خلق حالة من الانشداد المرضي بشخصية الممثل و بالتالي محاولة المشاهد أو المشاهدة وبشكل لا إرادي التملص و التخلص من ذواتهما وحلولها في شخصية الممثل، وهذا ما يبدو جليا من خلال معاينة مختلف المظاهر الاجتماعية لدى الشباب والتي أصبح يطغى عليها طابع التشبه وتقليد نجوم المسلسلات المدبلجة في حركاتهم وسكناتهم، في تصفيفات شعرهم وفي طريقة لباسهم، هذا دون أن ننسى تهافت الفتيات ووقوعهن في أسر حب من هو أقرب شبها لبطل المسلسل الفلاني، ويا له من حظ لا يقدر بثمن!؟ وإذا ما انتقلنا إلى قوة وسحر المكان الذي تجري فيه أحداث المسلسلات، الفيلات الفاخرة، المدن العملاقة، السيارات الفخمة والحياة الثرية التي يعيشها البطل فإنه بمجرد تكرار أسماء أمكنة في مسامع المشاهد أو المشاهدة من قبيل مكسيكو سيتي، فلوريدا، تكساس، سانت دياغو وغيرها حتى يتحول المكان هنا إلى بؤرة و مكان نفسي مأزوم يتمخض عنه ضياع أنطولوجي خطير لدى المشاهد، ضياع لا يتم قهره و التغلب عليه إلا بالهروب إلى الأمكنة الساحرة والجذابة التي تصورها المسلسلات حيث الرفاهية والدولار والجنس وكل مباهج الحياة الأمر الذي تنتج عنه ردة فعل قهرية ليس فقط حيال المكان الذي يختزل كل أشكال القهر والقسوة والكبت والرتابة بل ضد كل ما يمت له بصلة، أناسه، تاريخه وقيمة مادامت لا تلبي ولو جزءا يسيرا مما وفرته لبطل المسلسل من متعة ومن جاه، وهكذا إذا ونظرا لما تحمله اللغة من علامات سيميائية ذات أبعاد حضارية وثقافية وروحية فإن مسألة الاتصال والانفصال بين اللغة ومحيطها الاجتماعي تعد من أصعب الرهانات المجتمعية لمعرفة درجة وعي المجتمع بجذوره الحضارية وبكينونته الوجودية وبالتالي إدراكه الحقيقي لهويته الفكرية ولسيادته اللغوية بما تعنيه هنا الهوية والسيادة العمل على حماية وتحصين الذات والذاكرة من كل أشكال المسخ والاستلاب التي أصبحت تفرضها المسلسلات المدبلجة بلغة هي لغتنا وبقيم هي قيم غيرنا الأمر الذي يؤدي إلى حدوث شبه انفصام بين رمزية اللغة وكثافة الواقع المطابق وبالتالي وقوع ازدواجية في شخصية الإنسان المغربي الضائع أصلا بين مشاريع الرجعية و مخططات الامبريالية * كاتب مغربي [email protected]