من أصل ثلاثين ألف مصاب بالسرطان، تمت معالجة فقط 12 ألف، حسب تقرير مغربي صدر سنة 2004. البقية تُركت تعاني في صمت إلى أن رحل الكثير منها. لا تسأل عن آلامهم، فالبنية الصحية لا زالت تعاني في المغرب، وفق اعترافات رسمية، حتى بالنسبة لمن لا يعانون من أمراض مستعصية، أما من تأكد الطب من وفاته، مع استحضار مقولة إنّ الأعمار بيد الله، فذلك حديث آخر لم يتم بعد استهلاله بالمغرب. قبل أيام قليلة، نشرت هسبريس مقالاً يسرد مقارنات بين المغرب وفرنساً في العناية الخاصة بالتخفيف من الآلام لمن يعانون من أمراض حتمت رحيلهم، فكان لنا اليوم لقاء مع الدكتور المعطي نجمي، الذي قضى أزيد من عقدين، في محاولة إقناع السلطات المعنية، بضرورة التفكير في معاناة "آخر العمر"، ما دامت "الرعاية التلطيفية" حقٌ من حقوق الإنسان حسب ما جاء وثيقة براغ التي تبنتها منظمات حقوقية عالمية. هو رئيس الجمعية المغربية لمحاربة الألم والعلاجات التلطيفية، تخصّص منذ بدايات عمله في الإنعاش والتخدير، حيث عمل بمستشفى ابن سينا بالرباط، ثم المعهد الوطني للأنكولوجيا، قبل أن يتقاعد ويعمل في الميدان الخاص. يتحدث في هذا الحوار، عن كفاح طويل يبتغي التخفيف مِن معاناة مَن يصارعون الموت، وعن مادة اسمها المورفين، وعن أطباء يجرون عمليات جراحية لأجل المال فقط. لماذا كل هذا الاهتمام بالرعاية التلطيفية وبالتخفيف من آلام الآخرين؟ المعروف أن المريض يقصد الطبيب عندما يعاني من ألم ما، لكن بكل صراحة ليس كل الأطباء يبحثون عن إنهاء هذه الآلام. قبل سنوات عديدة، اقترح عليّ زميل فرنسي القيام بتحقيق عن الألم الجسدي بالمغرب، وهالني أن أصل لنتائج تؤكد أن أزيد من ثلثي الاختصاصيين في المغرب، يجهلون أن منظمة الصحة العالمية، أوصت سنة 1986، باستعمال مادة المورفين لتخليص الناس من آلامهم الجسدية. هذا التحقيق الذي قمت به قبل عشرين سنة من الآن، أكد لي أن مرض السرطان استشرى بشكل كبير في أجساد المرضى لدرجة استحالة العلاج، وهو ما أكده تقرير خاص بهذا الداء تمّ إنجازه بالدار البيضاء سنة 2004، يتحدث عن أن 12 ألف حالة فقط من يتم علاجها، وذلك من أصل 30 ألف حالة مصابة بالسرطان في المغرب. وما يزيد من خطر هذه الأمراض، أن تقريراً للمنظمة العالمية للصحة، أكدّ وفاة 12 ألف مغربي بالسرطان و750 مريض بالسيداً عام 2011، وأن 80% ممّن توفوا بالسرطان، لم يستفيدوا من أيّ علاج تلطيفي. هل العناية التلطيفية خاصة فقط بمرضى السرطان، أم لكل أنواع الأمراض المستعصية؟ لكل هذه الأمراض، فنحن نوصي بالرعاية اللازمة لمرضى القلب، الأمراض الصدرية، القصور الكلوي، السيدا، الأمراض العصبية..، نوصي بأن يَعالج باستخدام المورفين كل مريض يعاني من آلام مرض مستعصي العلاج. هل تتوافر هذه المادة بالمغرب؟ توصي منظمة الصحة العالمية بضرورة أن يتوافر مخزون من هذه المادة يصل إلى سبعين كيلوغراماً، إلّا أنه لا يزيد عند مديرية الأدوية والصيدلة عن سبعة كيلوغرامات، وهي كمية غير كافية بتاتاً للتجاوب مع حالات المرضى. ولكنّ المورفين لديه مجموعة من الآثار السلبية، كما ورد في بعض التقارير الصحية؟ نعم، فالأكيد أن المورفين لديه سمعة سيئة بسبب عمليات التهريب التي تحدث، وبسبب عدم مراقبة عملية توزيعه أو استهلاكه دون استشارة طبية. من هذا يجب ألّا يتم بيعه في الصيدليات إلا وفق وصفة طبية دقيقة تُوضّح حاجيات المريض، وتبيّن المدة التي ينبغي عدم تجاوزها. حالياً، تمكننا في المغرب من جعل مدة استهلاك هذه المادة تصل إلى 28 يوم، علماً أنها لم تكن تتجاوز سبعة أيام في السنوات الفارطة. هل يدرس طلبة الطب والتمريض أساسيات "الرعاية التلطيفية"؟ للأسف لا يوجد لدينا في المغرب أي نظام تعليمي من هذا النوع، سواء في التكوين الأساسي أو المستمر، وليس المغرب وحده من يعاني من هذا الغياب، فغالبية الدول النامية لا تعطي أيّ قيمة لعلاج آلام مواطنيها. ولكن ألا ترى أن للدولة الحق في الاهتمام أكثر بمن لم يؤكد الطب قُرب وفاتهم، خاصة في ظل بنية صحية هزيلة تعاني من مشاكل كثيرة؟ لا يمكن لطبيب يحترم مهنته أن يسمح بذلك، لا يمكن تفضيل إنسان على آخر فقط لأن الثاني سيموت قريباً. يجب أن نعي أن منظمات حقوقية، كمنظمة هيومان رايتش وواش، ترى أن عدم تقديم المساعدة للمرضى الذين يعانون من آلام حادة، يساوي التعذيب تماماً. المعروف أن مثل هذه الآلام لا تتوقف لدى الأشخاص الذين يعيشون أيامهم الأخيرة، فهناك آلام تصحب مرحلة ما بعد العمليات الجراحية؟ نعم، وللأسف فالطاقم الطبي لا يعيرها أيّ اهتمام بقدر ما يهتم لنجاح العملية الجراحية. الخطير في الأمر، أن هناك آلاماً لا تظهر إلا بعد سنوات من أجل العملية، وبالتالي فالرهان الذي على الأطباء حالياً التفكير فيه، هو إجراء جراحة سالمة لا تسبب آلاماً في مرحلة لاحقة. عندما كنت أشتغل في المستشفى، كنت أجد أن حوالي 75% من المرضى الذين يجرون عمليات جراحية، يعانون من ألم لمدة يومين على الأقل، وذلك نتيجة غياب الأدوية التي تخفف عنهم. وما حديثك عن الآلام التي ترافق مجموعة من الأمراض المنتشرة في المغرب، والتي يعجز الأطباء في الكثير من الأحيان عن علاجها، ومنها مرض عرق النسا الذي يُعرف في الدارجة المغربية ب "بوزلوم"؟ أنا كنت على الدوام ضد الجراحة فيما يخصّ هذا المرض، فهناك مجموعة من التوصيات التي تؤكد على ضرورة علاج هذا المرض بالأدوية ومنها المورفين، وتستبعد التدخل الجراحي إلّا في حالات قليلة ونادرة. لكن للأسف، الكثير من الأطباء المغاربة يقومون بالجراحة فقط لأنها تمكّنهم من ربح مادي، حتى ولو كانوا يعلمون أنها ليست الحل، خاصة بالنسبة لمرض كعرق النسا. وتصريحاتي الدائمة بعدم اللجوء إلى الجراحة هي ما خلقت لي بعض المشاكل مع مجموعة من الجراحين المغاربة. لماذا لا يفكر المغرب في تكوين بسيط للأسر يسمح لها بتقديم الإسعافات البسيطة لأفرادها الذين يسقطون ضحايا مثل هذه الآلام؟ هذا أمر مطلوب وملح، فلا يكفي تكوين الأطباء والممرضين على العلاجات التلطيفية، بل كذلك أفراد الأسر، لأن المريض يبقى في غالب الأحيان بالبيت، ويحتاج إلى رعاية دائمة، ونظراً لأن المغرب لا يوّفر إمكانية التطبيب المنزلي، فإيضاحات بسيطة للأسر حول كيفية التعامل مع مرضاها، ستكون لها بالغ الإفادة. هل تنحصر فائدة العلاجات التلطيفية على المرضى وعائلاتهم فقط؟ بل كذلك على الدولة، فمادياً لا يكلف "المورفين" الشيء الكثير، كما أن العلاجات التلطيفية تجعل الدولة تقتصد في عدد المرضى الذين يرقدون بالمستشفيات العمومية، لأنني أدرك أن هناك العشرات منهم ممّن لا فائدة تذكر من بقائهم في المستشفى، ويرهقون أسرهم وكذلك الدولة. أما لو تم نقلهم إلى منازلهم، وتم السهر على تطبيبهم هناك، فالأكيد أن النتيجة ستكون إيجابية للجميع. وماذا يحول دون القيام بهذه الخطوة؟ القانون، فلحد الآن لا وجود لقانون مغربي يلزم الأطباء بتتبع حالات المرضى داخل منازلهم، والدولة لم تعترف بعد بالتطبيب المنزلي، بل حتى الضمان الاجتماعي لا يتيح للطبيب العمل في فضاءات خاصة بالمرضى. في فرنسا مثلاً، هناك حالات مرضية تستدعي من الطبيب أو الممرض زيارتها مرة واحدة كل يوم، وهو ما يسمح به القانون الفرنسي. قد لا توجد المعيقات في العوامل التي ذكرت لوحدها، فهناك معتقدات دينية بأن الألم في الأيام الأخيرة للموت، شيء عادي، بل هناك من يشير إلى أن "سكرات الموت" التي تحدث قبل الوفاة محمودة؟ من الناحية الإنسانية، لا يمكن السماح بتألم أي فرد قبل الموت، ومن يقول مثل الكلام الذي ذكرته، لا يعرف المعاناة التي تقع للإنسان المريض خلال لحظاته الأخيرة. صراحة عاينت خلال مسيرتي كطبيب، مجموعة من الأطفال الصغار الذين توفوا في هذا العمر المبكر، وكيف يعانون لدرجة أنهم لا يستطيعون حتى الصراخ، فهل حتى هؤلاء يتركون للموت دون أيّ تدخل؟