في تحول السلطة المعرفية ملاحظات حول التفوق الانثوي في الامتحانات الإشهادية لعنا لا نبالغ إذا قلنا أننا دخلنا في عهد جديد، سمته الأساسية هي الثورة النسائية الصامتة، والتي لها من الأسباب والمسببات الشيء الكثير، لكننا في هذا الحوار، سنتوقف عند أهم معطى برز في الآونة الأخيرة، وهو ما يمكن ان نسميه ب"ظاهرة التوفق الأنثوي في امتلاك المعرفة". وللاشارة فإن هذه الظاهرة لا تقتصر على المغرب لوحده، أو العالم العربي، بل هي ظاهرة عالمية، بدليل التقييمات التي يسهر عليها الجمعية الدولية للتقويم والتحصيل الدولي « IEA » ، الخاص بمؤشر القراءة « PIRLS » ،والمؤشر الخاص بالعلوم (الرياضيات والنشاط العلمي والفيزياء وعلوم الحياة والأرض« TIMSS »)، خصوصا في سنة 2011، تبين أن هناك تفوقا أنثويا بارزا. وفي المغرب وصل الفارق إلى 30 بالمائة لصالح الفتيات. فكيف يمكن تفسير ذلك سوسيولوجيا؟ بالرغم من قلة الدراسات السوسيولوجية في هذا لمجال، فإن ذلك لا يمنعنا من تقديم بعض الملاحظات والاستنتاجات الأولية، لتفسير الظاهرة. ففي المغرب في عقد الثمانينيات، كان قد أجرى الباحث التربوي، "عبد الكريم غريب"، دراسة حول "التخلف الدراسي"، توصل إلى أهم خلاصة، وهي أن نسبة الذكور أكثر تعرضا للهدر المدرسي، في مقابل الإناث. وفسر ذلك بالمحيط الاجتماعي الذي لا زال يشدد على الفتاة، اكثر من الذكر. وبالرغم من تقادم هذه الدراسة، لكن هذه النتيجة تظل صالحة لفهم جزء من سر تفوق الإناث على الذكور. وتسمح الملاحظة السوسيولوجية، من تأكيد هذا المعطى، فأغلب الأسر –سواء المغربية أو غيرها- تولي عناية فائقة في تربية البنات، وقد يصل الأمر إلى نوع من التشدد معهن، بالمقابل، يكون التساهل وفي بعض الحالات اللامبالاة من حظ الذكور. ولهذا تحرص الأسر على تقييد وقت الفتاة، بمجموعة من الواجبات، التي تصل إلى الواجبات المنزلية، مما يقلل من فرص الخروج من البيت، وتجد الفتاة نفسها في وضع يساعدها على التركيز في الدراسة. بينما العكس يحصل للذكور، إذ أغلب أنهم يقضون أغلب وقتهم خارج البيت، مما يشتت عليهم تركيزهم ويدخلهم في مجموعة من الاستمالات المغرية والشديدة التعلق بالنفس( كاللعب، ومشاهدة المباريات الكروية، والذهاب للسنيما، ومتابعة المهرجانات الفنية) والتي يحقق فيها الشاب ذاته ووجوده. بالإضافة إلى ما سبق، فإن المعاينات البحثية التي أجريناها مؤخرا، تسمح لنا بأن نتبين معطى جد هام، وهو أن الفتيات-بالرغم من تأخر التحاقهن بالمسارات الدراسية- فإنهن حاولن أن يثبن جدارتهن وكفاءاتهن، وذلك في نوع من التحدي لكل الإشراطات التي كانت ولا تزال تقف في وجههن. كالعوائق السوسيوثقافية، وما أشدها من عوائق. ولهذا فإن الانفتاح الذي لقيته المرأة في المجتمعات كلها، بما فيها المغرب، حقق طفرة في اكتساب المعرفة، والتي كانت حكرا على الرجال. ويمكن ان نستنتج أمرا آخر، وهو أن المرأة بطبيعتها، ربما تميل إلى نوع من الجدية والاخلاص والتفاني في العمل، ربما بشكل يفوق جدية الرجل وتفانيه، ولهذا تجد أن الفتاة، لا تعبأ بالمجهود الذي تبذله في سبيل تحقيق أهدافها، لانه نوع من من انتصار على الذات ، وأيضا على المحيط السيوسيوثقافي، وكانها تريد أن تقول، بأنني –رغم الضعف البيولوجي الذي قد يظهر علي- فإنني قادرة على تحويل ذلك إلى قوة خارقة. ولعل هذا ما حصل في تاريخ المدرسة المغربية، حيث تؤكد النتائج سنة بعد أخرى، أن تطور النتائج الاشهادية بدأ يشهد تفوقا لصالح الفتيات. ثانيا: ما هي تداعيات هذه النتائج على شكل العلاقات الاقتصادية والاجتماعية؟ بداية، وجب أن نعلم أن من بين الموارد التي يكثر حولها الصراع ليس داخل المجتمع الواحد، بل حتى بين المجتمعات المختلفة، هي المعرفة. وإذا كان هذا المورد من احتكار الرجال فيما مضى، فإن المعطيات السوسيولوجية، بينت أن المرأة استطاعت أن تحقق تحولا لصالحها، وهذا يظهر في تحول امتلاك الثروة، حيث أصبحت المرأة –بفضل مكانتها الاجتماعية والمهنية- تؤمن جزء من الثروة لأسرتها الصغيرة، وللمجتمع ككل. حيث تمكننا المعطيات الصادرة مؤخرا على المندوبية السامية للتخطيط، أن "الأسر التي يديرها الرجال تحصل على مداخيل أكثر من تلك التي تحصل عليها الأسر التي تديرها النساء، إلا أن حجم الأسر التي يديرها الرجال كبير، مما يجعل الدخل الفردي شبه متساوي.(البحث الوطني حول معيشة الاسر،2009). من جهة أخرى، كان للتفوق النسائي في الدراسة، تأثير على بنية الوظائف الحكومية، وهو ما تبينه النتائج التالية: حيث أن عدد الموظفات وصل سنة 1999 إلى 33.2 %من مجموع مستخدمي الدولة مقابل 28 % سنة 1984 و31.7 % سنة 1995 ، إذ أن المرأة موجودة في جميع الوظائف مع تكتل خاص في قطاع التربية الوطنية والصحة ، حيث تمثل المرأة ثلث موظفي وزارة التربية الوطنية ب ( 32.7 % ) والتعليم العالي ب (32.9% ) وبنسبة أقل بوزارة الصحة العمومية . على أن هذه النسبة عرفت ازديادا مطردا بعد سنة 1999 ، حيث بلغت نسبة النساء الموظفات في الإدارات الحكومية والبلديات سنة2011 ، 37.5 % من مجموع موظفي الدولة ، شكلت الموظفات العازبات منهن38.51% مقابل 57.42 % من المتزوجات و0.17 % من الأرامل. وأنا أعتقد بأن هذه النسب ستتغير في المستوى المتوسط والبعيد، فكليات الطب هي اليوم بصيغة المؤنت، وأيضا مدارس الهندسة وغيرها من المعاهد العليا، نجد نسبا هامة للإناث. وللإشارة، فبعض القطاعات الحكومية اليوم، يطغى عليها الجانب الأنثوي، نموذجا، نجد "المندوبية السامية للتخطيط". ماذا يعني ذلك؟ كل ذلك، يشهد على وجود مؤشرات على انقلاب في بنية المجتمع المغربي، لا تمس فقط النتائج الدراسية، بل إنها تطال كافة الحقول: الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، فتملك المرأة للمعرفة، يعني تملكها لبقية الموارد: السلطة (عبر التمكين للمرأة سياسيا)، وأيضا للثورة، وهو ما أشرنا إليها سابقا من كون المرأة لم تعد ذلك الكائن الذي يحتاج لمساعدة الرجل، بقدر ما هي التي تعول الرجل، وحتى الأسرة الصغيرة والكبيرة. وكذلك تملها للقيم، حيث أن قوة التحولات التي تمس البناء القيمي، جعلت المرأة محتفظة بجزء من مخزونها القيمي التي تنتجه وتعيد إنتاجه في مفاصيل المجتمع بشكل رهيب، (أقصد أن المرأة اليوم شاهدة على إعادة نقل القيم في الاسرة، في غياب الرجل) مما يزيدها اقتدرا إلى بقية القدرات. وأخيرا هناك تحول في البنيات الثقافية، حيث أنه من خلال المعطيات الموضوعية – حصول المرأة على وظائف سامية ومكانة اعتبارية في المجتمع- سيؤثر لا محالة في البناء الثقافي، (طبعا تحدث اليوم بعض التوترات والتي تبرز في ارتفاع حالات الطلاق)، لكن أنا على يقين أن ذلك ليس إلا مخاضا يؤشر على ولادة جديدة لمجتمع بصيغة المؤنت.