بعيدا عن موضوعات الساعة: مع المتنبي شاعر السيفيات في غزله قراءة ديوان المتنبي لا تحصل بها الفائدة والمتعة فقط ، وإنما أكثر من ذلك، تسبح بالقارئ في عالم المثل ، وعالم الطهر والنزاهة والترفع ، والصدق والإباء وغير ذلك .. كلما أعدت قراءة ديوان المتنبي كلما زاد الإحساس بعبقريته ، وكأنني أعرفه لأول مرة، تأخذ أشعاره صورا بارعة في قوالب جديدة،غير ما اختزنته الذاكرة بعد دراسة فاحصة وقراءات متعددة .. عرفت المتنبي كغيري من مدمني قراءة أشعاره ومحبيه شاعر الفخر والحماسة ، شاعر السيفيات ، وفي بعض الأحيان كما ينعت ، شاعر التكسب ، وخفي شيء آخر أ ونعت آخر يمكن أن ينعت به ، إنه شاعر الوجدان ، تسحره المفاتن أينما كانت ، ويغريه الجمال أنى وجده، ، فنراه في مقدمات قصائده وإن كانت قصيرة ، وفي أبيات شعرية قليلة يكشف عن قلب جريح ، ونفس كسيرة، أذلهما الحب ، وأرقهما الجفاء، وأضناهما الهجر، فينبري متحدثا عن محبة وفتنة، وحرقة ولوعة، عن حب لُفافته ألم ووجد، وعلاقة واقعها سراب وجمر، وأجمل من ذلك فناؤه ساعة التملي بحسن فاتنته ، فهو يقول : تناهى سكون الحسن في حركاتها فليس لراء وجهها لم يمت عذر وقبله قال ابن المعتز الشاعر الأمير: عذر القتيل بحبها لكن من قد عاش بعد فراقها ما عذره ؟ وإن كان سوط الرقيب لاسعا فهو يعترف بسحر الفاتنة : رأت وجه من أهوى بليل عواذلي فقلن نرى شمسا وما طلع الفجر رأين التي للسحر في لحظاتها سيوف ظُباها من دمي أبدا جمر ولعله من قول آخر، لخصه أبو الطيب فأحسن وأجاد كما في بيتيه السابقين : تراءت لنا والليل من دونها ستر فكان لنا من غير نحريهما فجر وقلت لها من أنت ؟ قالت تعجبا: يقال كذا للبدر من أنت يا بدر ؟ هل كان المتنبي محبا عاشقا ؟ أو كان مقلدا تابعا ؟ هل كان لديه متسع من الوقت للعشق وهو شاعر الدولة ليعيش لحظات دافئة يسجلها في شعره ويخلدها في نظمه؟ ففي فؤاد المحب نار جوى أحر نار الجحيم أبردها ألم يكن المتنبي قويا جبارا ، كيف لذّ له العشق وأذله الحب ؟ وعذلت أهل العشق حتى ذقته فعجبت كيف يموت من لا يعشق وعذرتهم وعرفت ذنبي أنني عيَّرتهم فلقيت منهم ما لقوا كيف تحول شاعر السيفيات من وصف المعارك والحروب والافتخار على المتشاعرين إلى شاعر رقيق مرهف الحس يعترف بشجاعة وضعف في نفس الوقت بخوضه تجربة الحب والعشق؟ ولعله استنجد بقول الشاعر دعبل الخزاعي في الدفاع عن عشقه وحبه: لا تأخذا بظلامتي أحدا قلبي وطرفي في دمي اشتركا لقد أضل طريقه ، غير ملتفت إلى نصح أو إرشاد : يا عاذل العاشقين دع فئة أضلها الله كيف ترشدها ليس يحيك الملام في همم أقربها منك عنك أبعدها وعلى الرغم من أن المتنبي لم ينظم قصائد مطولة في العشق كشعراء الغزل ، ولم يهم وجدا في صحراء أو جبل ، فإنه أمتع في مقدمات قصائده بما كان يحمله من عواطف متأججة نحو من أرهقه حبها وأسره جمالها ،لكن ، قد يبدو الأمر عاديا عند من يرى في المقدمة الغزلية العربية غزلا يفرضه الحفاظ على منهج القصيدة العربية كما كان متداولا معروفا ، وهذا موضوع في حاجة إلى دراسة نفسية للشاعر وإلى دراسة فنية لشعره. وعلى الرغم مما كتب عن المتنبي في عصره وبعده ، عن إغاراته وسرقاته ، عن إفاداته من سابقيه ، فقد أنصفه آخرون في مؤلفاتهم ودافعوا عنه ، وفضلوه على غيره ، وكما أسرف البعض في الإقبال عليه ، أسرف آخرون في الإعراض عنه ، ، لكنه المتنبي ، الشاعر الشامخ ،، لم نعثر على توأمه بعد ، تجتمع في شعره لذائذ كثيرة ، لذة العقل والقلب ، والمتعة والفائدة . • أستاذة جامعية