في سياق الوعي الدولي بأهمية إشراك الكفاءات المهاجرة في تنمية بلدانها الأصلية، بلور المغرب خطابا سياسيا يراعي هذا الأمر، حيث أصبحت المؤسسات المغربية الفاعلة في ميدان الهجرة، هذا هو ديدنها. فلا تكاد تخلو مناسبة إلا وصرح فيها المسؤولون بهذه المؤسسات بأهمية إشراك الكفاءات المغربية المهاجرة في دينامية التنمية بالمغرب. لكن لم يرتق بعد هذا الخطاب إلى المستوى الاستراتيجي، حيث لا زالت هذه المؤسسات تبحث، وتقيم المؤتمرات والدراسات لتدارس هذا الموضوع لأجل بلورة استراتيجية تناسب المغرب. وفي هذا السياق، أصدرت الوزارة المكلفة بالجالية المغربية المقيمة بالخارج تقريرا مشتركا مع المنظمة الدولية للهجرة (OIM) سنة 2009 تحت عنوان "دراسة حول مساهمة المغاربة المقيمين بالخارج في التنمية الاقتصادية والاجتماعية للمغرب"1. « étude sur la contribution des Marocains résident à l'étranger au développement économique et sociale du Maroc » حاول هذا التقرير أن يشخص وضعية الكفاءات المغربية وأهميتها، ووصف بعض التجارب الدولية في الاستفادة من كفاءاتها، كما كان تقييما لبعض البرامج التي أنجزت في المغرب في هذا المجال، ليعطي بعض المقترحات. وعلى كل حال من بين التجارب الدولية ، هناك نموذجين مميزين ومغايرين هما النموذج الكولومبي والنموذج الكوري، غير أن النموذج الكوري يبقى جد مكلف بالنسبة لدولة كالمغرب، وهو خارج إمكانياتها، ليبقى النموذج الكولومبي (نموذج كالداس) النموذج الأكثر براغماتية ويهدف إلى جعل الكفاءات نافعة لبلدانها وهي مقيمة في بلدان الاستقبال، ويكون ذلك بخلق شبكات للباحثين في مختلف الاختصاصات تساهم في تنمية بلدانها على المستوى الاقتصادي والعلمي والتقني. وتماشيا مع هذا الطرح سطر المغرب سياسة مربحة للكفاءات، مربحة للبلد الأصل ومربحة لبلد الاستقبال. وفي هذا الإطار جاءت بعض المبادرات المنجزة سواء بمبادرة من المغرب أو من جهات دولية، ويمكن أن نذكر بعضها ومنها: برنامج TOKTEN (نقل المعرفة عبر الكفاءات الوطنية المهاجرة)، أطره برنامج الأممالمتحدة للتنمية، وكان هدفه الأساس "هو دعم جهود الحكومة لأجل تقوية القدرات التقنية بالقطاعات والمؤسسات المهمة من خلال وضع ميكانيزم يسمح للمتخصصين المغاربة بالخارج المساهمة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية للبلد". وقد نفذ البرنامج في مجموعة من الدول (أقرب من 50 دولة) وجاء بنتائج مشجعة. لكن في حالة المغرب مع الأسف تنُوسِيَ المشروع وذلك لغياب الإرادة وغياب الموارد البشرية والدعم السياسي، رغم تحقيقه لبعض النتائج المحتشمة متمثلة في عقد لقاءين. برنامج FINCOME (Forum International des compétences Marocains Résidant à l'étranger) (الفضاء الدولي للكفاءات المغربية المقيمة بالخارج)، هو فضاء يسمح بربط علاقات مؤسساتية مع الكفاءات المغربية بالخارج. ويهدف إلى: خلق قاعدة معطيات عن الكفاءات المغربية وكذا عن القطاعات العمومية والخاصة بالمغرب. ومن بين أهداف البرنامج كذلك: دعم البحث والتنمية والتكوين نقل التكنولوجيا والمعرفة العلمية المساعدة بالخبرة في بلورة استراتيجيات قطاعية للتنمية وتقييم مشاريع وبرامج البحث جذب الاستثمارات وشراكات العمل التآزر بين الكفاءات المحلية والكفاءات المغربية المقيمة بالخارج خصوصا عبر شبكات البحث المساهمة في تقوية التعاون الثنائي. ورغم ما أعطي لهذا البرنامج من إمكانات، غير أن تحليل نتائجه يكشف عن مجموعة من المشاكل التي قد تهدد تنفيذ أهداف البرنامج، وهذا ما قد ذكره تقرير الوزارة2، ويمكن أن نلخص بعض المشاكل التي جاءت في هذا التقرير، حيث ذكر: أولا: لم يحدد محيط عمل البرنامج بشكل دقيق، ومهامه الأساسية، حيث وقع الخلط بين هل البرنامج وسيط بين عارضي العمل وطالبيه من المهاجرين، وهل في البرنامج بُعد استشاري، وإذا كان كذلك فما هي الموارد المخصصة لذلك؟ ثانيا: عدم تحديد الأدوار والمسؤوليات التنفيذية لكل جهة، فرغم وجود وثائق تصف العملية، إلا أن مساهمة مختلف الأطراف بقيت جد محدودة وغير قادرة على التصرف، وذلك بسبب انعدام التنسيق والرؤية التنفيذية لأنشطة البرنامج. ثالثا: عدم وجود خطة عمل واضحة للبرنامج منذ بدايته، كما أن عدم وجود رغبة من الفاعلين في البرنامج أثر سلبا على تنفيذ البرنامج، كما أن برنامج FINCOM افتقر إلى أهداف مقاسة بمؤشرات أداء تسهل المتابعة والتقييم. رابعا: شهدت مدة السنتين من إطلاق البرنامج عقد عدة اجتماعات على مختلف المستويات المسؤولة. لكن لم تنشر كل توصيات هذه الاجتماعات، كما أنها لم تنفذ مما أثر سلبا على نجاح البرنامج. وأخيرا، عدم تجديد الاتفاقية الموقعة في (07/2006) لإضافة شركاء جدد في برنامج FINCOM (كالمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، والمبادرة الوطنية للتنمية البشرية، ومؤسسة الحسن الثاني للمغاربة المقيمين بالخارج). هذه بعض من كثير الاختلالات التي واجهت برنامج FINCOM، مما أثر سلبا على نجاحه. والملاحظات التي يمكن إيرادها هنا، كيف يمكن لبرنامج يترأس مجلسه الإداري والتوجيهي الوزير الأول، وتصادق عليه الحكومة، ومع ذلك تتخلله كل هذه الاختلالات التي لا يمكن قبولها حتى في بعض الشركات الصغيرة، فما أدراك بحكومة بلد. فأي استراتيجية هذه التي تخلو من تحديد الأهداف المقاسة بالأرقام، وهذه من بديهيات التخطيط الاستراتيجي؟ وأي استراتيجية هذه، تجعلنا دائما أمام الاستثناء المغربي في تدبير مجموعة من القضايا. من المبادرات التي تستحق الذكر في هذا المقام مبادرة جمعية "معرفة وتنمية"3 « savoir et développement » تأسست الجمعية سنة 1998 بمبادرة من باحثين مغاربة بفرنسا، من جميع التخصصات الجامعية (الرياضية، المعلوماتية، الاقتصاد، التدبير...)، إضافة إلى هذه التخصصات العلمية، تبقى الجمعية منفتحة على العالم المهني؛ أي رجال الأعمال والشباب حاملي (المشاريع المبدعة). ينتشر أعضاء الجمعية في مختلف الجهات الفرنسية وكذلك ببعض الدول الأوربية وأمريكا. وتهدف الجمعية إلى تثمين التحويلات العلمية والتكنولوجية لفائدة المغرب، وفي هذا الصدد، تقترح تأسيس قاعدة معطيات للكفاءات المغربية المتواجدة بالخارج أو بالمغرب، وبناء عليه تم تحديد الشراكات المناسبة وانتقاء المشاريع. تضم الجمعية حوالي مائتي عضو، ولها عدة مشاريع من بينها: 1- إنشاء مختبر دولي متخصص في الكيمياء الجزئية LIACM في ثلاثة مواضيع كبرى: الكيمياء والصحة، Nanochimi، والكيمياء والبيئة. هذا المختبر ينجز بشراكة بين L'université paul sabatier والجامعات الشريكة بالمغرب وهي: جامعة محمد الخامس بالرباط وجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس وجامعة القاضي عياض بمراكش. 2- مشروع إنشاء قطب الكفاءات الأورومتوسطي في التكنولوجيا الدقيقة nanotechnologie، حيث كثير من المغاربة هم فاعلون في هذا الميدان، سواء في المخطط الصناعي أو المخطط الأكاديمي. تسعى الجمعية إلى تطوير برنامج عمل يتمحور حول قطب متميز في هذا الميدان، يدمج الصناعات الخاصة بالمجال ببنيات البحث والتكوين. 3- مشروع التطهير والحفاظ على مصادر المياه بالمغرب (APREM) هو عمل فرنسي مغربي للتحويل العلمي والتكولوجي في مجال معالجة المياه المستعملة، والحفاظ على جودة مصادر المياه. ويهدف المشروع إلى: * تحديد الحاجيات في معالجة المياه العادمة * إعادة تأهيل الأجهزة الموجودة * البحث عن حلول لتحسين التطهير واحترام البيئة * تقليص الآثار السلبية على الأوساط المستقبلة. * التحويل العلمي والتكنولوجي بمنطق التنمية المستدامة. 4- فكرة المشروع العام لمعالجة الأزبال بالوسط الحضري المغربي (TDUM) بالإضافة إلى المبادرات الحكومية ومبادرات المجتمع المدني، هناك مبادرات فردية يقوم بها أفراد الجالية المغربية المقيمة بالخارج. فمثلا يضم تكنوبول بالدار البيضاء 126 شركة من بينها 30 شركة لأفراد من الجالية المغربية وهم من الكفاءات المهاجرة. كما يمكن أن نذكر في هذا السياق شركة Windtecmo وهي لشاب مع مغربي ببلجيكا تعمل في تطوير مشاريع استعمال الرياح كطاقة متجددة. إن هذه النماذج المؤسساتية والفردية تدل على إمكانية الاستفادة من موارد بشرية كفأة ومهمة مهاجرة بالخارج، شريطة بلورة استراتيجية متكاملة تقطع مع النظرة النمطية القديمة، التي ترى في المهاجر موردا للأموال المحولة ليس إلا. إن هذه النظرة القديمة تؤسس لاقتصاد هش متأثر بأي مشكل يحصل في دول الاستقبال، ما يجعل اقتصادنا مرهون بانتعاش اقتصادات الآخرين. إن هذا الأمر هو ما يجعل من بلورة استراتيجية قائمة على رؤية ترى في المهاجر فاعلا تنمويا يساهم بمعرفته وبتجاربه وبأفكاره الإبداعية، أمراً ملحاً. إن رؤية كهذه تساهم في بناء اقتصاد المعرفة الذي هو ديدن العالم كله اليوم، هذا الاقتصاد الذي يكون أساسه الموارد البشرية المؤهلة، مما يجعله اقتصادا أكثر قوة لأنه غير مرهون بالآخرين، بل هو نتيجة موارد بشرية أصلية تحول معارفها إلى منتجات وخدمات. ولعل الكفاءات المغربية المهاجرة، مما راكمته من معرفة وتجارب في بلاد المهجر، تكون طليعة هذه الموارد التي يمكنها التأسيس لتنمية قائمة على اقتصاد المعرفة.