" الكتاب" هذا الجليس،الأنيس، المعلّم، الوفيّ، الصّامت، الناطق، الصّادق الذي رافق الإنسان منذ أقدم العهود ،وما زال يلازمه، ويصاحبه ويؤنسه إلى يومنا هذا ، حتّى في زخم عصرالتطوّر التكنولوجي الهائل، و في دنيا الإعلاميات ، وما تطلع به علينا كل يوم من إختراعات وإستنباطات متطوّرة ومحيّرة في عالم الحواسيب ،و العقول الإلكترونية ،والإنترنيت وشبكاته العنكبوتية المتشعبة وإستعمالاته المذهلة من ذاكرة كومبيوتر ، وكتبه الإلكترونية ، والفايسبوك، والتلفاز وسواه من الجديد المتواتر الذي ما إنفكّ يفاجئنا به هذا العصر العجيب ، مع ذلك ما زال الكتاب موجوداً ومحبوباً ومطلوباً و حاضراً بقوّة بيننا، بل إنه ما فتئ يحتلّ مكانَ الصّدارة بين ظهرانينا وَرَقيّا وإلكترونيّا. الكتاب...أيّ سرّ أو سحر يكمن بين دفّتي هذا الخلّ الوفيّ ، والصّديق الأمين ، والجليس الأنيس، والسّاهر السّامر..؟ ما أصله..؟ ما قصّته وتاريخه وتطوّره..؟ ما هي معاناته..؟ ما هي المخاطر التي تحدّق به والتهديدات التي تلازمه وتلاحقه..؟ وما نوعيّة الجرائم والفظائع التي إرتكبت وما زالت ترتكب فى حقّه..؟ ما هي مآسيه ومحنه ، وإغترابه وإستلابه ..؟ ماهي أخباره وحكاياته وطرائفه..ومكانته عند الناس الخلفاء والأدباء والشّعراء ..؟. كان عبّاس محمود العقاد يقول: أنا من بدّل بالكتب الصّحابا ... لم أجد لي وفيّا إلاّ الكتابا ويقول المتنبّي فى بيته المشهور: أعزّ مكان في الدّنى سرج سابح ... وخير جليس في الزّمان كتاب القرطاسُ والقلمُ بدأت الكتابة في العهود الغابرة من الأزمان في شكل صور تدلّ على معاني ومدلولات ملموسة في الحياة اليومية للإنسان القديم ، وقد تمّ العثورعلي الكثير من النقوش والصور والرموزالتي تدل على معاني ومفاهيم معيّنة في منطقة الهلال الخصيب، خاصة في الحضارة السوميرية قبل حوالي ستّة آلاف سنة، وقد عرفت الكتابة عندهم بالمسمارية أو الإسفينية، كما تمّ العثور في مناطق أخرى من العالم على بعض الرسوم والصورمثل تلك التي عثر عليها في كهوف "ألتاميرا "في إسبانيا ، و"لاسكو" في فرنسا أو رسوم" ناسكا "في البيرو عند شعوب الأنكا والموشيك وسواها من المناطق الأخرى من العالم . وفي مرحلة متقدمة من التاريخ البشري جاء الفنيقيون وابتكروا الكتابة مستعينين بالسوميرية والمصرية القديمة، ثم جاء الإغريق وطوّروا أبجديتهم نقلا عن الفنيقيين ، ثم أصبحت عندهم أبجدية خاصة بهم والتي أصبحت فيما بعد الأبجدية الخاصة بالغرب ، ثم جاء الرومان وأخذوا الأبجدية الإغريقية ، وقد سادت اللغة الرومانية واللاتينية في مختلف الأصقاع الأروبية بعد سيطرة الإمبراطورية الرومانية على بلاد الغرب . وجاءت الكتابة العربية متأخرة ، وبدأت تنتشر فى الأصقاع بعد أن قرّر الخلفاء الراشدون تدوين القرآن الكريم على عهد الخليفة عثمان بن عفّان، ثم انتشرت الكتابة العربية انتشارا واسعا مع إنتشار الدين الإسلامي الحنيف .والابجدية العربية مشتقة من الكتابة السامية التي اشتقت بدورها من الابجدية الفنيقية والتي وصلت العرب عن طريق الأنباط الذين تأثّروا بحضارة الآراميين وطريقة الكتابة عندهم. وفي القرن الثامن للميلاد شرع العرب في إستخدام الورق الذي إبتكره الصينيون بدلا من الرقّ أو الجلود ،بعد ذلك أسّس العرب مصانع للورق، وعنهم أخذته البلدان الأوروبية في القرن الثاني عشر.وقد أنشئ أوّل مصنع للورق في إنجلترّا في القرن الخامس عشر . وفي عام 1436إخترع "غوتينبرغ"الطباعة فكان ذلك الاختراع قفزة عظيمة ، وفتحا مبينا في تاريخ الكتابة ثمّ الكتاب الذي تمّ نقله من طور القرطاس والقلم ، والمخطوط الغميس،الى المكتوب أو المطبوع الصقيل. بَابُ الرّمْلَة تعرّضت الكتب والمخطوطات منذ أقدم العصور الى المتابعة والمصادرة والرقابة والحرق والتدمير،فقد كان الكتاب منذ القدم هو الوسيلة التي تنقل بواسطته العلوم والمعارف وأسرار الحروب وخطط الدفاع والهجوم ، وفيها كانت تسجل الاختراعات وأسرار الدول والصنائع، بل كان الكتاب هو السلاح الأفتك والوسيلة المثلى للتنوير والتعليم، وتثقيف العقول، وتهذيب النفوس وتغذية القلوب ، ونشر الوعي .و كان أوّل ما أنزل من القرآن الكريم "إقرأ" . وفي سورة البقرة يرد إسم الكتاب (كتاب الله) فيقول جلّ من قائل:( أ لم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين). وكانت كتب المسلمين في الأندلس تثير الرعب والهلع في قلوب الإسبان المتزمّتين منهم ، في حين كان يحتفي ويعنى بها آخرون ، فهذا الكاردينال سيسنيروس أمرعام 1501م بحرق مكتبة " مدينة الزّهراء"التي كان بها ما ينيف على 600000 مخطوط في مكان يسمّى "باب الرملة" بغرناطة وهي ساحة كبرى معروفة ما زالت موجودة بها بنفس هذا الإسم العربي القديم حتى اليوم ، يؤمّها السيّاح من مختلف أنحاء العالم ، ويشرئبّون بأعناقهم لمشاهدة اللوحة الرخامية التي كتب عليها هذا الإسم الذي أصبح لصيقا ومقرونا باسم هذا الكاردينال ولكنهم لا يعرفون شيئا عن فعلته الشنعاء ، وجريمته النكراء التي دمّرت واختفت على إثرها العديد من المخطوطات وأمّهات الكتب النفيسة التى أبدعها علماء أجلاء في مختلف حقول العلم، وفروع المعارف بالأندلس، ويقال إنّ الجنود الذين كلّفوا بالقيام بهذه المهمّة كانوا يخفون بعض هذه الكتب أثناء إضرامهم النار فيها في أرديتهم لفرط جمالها وروعتها إذ كان معظمها مكتوبا بماء الذهب والفضّة ، ولقد ظلّت هذه الحماقة الهوجاء وصمة عار، ونقطة قاتمة فى التاريخ الأسود لإسبانيا المتزمّة إبّان محاكم التفتيش . التاريخُ يُعيد نفسَه وقد وصف لنا العديد من شعراء الاندلس بحسرة ما بعدها حسرة فى هذا السياق كيف أنّ الإسبان بعد حروب الإسترداد كانوا يحرقون الكتب والمخطوطات والمصاحف ويلطّخونها على مرأى من المسلمين ، وفي ذلك أشعار كثيرة مؤلمة منها هذه الأبيات التي يخبرنا فيها شاعر أندلسي متحسّرا أنّ" سلطان الإسبان وكبيرهم" قد فعل بهم كيت وكيت من الفظائع والأهوال ، إلى أن يقول: وأحرق ما كانت لنا من مصاحف ....وخلّطها بالزّبل أو النجاسة وكلّ كتاب كان فى أمر ديننا.... ففي النّار ألقوْه بهزءة وحقرة ولم يتركوا فيها كتاباً لمسلم ...... ولا مصحفاً يُخلى به للقراءة و ها هو ذا التاريخ يعيد نفسه في بلدان أمريكا اللاتينية حيث قام الاسبان عند إكتشافهم لها بحرق العديد من الخطوطات والكتب القديمة التي تعود لشعوب المايا و الأزتيك في المكسيك، ولشعوب الإنكا والموشيك في البيرو، وقد تمّ ذلك أمام أعين أربابها السكان الأصليين في هاذين البلدين وفي سواهما من بلدان أمريكا اللاتينية. وحرق الكتب أي تدميرها بالنار يجري فى بعض الأحيان لأسباب أخلاقية أو سياسية أو دينية أو إنتقامية . وقد يتمّ التخلّص من الكتب سريّا كما حدث لملايين الكتب التي تمّ إحراقها في الكتلة الشيوعية الشرقية قبل سقوط حائط برلين .ويذكر لنا التاريخ العديد من الأمثلة لهذه الجرائم التي لا تغتفر. فبالإضافة الى حرق كتب المسلمين في الأندلس،وكتب المايا والإنكا في المكسيك والبيرو نذكر حرق الكتب على عهد أسرة " تشين"الصينية ، وحرق النازيّين لكتب خصومهم في أوروبا. وتعتبر عمليات حرق الكتب جرائم في حق العلم والفكر والإنسانية والتاريخ . الإسكوريال يظنّ الكثيرون أنّ مكتبة الإسكوريال الشهيرة القريبة من العاصمة الإسبانية مدريد المليئة بالمخطوطات العربية الثمينة هي من مخلفات العرب في إسبانيا ، والحقيقة أنّ محاكم التفتيش الكاثوليكية كانت أحرقت كلّ الكتب لعربية أينما وجدت ، ولم يبق بعد خروج المسلمين من شبه الجزيرة الايبيرية كتب عربية تستحقّ الذكر .وفي أيّام السعديين بالمغرب كان المنصور الذهبي مولعا باقتناء الكتب وجمع منها خزانة عظيمة ، وسار خلفه إبنه زيدان على سنته في الاهتمام بالكتب، فنمّى الخزانة التي كانت عند والده.ولمّا قام عليه أحد أقاربه واضطرّ للفرار كان أوّل ما فكر فيه خزانة كتبه فوضعها في صناديق ووجّهها الى مدينة آسفي لتشحن في سفينة كانت هناك لأحد الفرنسيين لينقلها الى أحد مراسي سوس. فلمّا وصلت السفينة إنتظر رئيسها مدّة أن يدفع له أجرة عمله ، ولما طال عليه الأمر هرب بمركبه وشحنته الثمينة ، فتعرّض له في عرض البحر قرصان إسباني وطارده حتّى إستولى على المركب الفرنسي وأخذ الصناديق، فلمّا فتحوها ولم يجدوا بها الا الكتب ، فكروا ، من حسن الحظ أن يقدّموها هدية لملكهم . ولما وصلت هذه الكتب الى الملك فيليبي الثاني ، الذي كان منهمكا في بناء الدير الفخم للقدّيس "لورينثو " بالمحل المسمّى الإسكوريال أوقفها على هذا الدّير ، وهي التي لا تزال الى اليوم موجودة به، ويقصدها العلماء من كل الأقطار للإستفادة من ذخائرها ونفائسها الثمينة . لكتابُ وطرائفُه عُنِي المسلمون عناية فائقة بالكتب ، وكان الكتاب وما يزال يحظى عندهم باهتمام بالغ ، وقد جمع الخلفاء في المشرق والمغرب الآلاف من أمّهات الكتب والمخطوطات، فمدينة قرطبة كانت تحفل بالمكتبات و أروقة العلم و بيوت الحكمة، كانت تزيّن خزانة "الحكم المستنصر" بها (861-976 م) أزيد من أربعمائة ألف مخطوط، هذا الرجل الذي قال عنه "بول لين" إنّه دودة كتب، والذي عنه يقول ابن خلدون : "إنه جمع من الكتب ما لم يجمعه أحد من الملوك قبله" . كما إعتنى هارون الرشيد في المشرق بجلب العديد من الكتب و المخطوطات من الديّار التي فتحها. وقد بلغ نشاط بيت الحكمة ببغداد ذروته على عهد الخليفة المأمون الذي أولاه عناية خاصّة ووهبه كثيرا من ماله ووقته . وأهمّ ما ميّز بيت الحكمة الخزانة العظمى التي كانت بها ، وقد تمّ تدمير العديد من نفائسها على يد المغول عام 1258 م. كان علماء المسلمين يحبّون الكتبَ حبّا جمّا، وقد شُغفوا بها شغفا كبيراً ، الجاحظ مات تحت أكوام كتبه،وكانوا يتحمّلون المشاق وعناء السفر لطبع كتبهم أو إقتنائها أو بيعها ، وفى الأندلس كان يقال: إذا أفلس عالم فى غرناطة باع كتبه فى قرطبة ، وإذا أفلس موسيقيّ فى قرطبة باع أدواته فى غرناطة. وكانت إعارة الكتب شيئا ممقوتا عندهم ، وكان شاعرهم يقول في ذلك : ألا يا معير الكتب دعني ... فإنّ إعارة الكتب عارُ وكانوا يقولون إنّ الكتاب الذي يعار قد لا يردّ إلى صاحبه، وهم محقّون في ذلك ، إذ يحكى أنّ الكاتب الفرنسي إميل زولا زاره ذات مرّة أحد أصدقائه في بيته ، وعندما بدأ الصديق يطّلع ويتفقّد مكتبة" زولا "الكبيرة ، فيأخذ كتابا يتمعّنه ثم يردّه إلى مكانه في رفوف المكتبة ، وفجأة وقع نظره على كتاب كان يبحث عنه منذ مدّة ، فقال لصديقه زولا : هل لك أن تعيرني هذا الكتاب..؟ فقال زولا له على الفور: لا ، لا أستطيع أن أعيرك إيّاه، فالكتاب الذي يعار لا يردّ إلى صاحبه أبدا ، والدّليل على ذلك أنّ معظم الكتب التي ترى في هذه المكتبة معارة !. وقال أحد الكتّاب الكولومبيين :إنّ الذي يعير كتابا إقطع له يدا واحدة، أمّا الذي يردّه الى صاحبه فاقطع له الإثنتين !. وكان جورج برنارد شوّ يتجوّل ذات مرّة بسوق الكتب القديمة بلندن (مثل سوق العتبة بالقاهرة ، أو سوق الجوطية للكتب المستَعمَلة بباب الحدّ بالرباط بالمغرب)، وفجأةً وقع نظره على كتاب له كان قد صدر مؤخرا ، وكان قد أهداه لأحد زملائه الأدباء، فباعه هذا الأخير دون أن يفتح أوراقه التي كانت لا تزال لصيقة ببعضها كما كانت تصدر الكتب فى ذلك الوقت، فاشترى شوّ الكتاب، وكتب تحت الإهداء القديم : برنارد شو يجدّد تحيّاته، ثمّ بحث عن صديقه وسلّمه الكتابَ من جديد!. - عضو الأكاديميّة الإسبانيّة- الأمريكيّة للآداب والعلوم- بوغوطا- كولومبيا.