" الكتاب"، هذا الخلّ الوفيّ الذي رافق الإنسان منذ أقدم العهود وما زال يلازمه، و يصاحبة، ويرافقه الى يومنا هذا في عصرالتطوّر التكنولوجي الهائل، و في دنيا الإعلاميات، وما تطلع به علينا كلّ يوم من إختراعات محيّرة ،وإستنباطات متطوّرة في عالم الحواسيب ،والعقول الإلكترونية ،والإنترنيت وشبكاته العنكبوتية المتشعبة ،وإستعمالاته المذهلة من تابليط كومبيوتر، وكتبه الإلكترونية ، والفايسبوك، وباقي مواقع التواصل الإجتماعي، والتلفاز وسواه من الجديد المتواتر الذي ما إنفكّ يفاجئنا به هذا العصرالمذهل والعجيب في كلّ وقت وحين. الكتابة والكتاب تؤكّد معظم المراجع التاريخية أنّ الكتابة بدأت في العهود الغابرة من الأزمان في شكل صور تدلّ على معاني ومدلولات ملموسة في الحياة اليومية للإنسان القديم ، وقد تمّ العثورعلي الكثير من النقوش والصور والرموزالتي تدل على معاني ومفاهيم معيّنة في منطقة الهلال الخصيب، خاصة في الحضارة السوميرية قبل حوالي ستّة آلاف سنة، وقد عرفت الكتابة عندهم بالمسمارية أو الإسفينية، كما تمّ العثور في مناطق أخرى من العالم على بعض الرسوم والصّورمثل تلك التي عثر عليها في كهوف "ألتاميرا "في إسبانيا ، و"لاسكو" في فرنسا، أو رسوم" ناسكا "في البيرو عند شعوب الإنكا والموشيك وسواها من المناطق الأخرى. وفي مرحلة متقدمة من التاريخ البشري جاء الفنيقيون وابتكروا الكتابة مستعينين بالسّوميرية والمصرية القديمة، ثم جاء الإغريق وطوّروا أبجديتهم نقلا عن الفنيقيين ، ثم أصبحت عندهم أبجدية خاصة بهم والتي أصبحت فيما بعد الأبجدية الخاصة بالغرب ، ثم جاء الرّومان وأخذوا الأبجدية الإغريقية ، وقد سادت اللغة الرومانية واللاتينية في مختلف الأصقاع الأروبية بعد سيطرة الإمبراطورية الرّومانية على بلاد الغرب . وجاءت الكتابة العربية متأخرة ، وبدأت تنتشر فى الأصقاع بعد أن قرّر الخلفاء الراشدون تدوين القرآن الكريم على عهد الخليفة عثمان بن عفّان، ثم انتشرت الكتابة العربية انتشارا واسعا مع انتشار الدين الإسلامي الحنيف .والابجدية العربية مشتقة من الكتابة السّامية التي اشتقت بدورها من الأبجدية الفنيقية والتي وصلت المسلمين عن طريق الأنباط الذين تأثّروا بحضارة الأراميين وطريقة الكتابة عندهم. وفي القرن الثامن للميلاد شرع المسلمون في إستخدام الورق الذي ابتكره الصّينيون بدلا من الرقّ أو الجلود حيث أسّسوا مصنعا للورق وعنهم أخذته البلدان الأوروبية في القرن الثاني عشر.وقد أنشئ أوّل مصنع للورق في إنجلترّا في القرن الخامس عشر . وفي عام 1436إخترع "غوتينبرغ "الطباعة فكان ذلك الإختراع فتحا عظيما في تاريخ الكتاب حيث تمّ نقله من طور المخطوط الغميس، الى المكتوب أو المطبوع الصّقيل . جريمة حرق خير جليس فى الزّمان تعرّضت الكتب والمخطوطات منذ أقدم العصور الى المتابعة والمصادرة والرقابة والحرق والتدمير،فقد كان الكتاب منذ القدم هو الوسيلة التي تنقل بواسطته العلوم والمعارف وأسرار الحروب وخطط الدفاع والهجوم وفيها كانت تسجل الاختراعات وأسرار الدول والصنائع، بل كان الكتاب هو السلاح الأفتك والوسيلة المثلى للتنوير والتعليم وتثقيف العقول وتهذيب النفوس وتغذية القلوب وملئها بنور الإيمان والهداية . كان أوّل ما نزل من القرآن الكريم "إقرأ" وفي سورة البقرة يرد إسم الكتاب (كتاب الله) فيقول جلّ من قائل:( أ لم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين).وكانت كتب المسلمين في الأندلس تثير الرّعب والهلع في قلوب الإسبان المتزمّتين منهم ، في حين كان يحتفي ويعنى بها آخرون ، فهذا الكاردينال سيسنيروس أمرعام 1501م بحرق مكتبة " مدينة الزّهراء"التي كان بها ما ينيف على 600000 مخطوط في مكان يسمّى "باب الرملة" بغرناطة وهذا المكان ما زال موجودا بها حتى اليوم، فاختفت العديد من المخطوطات وأمّهات الكتب النفيسة التى أبدعها علماء أجلاء في مختلف فروع المعارف بالأندلس، ويقال إن الجنود الذين كلّفوا بالقيام بهذه المهمّة كانوا يخفون بعض هذه الكتب أثناء إضرامهم النار فيها في أرديتهم لفرط جمالها وروعتها إذ كان معظمها مكتوبا بماء الذهب والفضّة. وقد وصف لنا العديد من شعراء الاندلس بحسرة ما بعدها حسرة كيف أنّ الإسبان بعد حروب الإسترداد كانوا يحرقون الكتب والمصاحف ويلطّخونها على مرأى من المسلمين وفي ذلك أشعار كثيرة مؤلمة. قال ابن حزم الأندلسي عند إحراق كتبه: إن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي.......تضمنه القرطاس بل هو في صدري يقيم معي حيث استقلت ركائبي.......وينزل إن أنزل ويدفن في قبري دعوني من إحراق رق وكاغد.........وقولوا بعلم كي يرى الناس من يدري و ها هو ذا التاريخ يعيد نفسه في بلدان أمريكا اللاتينية حيث قام الاسبان عند إكتشافهم لها بحرق العديد من الخطوطات والكتب القديمة التي تعود لشعوب المايا و الأزتيك في المكسيك، ولشعوب الإنكا والموشيك في البيرو، وقد تمّ ذلك أمام أعين أربابها السكان الأصليين في هاذين البلدين وفي سواهما من بلدان أمريكا اللاتينية. وحرق الكتب أي تدميرها بالنار يجري عادة في العلن لأسباب أخلاقية أو سياسية أو دينية. وقد يتمّ التخلّص من الكتب سريّا كما حدث لملايين الكتب التي تمّ إحراقها في الكتلة الشيوعية الشرقية.ويذكر لنا التاريخ العديد من الأمثلة لهذه الجرائم التي لا تغتفر. فبالإضافة الى حرق كتب المسلمين في الأندلس،وكتب المايا والإنكا في المكسيك والبيرو نذكر حرق الكتب على عهد أسرة " تشين"الصينية ، وحرق النازييّن لكتب خصومهم في أوربا. وتعتبر حوادث حرق الكتب مصائب وجرائم في حقّ العلم والإنسانية تتذكّرها الأجيال تلو الأجيال بسبب قيمة هذه الكتب التي تعتبر خسارة ثقافية فادحة لا تعوّض. كتب ومخطوطات الإسكوريال يظنّ الكثيرون أنّ خزانة الاسكوريال القريبة من مدريد المليئة بالمخطوطات العربية الثمينة أنها من مخلفات المسلمين في إسبانيا ، والحقيقة أنّ محاكم التفتيش الكاثوليكية كانت أحرقت كلّ الكتب الإسلامية أينما وجدت ، ولم يبق بعد خروج المسلمين من شبه الجزيرة الايبيرية كتب عربية تستحقّ الذكر .وفي أيام السّعديين بالمغرب كان المنصور الذهبي مولعا بإقتناء الكتب وجمع منها خزانة عظيمة ، وسار خلفه إبنه زيدان على سنته في الإهتمام بالكتب، فنمّى الخزانة التي كانت عند والده .ولمّا قام عليه أحد أقاربه وإضطرّ للفرار كان أوّل ما فكر فيه خزانة كتبه فوضعها في صناديق ووجّهها الى آسفي لتشحن في سفينة كانت هناك لأحد الفرنسيين لينقلها الى أحد مراسي سوس. فلمّا وصلت السفينة إنتظر رئيسها مدّة أن يدفع له أجرة عمله ، ولما طال عليه الأمر هرب بمركبه وشحنته الثمينة ، فتعرضت له في عرض البحر بعض مراكب القراصنة الإسبان وطاردته للاستيلاءعلى الصناديق ،وكانت هذه المراكب تحت قيادة الأميرال فاخاردو ولا شكّ أنهم كانوا يظنّون أنها مملوءة بالذهب ،واستولوا بالفعل على المركب الفرنسي وأخذوا الصناديق، فلمّا فتحوها ولم يجدوا بها إلا الكتب ، فكروا ، من حسن الحظ أن يقدّموها هديّة لملكهم . ولما وصلت هذه الكتب إلى الملك فيليبي الثاني ، الذي كان منهمكا في بناء الدير الفخم للقدّيس لورينثو بالمحلّ المسمّى الإسكوريال أوقفها على هذا الدّير ، وهي التي لا تزال إلى اليوم موجودة به، ويقصدها العلماء من كل الأقطار للإستفادة من ذخائرها . علما انّ العديد من هذه الكتب والمخطوطات النفيسة قد تعرّضت هي الأخرى للتّلف والتدمير على إثر حرائق شبّت فى هذا الدّير فى عدّة مناسبات ،(أنظرمقالي المطوّل حول هذا الموضوع المنشور فى "هسبريس" بتاريخ 21 مايو 2013 بعنوان " أما آن للمغرب المطالبة بمخطوطاته بالإسكوريال..؟) أخبار وطرائف الكتاب كان الكتاب يحظى بعناية خاصّة عند المسلمين وما يزال ، فقد جمع الخلفاء في المشرق والمغرب الآلاف من أمّهات الكتب والمخطوطات، فهذه مدينة قرطبة كانت تحفل بالمكتبات و أروقة العلم و بيوت الحكمة، كانت تزيّن خزانة "الحكم المستنصر" بها (861- 976 م) أزيد من أربعمائة ألف مخطوط، هذا الرجل الذي قال عنه "بول لين" إنه كان دودة كتب، والذي عنه يقول إبن خلدون:" إنّه جمع من الكتب ما لم يجمعه أحد من الملوك قبله ". كما إعتنى هارون الرشيد في المشرق بجلب العديد من الكتب والمخطوطات من الديار التي فتحها. وقد بلغ نشاط بيت الحكمة ببغداد ذروته على عهد الخليفة المأمون الذي أولاه عناية خاصّة، ووهبه كثيرا من ماله ووقته . وأهمّ ما ميّز بيت الحكمة الخزانة العظمى التي كانت بها وقد تمّ تدمير العديد من نفائسها على يد المغول عام 1258 م كان العلماء المسلمون يحبّون الكتب حبّا جمّا ، الجاحظ مات تحت أكوام كتبه،وكانوا يتحمّلون المشاقّ وعناء السفر ووعثائه لطبع كتبهم ، وكانت إعارة الكتب شيئا ممقوتا عندهم ، وكان شاعرهم يقول في ذلك : ألا يا معير الكتب دعني فإنّ إعارة الكتب عار وكانوا يقولون إنّ الكتاب الذي يعار قد لا يردّ إلى صاحبه..!، وهم محقّون في ذلك ، إذ يحكى أن الكاتب الفرنسي إميل زولا زاره ذات مرّة أحد أصدقائه في بيته ، وعندما بدأ يطّلع ويتفقّد مكتبة" زولا "الكبيرة ، فيأخذ كتابا يتفحّصه ويتصفّحه ثم يردّه إلى مكانه في رفوف المكتبة ، وفجأة وقع نظره على كتاب كان يبحث عنه منذ مدّة ، فقال لصديقه زولا : هل لك أن تعيرني هذا الكتاب؟ فقال زولا له على الفور: لا ، لا أستطيع أن أعيرك إيّاه، فالكتاب الذي يعار لا يردّ إلى صاحبه أبدا ، والدّليل على ذلك أنّ معظم الكتب التي ترى في هذه المكتبة معارة.. ! وقال أحد الكتّاب الكولومبيين :إنّ الذي يعير كتابا إقطع له يدا واحدة، أمّا الذي يردّه الى صاحبه فاقطع له يدين.. ! ! وكان برنارد شو يتجوّل ذات مرّة بسوق الكتب القديمة (مثل الجوطية عندنا فى باب الاحد بالرباط) ، وفجأة وقع نظره على كتاب له كان قد صدر مؤخّرا ، وكان قد أهداه لأحد زملائه الأدباء، فباعه هذا الأخير دون أن يفتح أوراقه التي كانت لا تزال لصيقة ببعضها ، مثلما كانت تصدر الكتب فى ذلك الإبّان ، فاشترى شّو الكتاب، وكتب تحت الإهداء القديم ما يلي: برنارد شو يجدّد تحيّاته، ثمّ بحث عن صديقه وسلّمه له من جديد.. ! وكان المرحوم عبّاس محمود العقاد يقول: أنا من بدّل بالكتب الصّحابا ..... لم أجد لي وفيّا إلاّ الكتابا ونختم هذه العجالة ببيت المتنبّي المشهور: أعزّ مكان في الدّنى سرج سابح ..... وخير جليس في الزّمان كتاب *عضو الأكاديمية الإسبانية-الأمريكية للآداب والعلوم (كولومبيا) .