عَنِ الكِتَابَةِ وَالكِتَاب عَلَى هَامِش مَعْرِض الدَّار البَّيْضَاء الدّوليِ لِلْكِتَاب أَنَا مَنْ بَدَّلَ بِالكُتْبِ الصَّحَابَا / لَمْ أَجِدْ ليِ وَفِيّاً إِلاَّ الكِتَابَا على هامش إنعقاد الدّورة الحادية والعشرين للمعرض الدّولي للّنشر والكتاب بالدار البيضاء في الفترة المتراوحة ما بين 12 و 22 من شهر فبرايرالجاري 2015، أدعو القارئ الكريم إلى هذه الجولة فى عالم الكِتَابة،والكَتبَة، والكُتّاب، والكِتاب، فأقول.. تؤكّد معظمُ المراجع التاريخية أنّ الكتابةَ بدأت في العهود الغابرة من الأزمان في شكل صُور تدلّ على معاني ومدلولات ملموسة في الحياة اليومية للإنسان القديم، وقد تمّ العثور علي الكثير من النقوش، والصُور، والرّموز التي تدلّ على معاني ومفاهيم معيّنة في منطقة الهلال الخصيب، بخاصّة في الحضارة السوميريّة قبل حوالى ستّة آلاف سنة، وقد عرفت الكتابة عندهم بالمسماريّة أو الإسفينيّة، كما تمّ العثور في مناطق أخرى من العالم على بعض الرّسوم والصّور مثل تلك التي عُثر عليها في كهوف" ألتاميرا" في إسبانيا، و"لاسكو "في فرنسا أو "رسوم ناسكا" في البيرو عند شعوب الإنكا والموشيك وسواها من المناطق الأخرى. يؤكد الباحث فى التاريخ القديم إلياس غندور أيوب عطا الله فى كتابه ( الكون والأنسان بين التطوّر والعلم والتاريخ) : " أنّ الكتابة الأبجدية الكنعانية (الكنعانيون وهم من زمن 4000 ق م،) إبتكرها تاووتس الكنعاني ابن ميسور، او ميزور، ابن اميتس ابن كنعان ابن حام، بحوالي 500 سنة قبل ان يولد الفينيقيون في التاريخ، علماً أن الفينيقيين هم أحفاد الكنعانيين، وأنّ قدموس الكنعاني شقيق فينيقس وكيليكس وأوروبا، جميعهم أولاد أجينور أو أشنار ملك صور اللبنانية في القرن 13 ق م هو الذي حمل الأبجدية الكنعانية، وليس الفينيقية، إلى بلاد الأغريق حوالى 1250 ق م. وحديثاً عثر علماء اليونان/الاغريق على عملات معدنية من العصر الكنعاني عليها صورة قدموس يعلّم الناس هناك الكتابة الكنعانية " . ويشيرالأستاذ غندور" أنّ اللغة اللّاتينية التي إشتقت منها معظم اللغات الأوروبية هي بنت اللغة الكنعانية، منها اشتقت، وتحمل ملامحها في جميع صورها ومعانيها. وبعد الكنعانيين طوّر الفينيقيّون الكتابة ببراعتهم مستعينين بالإرث الكنعاني ثم بالسّومرية، والمصرية القديمة. ويؤكد الباحث فى اللغة الأمازيغية الأستاذ محمد حمزة من جهة أخرى : "أنّ الدراسات الحديثة أثبتت أن التيفيناغ هو سابق للأبجدية الفينيقية بقرون. وهو من الكتابات القديمة التي يُقال أنها كانت موجودة في وقت الكتابة الأولى التي عرفت في منطقة سومر ببلاد الرافدين"، ويوجد مِن المختصّين مَنْ يؤكد أنّها عاصرت الكتابات المسمارية القديمة، كما تشير عدّة نظريات إلى أنّ كتابة التيفيناغ هي إنتاج محلي للأمازيغ في شمال إفريقيا. و ترجع بعض الدراسات التيفيناغ إلى الكتابة الليبية القديمة التي تعود إلى آلاف السنين والمدوّنة في الرّسومات الحجرية، حيث جرى تحوّل من الرّسومات التي تجسّد كلَّ شيء إلى ما يُسمى التجريد إلى أشكال هندسية، وهذا ما يؤكد أن الإنسان في شمال إفريقيا إنتقل من الرّسم إلى الكتابة وعلى سبيل المثال إنتقل من رسم المرأة إلى الترميز لها من خلال شكل المثلث الموجود في الكتابات والرسوم، وهو نفسه الحرف ( ت)" . وطوّر الإغريق أبجديتهم نقلاً عن الكنعانيين والفينيقيّين، وأصبحت عندهم أبجدية خاصّة بهم، والتي غدت في ما بعد الأبجدية الخاصّة بالغرب، ثم جاء الرّومان وأخذوا الأبجدية الإغريقية، وقد سادت اللغة الرومانية واللاتينية في مختلف الأصقاع الأوروبية بعد سيطرة الإمبراطورية الرّومانية على بلاد الغرب. و– حسب الباحث إلياس غندور أيوب عطا الله - الكتابة العربية جاءت متأخرة، "إذ يعود تاريخ ظهورها إلى حوالى 600 ق م، من التاريخ، والأبجدية العربية مشتقة من الكتابة السّامية ،جاءت من رحم اللغة الآرامية السّريانية بنت الكنعانية وربيبتها ". وبعد ظهور الإسلام بدأت اللغة العربية تنتشر فى الأصقاع خاصّة بعد أن قرّر الخلفاء الراشدون تدوين القرآن الكريم على عهد الخليفة عثمان بن عفّان، ثم انتشرت الكتابة العربية إنتشاراً واسعاً مع إنتشار الدّين الإسلامي الحنيف . ولقد وصلت العربَ عن طريق الأنباط. وفي القرن الثامن للميلاد شرع المسلمون في إستخدام الورق الذي إبتكره الصّينيون بدلاً من الرقّ أو الجلود حيث أسّسوا مصنعاً للورق وعنهم أخذته البلدان الأوروبية في القرن الثاني عشر. وقد أنشئ أوّل مصنع للورق في إنكلترا في القرن الخامس عشر. وفي عام 1436 إخترع غوتينبرغ الطباعة فكان ذلك الإختراع فتحاً عظيماً، وقفزة نوعية هامّة، وفاصلة في تاريخ الكتاب والكتابة، حيث تمّ نقل الكتاب من طور المخطوط الغميس، إلى المكتوب أو المطبوع الصّقيل. حرائق الكتب وإتلاف المخطوطات تعرّضت الكتبُ والمخطوطاتُ منذ أقدم العصور إلى المتابعة، والمصادرة، والرقابة، والحرق، والإتلاف... فقد كان الكتاب منذ القدم هو الوسيلة التي تنقل بواسطته العلوم والمعارف وأسرار الحروب وخطط الدفاع والهجوم، وفيها كانت تُسجّل الإختراعات وأسرار الدّول والصنائع، والمُخترعات، بل كان الكتاب هو السّلاح الأفتك، والوسيلة المثلى والأنجع للتنوير والتعليم وتثقيف العقول وتهذيب النفوس وتغذية القلوب وملئها بنور الإيمان والهداية. كان أوّل ما نزل من القرآن الكريم إقرأ وفي سورة البقرة يرد إسم الكتاب كتاب الله فيقول جلّ جلاله: (ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتقين) . وكانت كتب المسلمين في الأندلس تثير الرّعبَ والهلعَ في قلوب الإسبان المتزمّتين منهم، في حين كان يحتفي ويُعْنىَ بها آخرون، فهذا الكاردينال سيسنيروس أمر عام 1501 بحرق مكتبة مدينة الزّهراء التي كان فيها ما ينيف على ستمئة الف مخطوط في مكان يسمّى "باب الرملة " بغرناطة، وهو ما زال موجوداً فيها حتى اليوم، بالإسم العربيّ القديم نفسه، فاختفت العديد من المخطوطات وأمّهات الكتب النفيسة التى أبدعها علماء أجلاّء في مختلف فروع المعارف بالأندلس، ويُقال إنّ الجنود الذين كلّفوا بالقيام بهذه المهمّة كانوا يُخفون بعضَ هذه الكتب أثناء إضرامهم النارَ فيها في ثنايا أرديتهم لفرط جمالها، وروعتها، وبهائها، إذ كان مُعظمها مكتوباً بماء الذهب والفضّة. وقد وصف لنا العديد من شعراء الأندلس بحسرة ما بعدها حسرة كيف أنّ الإسبان بعد حروب الإسترداد كانوا يحرقون الكتبَ، والمخطوطات العربية، ويلطّخونها على مرأىً من الملأ وفي ذلك أشعار كثيرة مشهورة. وقد أعاد التاريخ نفسه في بلدان أميركا اللاتينية في ما بعد حيث قام الاسبان عند إكتشافهم لها عام 1492 بحرق العديد من المخطوطات، والكتب، والأسفار القديمة التي تعود لشعوب المايا، والأزتيك في المكسيك، ولشعوب الإنكا، والموشيك في البيرو، وقد تمّ ذلك أمام أعين أربابها السكّان الأصلييّن في هاذين البلدين وفي سواهما من بلدان أميركا اللاتينية الأخرى. وحرقُ الكتب أيّ إتلافها بالنار يجري عادة في العلن لأسباب أخلاقية أو سياسية، أو أيديولوجية، أو دينية. وقد يتمّ التخلّص من الكتب سريّا كما حدث لملايين الكتب التي تمّ إحراقها في الكتلة الشيوعية الشرقية. ويذكر لنا التاريخ العديدَ من الأمثلة لهذه الجرائم التي لا تُغتفر. فبالإضافة الى حرق كتب المسلمين في الأندلس، وكتب المايا والإنكا في المكسيك والبيرو، نذكر حرق الكتب على عهد أسرة تشين الصينية، وحرق النازييّن لكتب خصومهم في أوروبّا. وتُعتبر حوادث حرق الكتب مصائب وجرائم في حقّ العلم، والإنسانية تتذكّرها الأجيال تلو الأجيال بسبب قيمة هذه الكتب التي تُعتبر خسارة ثقافية فادحة لا تعوّض. مخطوطات مغربية بالأندلس يظنّ الكثيرون أنّ خزانة الإسكوربال، القريبة من مدينة مدريد، المليئة بالمخطوطات العربية الثمينة أنها من مخلّفات العلماء العرب والأمازيغ في إسبانيا، والحقيقة أنّ محاكم التفتيش الكاثوليكية كانت أحرقت كلّ الكتب العربية أينما وُجدت، ولم يبق بعد خروج العرب والبربر من الأندلس فى شبه الجزيرة الايبيرية كتب عربية تستحقّ الذّكر. وفي أيام السّعديين بالمغرب كان المنصور الذهبي مولعاً بإقتناء الكتب وجمع منها خزانة عظيمة، وسار خلفه إبنه زيدان على سنته في الإهتمام بالكتب، فنمّى الخزانة التي كانت عند والده. ولمّا قام عليه أحدُ أقاربه، وإضطرّ للفرار، كان أوّل ما فكر فيه خزانة كتبه، فوضعها في صناديق ووجّهها الى مدينة آسفي لتُشحن في سفينة كانت هناك لأحد الفرنسيين( القنصل الفرنسي كاسطيلان) لينقلها الى أحد مراسي سوس. فلمّا وصلت السفينة إنتظر رئيسها مدّة أن يدفع له أجرة عمله، ولما طال عليه الأمر هرب بمركبه وشحنته الثمينة، فتعرض له في عرض البحر قرصان إسباني يُسمّى( الأميرال فاخاردو) وطارده للاستيلاء على الصناديق، ولا شكّ أنهم كانوا يظنّون أنها مملوءة بالذهب، واستولوا بالفعل على المركب الفرنسي وأخذوا الصناديق، فلمّا فتحوها ولم يجدوا بها إلا الكتب، فكروا، من حُسن الحظ أن يقدّموها هديّة لملكهم. ولما وصلت هذه الكتب إلى الملك فيليبي الثاني، الذي كان منهمكاً في بناء الدّير الفخم للقدّيس لورينثو بالمحلّ المُسمّى اليوم الإسكوريال أوقفها على هذا الدّير، وهي التي لا تزال إلى اليوم موجودة به، ويقصدها العلماءُ من كلّ الأقطار للإستفادة من ذخائرها، ونفائسها.(أنظر مقالنا حول هذا الموضوع الحيوي الخطير الذي يحمل عنوان : (أما آن للمغرب أن يطالب بمخطوطاته فى الإسكوريال..؟!)المنشورفى"هيسبريس"بتاريخ 21ماي،2013رابط المقال(http://www.hespress.com/art-et-culture/79646.html.) طرائف وحكايات حول الكتاب كان الكتاب يحظى بعناية خاصّة عند العرب وما يزال، فقد جمع الخلفاء في المشرق والمغرب الآلاف من أمّهات الكتب والمخطوطات، فهذه مدينة قرطبة كانت تحفل بالمكتبات و أروقة العلم و بيوت الحكمة، كانت تزيّن خزانة الحكم المستنصر بها 861-976 أزيد من أربعمئة ألف مخطوط، هذا الرجل الذي قال عنه بول لين إنه دودة كتب، والذي عنه يقول إبن خلدون: إنّه جمع من الكتب ما لم يجمعه أحد من الملوك قبله . كما إعتنى هارون الرشيد في المشرق بجلب العديد من الكتب والمخطوطات من الدّيار التي فتحها. وقد بلغ نشاط بيت الحكمة ببغداد ذروته على عهد الخليفة المأمون الذي أولاه عناية خاصّة، ووهبه كثيرا من ماله ووقته. وأهمّ ما ميّز بيت الحكمة الخزانة العظمى التي كانت بها وقد تمّ تدمير العديد من نفائسها على يد المغول عام 1258. كان العلماء المسلمون وغير المسلمين يحبّون الكتب حبّا جمّا، الجاحظ مات تحت أكوام كتبه، وكانوا يتحمّلون المشاقّ وعناء السّفر ووعثائه لطبع كتبهم، وكانت إعارة الكتب شيئاً ممقوتاً عندهم، وكان شاعرهم يقول في ذلك: ألا يا مُعيرَ الكتب دعني/فإنّ إعارة الكتب عار. وكانوا يقولون إنّ الكتاب الذي يعار لا يردّ إلى صاحبه، وهم محقّون في ذلك، إذ يُحكى أنّ الكاتب الفرنسي إميل زولا زاره ذات مرّة أحدُ أصدقائه في بيته، وعندما بدأ يطّلع ويتفقّد مكتبة زولا الكبيرة، فيأخذ كتاباً ثم يردّه إلى مكانه في رفوف المكتبة، وفجأةً وقع نظرُه على كتابٍ كان يبحث عنه منذ مدّة، فقال لصديقه زولا : هل لك أن تعيرني هذا الكتاب؟ فقال زولا له على الفور: لا، لا أستطيع أن أعيرك إيّاه، فالكتاب الذي يُعار لا يُردّ أبدا إلى صاحبه، والدّليل على ذلك أنّ معظم الكتب التي ترى في هذه المكتبة مُعارة.. ! وقال أحدُ الكتّاب الكولومبيّين: إنّ الذي يُعير كتاباً إقطع له يداً واحدةً، أمّا الذي يردّه إلى صاحبه فاقطع له الإثنتين.. !وكان الكاتب الإيرلندي الساخر برنارد شو يتجوّل ذات مرّة بسوق الكتب القديمة، وفجأة وقع نظرُه على كتابٍ له كان قد صدر مؤخّراً، وكان قد أهداه لأحد زملائه الأدباء، فباعه هذا الأخير من دون أن يفتح أوراقه التي كانت لا تزال لصيقةً ببعضها، كما كانت العادة بالنسبة إلى الكتب الصّادرة فى ذلك الحين، فاشترى شّو الكتاب، وكتب تحت الإهداء القديم ما يلي : برنارد شو يجدّد تحيّاته، ثمّ بحث عن صديقه وسلّمه إليه من جديد.. ! يقول المتنبّي عن الكتاب: أعزّ مَكانٍ في الدّنى سرجُ سابحٍ/وخيرُ جَليسٍ في الزّمان كتابُ. وكان عبّاس محمود العقاد يقول: أنا من بدّل بالكتب الصّحابَا/لم أجدْ لي وفيّا إلاّ الكتابَا.