مع تزايد قياسي في عدد السياح الروس.. فنادق أكادير وسوس ماسة تعلم موظفيها اللغة الروسية    حارس اتحاد طنجة الشاب ريان أزواغ يتلقى دعما نفسيا بعد مباراة الديربي    إبراهيم دياز مرشح لخلافة ياسين بونو ويوسف النصيري.. وهذا موقف ريال مدريد    نهيان بن مبارك يفتتح فعاليات المؤتمر السادس لمستجدات الطب الباطني 2024    إقليم الحوز.. استفادة أزيد من 500 شخص بجماعة أنكال من خدمات قافلة طبية    تنوع الألوان الموسيقية يزين ختام مهرجان "فيزا فور ميوزيك" بالرباط    الصحة العالمية: جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة    بنكيران: مساندة المغرب لفلسطين أقل مما كانت عليه في السابق والمحور الشيعي هو من يساند غزة بعد تخلي دول الجوار        نادي عمل بلقصيري يفك ارتباطه بالمدرب عثمان الذهبي بالتراضي    مدرب كريستال بالاس يكشف مستجدات الحالة الصحية لشادي رياض    مواقف زياش من القضية الفلسطينية تثير الجدل في هولندا    مناهضو التطبيع يحتجون أمام البرلمان تضامنا مع نساء فلسطين ولبنان ويواصلون التنديد بالإبادة    توقعات أحوال الطقس لليوم الأحد    إعطاء انطلاقة خدمات 5 مراكز صحية بجهة الداخلة وادي الذهب        بعد الساكنة.. المغرب يطلق الإحصاء الشامل للماشية    ما هو القاسم المشترك بيننا نحن المغاربة؟ هل هو الوطن أم الدين؟ طبعا المشترك بيننا هو الوطن..        الإعلام البريطاني يعتبر قرار الجنائية الدولية في حق نتنياهو وغالانت "غير مسبوق"    الدكتور محمد نوفل عامر يحصل على الدكتوراه في القانون بميزة مشرف جدا    فعاليات الملتقى العربي الثاني للتنمية السياحية    موجة نزوح جديدة بعد أوامر إسرائيلية بإخلاء حي في غزة    الأمن الإقليمي بالعرائش يحبط محاولة هجرة غير شرعية لخمسة قاصرين مغاربة    "كوب-29": الموافقة على 300 مليار دولار سنويا من التمويلات المناخية لفائدة البلدان النامية    موسكو تورد 222 ألف طن من القمح إلى الأسواق المغربية    الصحة العالمية: جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة    ثلاثة من أبناء أشهر رجال الأعمال البارزين في المغرب قيد الاعتقال بتهمة العنف والاعتداء والاغتصاب        ترامب يستكمل تشكيلة حكومته باختيار بروك رولينز وزيرة للزراعة    الأرصاد: ارتفاع الحرارة إلى 33 درجة وهبات رياح تصل 85 كلم في الساعة    ⁠الفنان المغربي عادل شهير يطرح فيديو كليب "ياللوبانة"    قاضي التحقيق في طنجة يقرر ايداع 6 متهمين السجن على خلفية مقتل تلميذ قاصر    عمر حجيرة يترأس دورة المجلس الاقليمي لحزب الاستقلال بوجدة    الغش في زيت الزيتون يصل إلى البرلمان    مظلات ومفاتيح وحيوانات.. شرطة طوكيو تتجند للعثور على المفقودات    أفاية ينتقد "تسطيح النقاش العمومي" وضعف "النقد الجدّي" بالمغرب    الاحتفال بالذكرى السابعة والستين لانتفاضة قبائل ايت باعمران    كوب 29: رصد 300 مليار دولار لمواجهة التحديات المناخية في العالم    قوات الأمن الأردنية تعلن قتل شخص بعد إطلاقه النار في محيط السفارة الإسرائيلية    المغرب يرفع حصته من سمك أبو سيف في شمال الأطلسي وسمك التونة    دولة بنما تقطع علاقاتها مع جمهورية الوهم وانتصار جديد للدبلوماسية المغربية    المغرب يعزز دوره القيادي عالميا في مكافحة الإرهاب بفضل خبرة وكفاءة أجهزته الأمنية والاستخباراتية    هزة ارضية تضرب نواحي إقليم الحسيمة    لقجع وبوريطة يؤكدان "التزام" وزارتهما بتنزيل تفعيل الطابع الرسمي للغة الأمازيغية بالمالية والخارجية    مؤامرات نظام تبون وشنقريحة... الشعب الجزائري الخاسر الأكبر    المخرج المغربي الإدريسي يعتلي منصة التتويج في اختتام مهرجان أجيال السينمائي    حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري بالدار البيضاء    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    نمو صادرات الصناعة التقليدية المغربية    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    بنسعيد: المسرح قلب الثقافة النابض وأداة دبلوماسية لتصدير الثقافة المغربية    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



على هَامِش مَعْرِض الدّار البيضاء للكِتَاب
نشر في هسبريس يوم 06 - 02 - 2019

أَنَا مَنْ بَدَّلَ بِالكُتْبِ الصَّحَابَا // لَمْ أَجِدْ ليِ وَافِيّاً إِلاَّ الكِتَابَا
يُستفاد من الجهات المسؤولة عن الشأن الثقافي في المغرب أنّ أهم محاور برنامج الدورة الخامسة والعشرين من المعرض الدولي للنشر والكتاب المزمع تنظيمه في مدينة الدار البيضاء في الفترة المتراوحة بين 7 و17 فبراير الجاري 2019، أنه سيعرف مشاركة أكثر من 700 عارض، يمثلون أزيد من 40 بلداً، ومن المنتظر أن تحتفي هذه الدورة بالأدب الاسباني كضيف شرف لهذا المعرض، الشيء الذي يعكس عمق العلاقات الثقافية التي ربطت منذ قرون بين البلدين، وما عرفته من تلاقح وتثاقف، وتأثر وتأثير، حيث سيتمّ في هذا السياق استضافة مجموعة من الأسماء الإبداعية في كلٍّ من المغرب واسبانيا خلال فعاليات هذا المعرض.
إطلالة على تاريخ الكتابة والكتاب
على هامش هذا المعرض الكبير، ومعارض "الكِتاب" الكبرى التي تُنظّم بين الفينة والأخرى في مختلف العواصم العربية والعالميّة على امتداد الحَوْل، أدعو القارئ الكريم إلى جولة في عالم الكِتَابة، والكَتبَة، والكُتّاب، والكِتاب، هذا الجليس، الأنيس، المعلّم، الوفيّ، الصّامت، الناطق، الصّادق الذي رافق الإنسانَ منذ أقدم العهود، وما زال يلازمه، ويصاحبه، ويرافقه، ويؤنسه إلى يومنا هذا، حتّى في زخم عصر التطوّر التقني (التكنولوجي) الهائل والمُذهل، وفي دنيا الإعلاميات والاتصالات وما تطلع به علينا كلّ يوم من اختراعات واستنباطات متطوّرة في عالم الحواسيب، والعقول الإلكترونية، والشّابكة (الإنترنيت) وشبكاته العنكبوتية المتشعّبة، واستعمالاته المتعدّدة والمحيّرة من ذاكرة الحاسوب، وكتبه الإلكترونية، وفيسبوك، والرّائي أو المشواف (التلفاز)، وسواه من الجديد المتواتر المُبتكَر الذي ما انفكّ يفاجئنا به هذا العصر العجيب، مع ذلك ما زال الكتاب موجوداً، ومحبوباً، ومطلوباً، وحاضراً بقوّة بيننا، بل إنه ما فتئ يحتلّ مكانَ الصّدارة بين ظهراننا وَرَقيّاً وإلكترونيّاً على حدٍّ سواء.
الكتاب... أيّ سرّ أو سحر يكمن بين دفّتي هذا الخِلّ الوفيّ، والصّديق الأمين، والجليس الأنيس، والسّاهر السّامر؟ ما أصله؟ ما قصّته وتاريخه وتطوّره؟ ما هي معاناته؟ ما هي المخاطر التي تحدق به والتهديدات التي تلازمه وتلاحقه؟ وما نوعيّة الجرائم والفظائع التي ارتكبت وما زالت تُرتكب في حقّه؟ ما هي مآسيه ومحنه واغترابه واستلابه؟ ماهي أخباره وحكاياته وطرائفه ومكانته عند الناس والخلفاء والأدباء والشّعراء؟
كان أمير الشعراء أحمد شوقي يقول: "أنا من بدّل بالكتب الصّحابَا // لم أجد لي وافيّا إلاّ الكتابَا". ويقول أحمد أبو الطيّب المتنبّي في بيته المشهور: "أعزُّ مكانٍ في الدّنى سرجُ سابحٍ // وخيرُ جليسٍ في الزّمان كتاب".
القرطاسُ والقلمُ
بدأت الكتابة في العهود الغابرة من الأزمان في شكل صُورٍ تدلّ على معاني ومدلولات ملموسة في الحياة اليومية للإنسان القديم، وقد تمّ العثور على الكثير من النقوش والصّور والرموز التي تدلّ على معاني ومفاهيم معيّنة في منطقة الهلال الخصيب، خاصّة في الحضارة السومرية قبل حوالي ستّة آلاف سنة، وقد عرفت الكتابة عندهم بالمسمارية أو الإسفينية، كما تمّ العثور في مناطق أخرى من العالم على بعض الرسوم والصّور مثل تلك التي عثر عليها في كهوف "ألتاميرا" في إسبانيا، و"لاسكو" في فرنسا، أو رسوم "ناسكا" في البيرو عند شعوب الأنكا والموشيك وسواها من المناطق الأخرى من العالم.
وفي مرحلة متقدمة من التاريخ البشري جاء الفينيقيون وابتكروا الكتابة مستعينين بالسومرية والمصرية القديمة، ثم جاء الإغريق وطوّروا أبجديتهم نقلاً عن الفينيقيين، ثم أصبحت عندهم أبجدية خاصة بهم أصبحت فيما بعد الأبجدية الخاصّة بالغرب، ثم جاء الرّومان وأخذوا الأبجدية الإغريقية، وقد سادت اللغة الرومانية واللاّتينية في مختلف الأصقاع الأوروبية بعد سيطرة الإمبراطورية الرومانية على بلاد الغرب.
وجاءت الكتابة العربية متأخرة، "إذ يعود تاريخ ظهورها إلى حوالي 600 ق م، من التاريخ، والأبجدية العربية مشتقة من الكتابة السّامية، جاءت من رحم اللغة الآرامية السّريانية بنت الكنعانية وربيبتها"، وبدأت الكتابة العربية تنتشر في الأصقاع بعد أن قرّر الخلفاء الراشدون تدوين القرآن الكريم على عهد الخليفة عثمان بن عفّان، ثم انتشرت الكتابة العربية انتشاراً واسعاً مع انتشار الدين الإسلامي الحنيف.
والأبجدية العربية مشتقة من الكتابة السامية التي اشتقت بدورها من الأبجدية الفينيقية التي وصلت العرب عن طريق الأنباط الذين تأثّروا بحضارة الآراميين وطريقة الكتابة عندهم.
وفي القرن الثامن للميلاد، شرع العرب في استخدام الورق الذي ابتكره الصينيّون بدلاً من الرقّ أو الجلود، بعد ذلك أسّس العرب مصانعَ للورق، وعنهم أخذته البلدان الأوروبية في القرن الثاني عشر.
وقد أنشئ أوّل مصنع للورق في إنجلترّا في القرن الخامس عشر. وفي عام 1436 اخترع "غوتينبرغ" الطباعة فكان ذلك الاختراع قفزة عظيمة وفتحاً مبيناً في تاريخ الكتابة ثمّ الكتاب الذي تمّ نقله من طور القرطاس والقلم، والمخطوط الغميس، إلى المكتوب أو المطبوع الصقيل.
يؤكد الباحث في التاريخ القديم إلياس غندور أيوب عطا الله في كتابه "الكون والإنسان بين التطوّر والعلم والتاريخ" أنّ "الكتابة الأبجدية الكنعانية (الكنعانيون وهم من زمن 4000 ق م،) ابتكرها تاووتس الكنعاني ابن ميسور، أو ميزور، ابن اميتس ابن كنعان ابن حام، بحوالي 500 سنة قبل أن يولد الفينيقيون في التاريخ، علماً أن الفينيقيين هم أحفاد الكنعانيين، وأنّ قدموس الكنعاني شقيق فينيقس وكيليكس وأوروبا، جميعهم أولاد أجينور أو أشنار ملك صور اللبنانية في القرن 13 ق م، هو الذي حمل الأبجدية الكنعانية، وليس الفينيقية، إلى بلاد الإغريق حوالى 1250 ق م.
وحديثاً عثر علماء اليونان/ الإغريق على عملات معدنية من العصر الكنعاني عليها صورة قدموس يعلّم الناسَ هناك الكتابة الكنعانية.
ويرى الأستاذ غندور أنّ "اللغة اللّاتينية التي اشتقت منها معظم اللغات الأوروبية هي بنت اللغة الكنعانية، منها اشتقت، وتحمل ملامحها في جميع صورها ومعانيها. وبعد الكنعانيين، طوّر الفينيقيّون الكتابة ببراعتهم مستعينين بالإرث الكنعاني ثم بالسّومرية، والمصرية القديمة".
ويؤكد الباحث في اللغة الأمازيغية الأستاذ محمد حمزة من جهة أخرى أنّ "الدراسات الحديثة أثبتت أن التيفيناغ هو سابق للأبجدية الفينيقية بقرون. وهو من الكتابات القديمة التي يُقال إنها كانت موجودة في وقت الكتابة الأولى التي عرفت في منطقة سومر ببلاد الرافدين"، ويوجد مِن المختصّين مَنْ يؤكد أنّها عاصرت الكتابات المسمارية القديمة، كما تشير عدّة نظريات إلى أنّ كتابة التيفيناغ هي إنتاج محلي للأمازيغ في شمال إفريقيا.
وترجع بعض الدراسات التيفيناغ إلى الكتابة الليبية القديمة التي تعود إلى آلاف السنين المدوّنة في الرّسومات الحجرية، حيث جرى تحوّل من الرّسومات التي تجسّد كلَّ شيء إلى ما يُسمى التجريد إلى أشكال هندسية، وهذا ما يؤكد أن الإنسان في شمال إفريقيا انتقل من الرّسم إلى الكتابة، وعلى سبيل المثال انتقل من رسم المرأة إلى الترميز لها من خلال شكل المثلث الموجود في الكتابات والرسوم، وهو نفسه الحرف (ت) أو (T)".
بَابُ الرّمْلَة وجرائم الحرائق
تعرّضت الكتبُ والمخطوطاتُ منذ أقدم العصور إلى المتابعة، والمصادرة، والرقابة، والحرق، والدمار، والإتلاف... فقد كان الكتاب منذ القدم هو الوسيلة التي تنقل بواسطته العلوم والمعارف وأسرار الحروب وخطط الدفاع والهجوم، وفيها كانت تُسجّل الاختراعات وأسرار الدّول والصنائع، والمُخترعات، بل كان الكتاب هو السّلاح الفتاك، والوسيلة المثلى والأنجع للتنوير والتعليم وتثقيف العقول وتهذيب النفوس وتغذية القلوب وملئها بنور الإيمان والهداية.
كان أوّل ما نزل من القرآن الكريم "إقرأ"، وفي سورة البقرة يردُ اسمُ الكتاب، كتاب الله، فيقول جلّ جلاله: "ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتقين".
وكانت كتب المسلمين في الأندلس تثير الرعبَ والهلعَ في قلوب الإسبان المتزمّتين منهم، في حين كان يحتفي ويُعنىَ بها آخرون، فهذا الكاردينال سيسنيروس أمر عام 1501م بحرق مكتبة "مدينة الزّهراء" التي كان بها ما ينيف على 600.000 مخطوط في مكان يسمّى "باب الرملة" بغرناطة، وهي ساحة كبرى معروفة ما زالت موجودة بها بنفس هذا الاسم العربي القديم حتى اليوم، يؤمّها السيّاح من مختلف أنحاء العالم، ويشرئبّون بأعناقهم لمشاهدة اللوحة الرّخامية التي كتب عليها هذا الاسم الذي أصبح لصيقاً ومقروناً باسم هذا الكاردينال ولكنهم لا يعرفون شيئاً عن فعلته الشنعاء، وجريمته النكراء التي دمّرت واختفت على إثرها العديد من المخطوطات وأمّهات الكتب النفيسة التي أبدعها علماء أجلاء في مختلف حقول العلم، وفروع المعارف بالأندلس.
ويقال إنّ الجنود الذين كلّفوا بالقيام بهذه المهمّة كانوا يخفون بعضَ هذه الكتب أثناء إضرامهم النارَ فيها في أرديتهم لفرط جمالها وروعتها؛ إذ كان معظمها مكتوباً بماء الذهب والفضّة، ولقد ظلّت هذه الحماقة الهوجاء وصمة عار ونقطة قاتمة في التاريخ الأسود لإسبانيا المتزمّتة إبّان محاكم التفتيش.
قال المؤرخ والباحث الإسباني إيتشيبيريا في كتابه "جولات في غرناطة ونواحيها" عن العدد الحقيقي لما حُرق من الكتب في هذه المحرقة الفظيعة: "إن عدد الكتب الإسلامية الأندلسية التي تمّ إحراقها في الساحة تجاوز مليونا وخمسة وعشرين ألف كتاب، عملية الإحراق أشرف عليها الكاردينال سيسنيروس، (كما سبقت الإشارة إلى ذلك آنفاً) لفرض نسيان شامل، ومسح التاريخ الأندلسي من الذاكرة واقتلاع الشعب الأندلسي من جذوره.
التاريخُ يُعيد نفسَه
وقد وصف لنا العديد من شعراء الأندلس بحسرة ما بعدها حسرة في هذا السياق كيف أنّ الإسبان بعد حروب الاسترداد كانوا يحرقون الكتب والمخطوطات والمصاحف ويلطّخونها على مرأى من المسلمين، وفي ذلك أشعار كثيرة مؤلمة منها هذه الأبيات التي يخبرنا فيها شاعر أندلسي متحسّراً بأنّ "سلطان الإسبان وكبيرهم" قد فعل بهم كيت، وكيت من الفظائع والأهوال، إلى أن يقول:
وأحرق ما كانت لنا من مصاحف// وخلّطها بالزّبلِ أو النجاسةِ
وكلّ كتابٍ كان في أمرِ ديننا // ففي النّار ألقوْه بهزءةٍ وحقرةِ
ولم يتركوا فيها كتاباً لمسلمٍ // ولا مُصحفاً يُخلىَ به للقراءةِ
وقد أعاد التاريخُ نفسه في بلدان أمريكا اللاتينية حيث قام الاسبان عند اكتشافهم لها بحرق العديد من المخطوطات والكتب القديمة التي تعود إلى شعوب المايا والأزتيك في المكسيك، وشعوب الإنكا والموشيك في البيرو، وقد تمّ ذلك أمام أعين أربابها السكّان الأصلييّن في هاذين البلدين وفي سواهما من بلدان أمريكا اللاتينية.
وحرقُ الكتب، أيّ إتلافها وتدميرها بالنار، يجري في بعض الأحيان لأسبابٍ أخلاقية، أو سياسية، أو دينية، أو انتقامية. وقد يتمّ التخلّص من الكتب سريّاً كما حدث لملايين الكتب التي تمّ إحراقها في الكتلة الشيوعية الشرقية قبل سقوط حائط برلين.
ويذكر لنا التاريخ العديد من الأمثلة لهذه الجرائم التي لا تغتفر. فبالإضافة إلى حرق كتب المسلمين في الأندلس، وكتب المايا والإنكا في المكسيك والبيرو، نذكر حرق الكتب على عهد أسرة "تشين" الصينية، وحرق النازيّين لكتب خصومهم في أوروبا. وتعتبر عمليات حرق الكتب جرائم في حقّ العلم، والفكر، والإنسانية، والتاريخ.
مخطوطات مغربية بالإسكوريال
يظنّ الكثيرون أنّ مكتبة الإسكوريال الشهيرة القريبة من العاصمة الإسبانية مدريد المليئة بالمخطوطات العربية الثمينة هي من مخلفات العرب في إسبانيا، والحقيقة أنّ محاكم التفتيش الكاثوليكية كانت أحرقت كلّ الكتب لعربية أينما وجدت، ولم يبق بعد خروج المسلمين من شبه الجزيرة الإيبيرية كتب عربية تستحقّ الذكر.
وفي أيّام السعديين بالمغرب كان المنصور الذهبي مولعاً باقتناء الكتب وجمَع منها خزانة عظيمة، وسار خلفه ابنه زيدان على سنته في الاهتمام بالكتب، فنمّى الخزانة التي كانت عند والده. ولمّا قام عليه أحد أقاربه واضطرّ للفرار كان أوّل ما فكر فيه خزانة كتبه فوضعها في صناديق ووجّهها إلى مدينة آسفي لتشحن في سفينة كانت هناك لأحد الفرنسيين لينقلها إلى أحد مراسي سوس.
فلمّا وصلت السفينة انتظر رئيسها مدّة أن يدفع له أجرة عمله، ولما طال عليه الأمر هرب بمركبه وشحنته الثمينة، فتعرّض له في عرض البحر قرصان إسباني وطارده حتّى استولى على المركب الفرنسي وأخذ الصناديق، فلمّا فتحوها ولم يجدوا بها إلاّ الكتب، فكروا، من حسن الحظ، أن يقدّموها هدية لملكهم.
ولما وصلت هذه الكتب إلى الملك فيليبي الثاني، الذي كان منهمكاً في بناء الدير الفخم للقدّيس "لورينثو" بالمحلّ المُسمّى بالإسكوريال، أوقفها على هذا الدّير، وما تزال إلى اليوم موجودة به، ويقصدها العلماءُ من كلّ الأقطار للاستفادة من ذخائرها ونفائسها الثمينة.
الكتابُ وطرائفُه
كان الكتاب يحظى بعناية خاصّة عند العرب، وكان وما يزال يحظى عندهم باهتمام بالغ، وقد جمع الخلفاء في المشرق والمغرب الآلاف من أمّهات الكتب والمخطوطات، فمدينة قرطبة كانت تحفل بالمكتبات وأروقة العلم وبيوت الحكمة، كانت تزيّن خزانة "الحكم المستنصر" بها (861-976 م) أزيد من أربعمائة ألف مخطوط، هذا الرجل الذي قال عنه "بول لين" إنّه دودة كتب، والذي عنه قال ابن خلدون: "إنه جمع من الكتب ما لم يجمعه أحد من الملوك قبله".
كما اعتنى هارون الرشيد في المشرق بجلب العديد من الكتب والمخطوطات من الديّار التي فتحها. وقد بلغ نشاط بيت الحكمة ببغداد ذروته على عهد الخليفة المأمون الذي أولاه عناية خاصّة ووهبه كثيرا من ماله ووقته. وأهمّ ما ميّز بيت الحكمة الخزانة العظمى التي كانت به، وقد تمّ تدمير العديد من نفائسها على يد المغول عام 1258 م.
كان علماء المسلمين يحبّون الكتبَ حبّاً جمّاً، وقد شُغفوا بها شغفاً كبيراً، الجاحظ مات تحت أكوام كتبه، وكانوا يتحمّلون المشاق وعناء السفر لطبع كتبهم أو اقتنائها أو بيعها، وفى الأندلس كان يقال: إذا أفلس عالم في غرناطة باع كتبه في قرطبة، وإذا أفلس موسيقيّ في قرطبة باع أدواته في غرناطة. وكانت إعارة الكتب شيئاً ممقوتاً عندهم، وكان شاعرهم يقول في ذلك:
ألا يَا مُسْتَعيرَ الكُتْبِ دعْنِي // فَإنَّ إعَارتي للكُتْبِ عَارُ
ومَحْبُوبي منَ الدنْيَا كِتابٌ // وهَلْ أبْصَرتَ محبُوباً يُعَارُ؟
وكانوا يقولون إنّ الكتاب الذي يعار قد لا يردّ إلى صاحبه، وهم محقّون في ذلك؛ إذ يحكى أنّ الكاتب الفرنسي "إميل زولا" زاره ذات مرّة أحدُ أصدقائه في بيته، وعندما بدأ الصديق يطّلع ويتفقّد مكتبة "زولا "الكبيرة، فيأخذ كتاباً يتمعّنه ثم يردّه إلى مكانه في رفوف المكتبة، وفجأة وقع نظره على كتابٍ كان يبحث عنه منذ مدّة، فقال لصديقه زولا: هل لك أن تعيرني هذا الكتاب؟ فقال زولا له على الفور: لا، لا أستطيع أن أعيرك إيّاه، فالكتاب الذي يعُار لا يُردّ إلى صاحبه أبداً، والدّليل على ذلك أنّ مُعظم الكتب التي ترى في هذه المكتبة مُعارة !
وقال أحد الكتّاب الكولومبيين: إنّ الذي يُعير كتاباً اقطع له يداً واحدةً، أمّا الذي يردّه إلى صاحبه فاقطع له الاثنتين !وكان الكاتب الإيرلندي السّاخر جورج برنارد شّو يتجوّل ذات مرّة بسوق الكتب القديمة بلندن، وفجأةً وقع نظره على كتابٍ له كان قد صدر مؤخراً، وكان قد أهداه لأحد زملائه الأدباء، فباعه هذا الأخير دون أن يفتح أوراقه التي كانت ما تزال لصيقةً ببعضها كما كانت تصدر الكتب في ذلك الوقت، فاشترىَ شو الكتابَ، وكتب تحت الإهداء القديم: برنارد شو يُجدّد تحيّاته، ثمّ بحث عن صديقه وسلّمه الكتابَ من جديد!
*كاتب، وباحث من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانيّة-الأمريكيّة للآداب والعلوم-بوغوطا-كولومبيا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.