كثيراً ما شكّلت المقابر جزءاً من ثقافة الشعوب، فإن كانت مدن كثيرة تجتهد من أجل جعل عمرانها علامة مميّزة على أصالتها وطابعها الخاص، فإن المقابر لم تصر فقط سمة مميّزة لمدينة أو دولة أو قارة أو حضارة ما، ولكنها صارت علامة فارقة بين العشاق، الأغنياء، الفقراء، المتدينين، العقلانيين.. وحتى وسيلة لمباشرة تجارة مربحة تُعرف بتجارة القبور. في ضاحية مونتباوا بغرب ألمانيا، تباينت المقابر بشكل واضح ومستفز، قبر صغير لا يكفي حتى طفلاً في أعوامه الاولى، وآخر ضخم قد يكفي ثلاثة أشخاص، بينما في بعض الأرجاء يظهر لك قبر متواضع، ينحني خجلاً من أن تفضح قبور أعلى منه، فقر وضُعف الأسرة التي شيّدته. إذا كان الموت أقلّ تكلفة مادية في المغرب من قدوم إنسان جديد إلى هذا العالم، حيثُ يُمكن دفن الميت بشكل مجاني في أرض مملوكة للدولة، فإنه في غالبية الدول الأوروبية، ومنها ألمانيا، على أسرة الميت كراء قطعة أرض لمدة محدودة من الزمن. غير أن التكاليف لا تتوقف هنا، فشتّان بين أرض في المدينة وأرض في القرية، وشتّان بين قبر عادي وآخر باذخ. الكراء يستعمر حتى مساحات الموت سألنا أماً سبق لها أن دفنت ابنها الذي قضى نحبه في حادثة سير حول الثمن الذي اكترت به القطعة الأرضية في مقبرة مونتباوا، فأجابتنا بأنه يصل إلى 450 أورو لمدة 30 سنة. أي أنه بعد انقضاء هذه المدة، ستكون الأسرة مضطرة إلى إعادة دفع المبلغ من جديد. وإذا ما توفيت أمه، فعلى فرد من أفراد العائلة التكلّف بدفع الثمن، وإلا فقد تزيل البلدية هذا القبر من مكانه. أما في مدينة بون، العاصمة السابقة لألمانيا الاتحادية، فالثمن مرتفع بشكل واضح. أخبرتنا أسرة ألمانية أن سومة الكراء تترواح ما بين 90 و 300 أورو سنوياً، في عقد يصل إلى 15 سنة قابل للتمديد. وهي سومة تبقى أقلّ من تلك المتواجدة في بعض المقابر بمدن ألمانية وأوروبية أخرى. هناك بعض الولايات في ألمانيا التي تسمح للأسرة بكراء قطعة أرضية لدفن فقيدها قبل موته، وهناك من تؤكد على أن كراء الأرض لا يتم إلّا عندما تحدث الوفاة فعلياً وفق شروط محددة تُحتم أن يكون الميّت ابناً للمدينة أو القرية التي سيدفن فيها، أو أن يكون قد توفي فيها. أقساط لشراء القبور لكن قبل إيجاد الأرض ودفع ثمنها، فالأسر تعاني مع إجراءات تسجيل الميت في قوائم الراحلين، حيث يبلغ الثمن في بون مثلا حوالي 100 أورو، كما أن بعض الأسر تجد نفسها لا تفهم في مثل هذه التعقيدات الإدارية، فتلجأ إلى خدمات "مدير الجنازات" الذي يتكلف بكل شيء مقابل مبلغ مادي مهم. تضيف لنا الأم التي التقينا بها في مونتاباوا أن ابتياع قبر جميل المنظر لابنها الراحل كلّف الأسرة حوالي أربعة آلاف أورو، وهو ثمن منخفض إذا ما قارناه بقبور أخرى دفعت فيها الأسر حوالي 15 ألف أورو. لكن ماذا عن أصحاب الدخل المحدود الذين لا يملكون هذا الثمن؟ تجيبنا الأم بأن هناك بعض الثوابيت غير المُكلّفة والتي لا تستدعي تشييد بناء فوقها، حيثُ يمكن للأسرة دفن التابوت في الأرض، وإضافة علامة إسمنتية فوقه، في عملية تتراوح بين 400 أورو وثلاثة آلاف، حسب طبيعة الخشب والزخرفة. أما الأسر التي تعاني من ضائقة مالية، فمجموعة من البلديات تقترح عليها قرضاً لتشييد قبور من رحلوا عنها، مقابل تسديد قيمة القرض بأقساط شهرية أو سنوية. فليس فقط قبر الحياة هو من يُوجب على الإنسان تسديد ثمنه عبر اقتطاعات، ولكن كذلك قبر الممات ! توديع الأحباء عبر حرقهم كثيرة هي الأسباب التي تدعو مجموعة من الأسر الأوروبية إلى حرق أحبائها بدل دفنهم، حتى ولو كان الأمر غير مقبولة من وجهة نظر الكنائس المسيحية. هناك أسباب صحيّة انتشرت منذ القرن التاسع عشر وصارت أكثر شعبية بعد الحرب العالمية الثانية، تتحدث عن أن الحرق هو الوسيلة الأكثر أماناً لتفادي انتشار بعض الأويئة والأمراض التي قد تسرح بين جثث الراحلين. غير أن الأسباب التي جعلت ظاهرة الحرق تنتشر، وفق ما استقيناه من شهادات، تبقى بالأساس مادية، فالثمن لا يزيد عن 500 أورو، يشمل الحرق ووعاء الرماد وقبراً صغيرا، فضلاً عن أن ثمن الكراء يكون منخفضاً للغاية، وهو ما يُشجع الأسر متواضعة الدخل على اتباع هذه الطريقة التي لا تختلف عن الحرق الذي نشاهده عادة في الأفلام الهندية، إلّا في دفن الرّفات في مقبرة، بينما يرمي الهندوس رفات موتاهم في المياه. ومن الحب ما جمع عند الموت وأنت تمرّ بين قبور مونتباوا، تكتشف ضخامة البعض منها، وعندما تدقق النظر، تجد أن الأمر يتعلق بقبرين متلاصقين يجمعان زوجاً وزوجة، أصرّا أن يبقى القرب عنواناً لعلاقتهما حتى والحياة فارقت جسديهما. تقول لنا الأم التي رافقتنا في هذه الزيارة إنه في حالة وفاة الأب مثلاً، تسمح قوانين الولاية للأسرة بأن تحتفظ بمساحة قرب قبر الراحل، كي تُدفن بقربه زوجته عندما ترحل هي الأخرى، بينما تتيح قوانين بلديات أو ولايات أخرى للأسرة بالاحتفظ بمساحة لدفن عدد من أفرادها، وهو ما صار نادراً بحكم قلة أراضي الدفن. غير أن هذا الحنان الظاهر في المقابر الأوروبية، لا يمنع البلديات من أخذ قرارات قاسية في بعض الأحيان، فهذه المقبرة التي وثقناها بالصور، تبقى مقبرة جديدة قامت قبل ثلاثين سنة على أنقاض مقبرة قديمة. لكن ماذا حلّ بالجثت القديمة؟ تجيبنا مرافقتنا أنها انتهت إلى باطن الأرض، وأن قبوراً جديدة حلّت مكانها ! ويظهر أن حظّ الكلاب قد يكون أوفر من حظّ بعض بني البشر، فعلى بُعد كيلومترات قليلة من هذه المقبرة، توجد مقبرة للكلاب بثمن رخيص للغاية، 300 أو 400 أورو تشمل كل شيء بما في ذلك ثمن الكراء لمدة غير محدودة. هناك تنعم حيوانات بما تبقى من عظامها، بينما لا تتبقى من بعض الجثث الإنسانية، غير رفات واسم وكتلة إسمنت !