يفضل 80 بالمائة من المسلمين في فرنسا ومنهم مغاربة، الدفن بعد موتهم في بلدانهم الأصلية، لعدة أسباب تختلف حسب الأحوال، فالبعض منهم يرون أن بدفنهم في مقابر بلد المهجر قد يعرض قبورهم للانتهاك سواء عن طريق تدنيسها من طرف بعض المتطرفين المعادين للإسلام والذين تصاعدت موجات عدائهم للمسلمين في فرنسا على الخصوص في الآونة الاخيرة، أو عن طريق الإجراء الذي تقوم به السلطات الفرنسية عليهم، بإخراج عظامهم بعد مضي 30 عاما وحرقها في حال عدم تجديد دفع أجر القبر المقدر ثمنه ب1000 يورو. هذا وتبقى الأسباب الاجتماعية أهم ما يدفع المسلمين في الخارج إلى نقل جثامين موتاهم إلى البلد الأصلي، وذلك حتى يكون مثواهم الأخير بالقرب من أهلهم وحتى يدفنوا في الأرض حيث ولدوا ويجدوا من يزورهم ويترحم عليهم ويقرأ عليهم القرآن بعد أن يفارقوا دنيا الناس. في فرنسا مثلا حيث يقيم نصف مليون مغربي، توجد مقبرتان إسلاميتان واحدة في مدينة بوبينيي في الضاحية الشرقية للعاصمة باريس، وأخرى في جزيرة ''لاريونيون''، وإلى جانب هاتين المقبرتين، تخصص السلطات الفرنسية قطع أرضية في المقابر العمومية لدفن موتى المسلمين الذين ترغب عائلاتهم في دفنهم في هذا البلد العلماني. وما يزال موضوع تخصيص مقابر للمسلمين مطلبا أساسيا للجمعيات المسلمة في هذا البلد الأوربي وبلدان أخرى تطرحه للنقاش في كل المناسبات المتاحة. هذا ويفضل المغاربة في فرنسا لأسباب اجتماعية وثقافية ودينية أن يدفنوا في بلدهم الأم، وبسبب عدد من الإكراهات الأخرى منها تكاليف الدفن المرتفعة بالنسبة للعائلات متوسطة الدخل كما أن القبر لا يعتبر خاصا للجثمان بل إن العائلات تكتري القبر لمدة محددة قد تكون 10 أعوام أو 15 أو 30 عاما، وبعد انقضاء هذه المدة المتعاقد عليها فإن عائلة الميت ملزمة بشرائه من جديد. وإذا لم يتم ذلك فإن السلطات الفرنسية يصبح لها الحق في إخراج بقايا الجثث وإحراقها لبيع القبر لعائلة أخرى. إخراج الجثة وحرقها أمر غير مقبول في الشريعة الإسلامية، وهذا ما يؤكده محمد المصلح عضو المجلس العلمي المحلي لوجدة، ل''التجديد''، فالإنسان المسلم له حرمته سواء كان حيا أوميتا، وبالتالي فلا يجوز نبش قبره إلا للضرورة ''القبر يعتبر حبسا على صاحبه ووقفا عليه فلا ينبش ولا يجلس عليه ولا تنقل قبور الموتى إلا إذا اقتضت المصلحة ذلك'' وذكر المصلح حادثة وردت في التاريخ الإسلامي عندما أصاب السيل الذي يأتي من وادي عقيق إلى المنطقة التي بها مقبرة شهداء أحد في عهد معاوية، وهو ما جعله يطلب من أبناء الصحابة الموجودين حينها أن يقفوا على قبور آبائهم أثناء نقلها. وأضاف أنه '' إذا كان للمسلمين مقابر في الدول الأجنبية التي يقيمون بها أو قطع أرضية مخصصة لدفنهم فهذا أمر محبذ، لأنه يتم احترام طقوس الدفن كما في الإسلام ومراعاة حرمات الميت''. غير أن السلطات الفرنسية، وأمام التزايد المطرد للجاليات المسلمة، التي تبلغ ستة ملايين شخص، باتت تعمل على احترام طقوس الدفن عند المسلمين وتتفادى عدد من المقاطعات حرق الجثث. أسباب اجتماعية ودينية نزهة الوافي فاعلة جمعوية في إيطاليا وبرلمانية مغربية توضح أن الجيل الأول من المسلمين المقيمين في الخارج يصرون على أن يدفنوا بعد موتهم في بلدهم الأم ويستبعدون فكرة الدفن في بلد الإقامة، وتشير في حديث ل''التجديد'' إلى أن هذا الإصرار له في علم الاجتماع رمزيته ودلالاته على الارتباط الوظيفي والقوي بالوطن. بعد آخر قوي تذكره الوافي يفسر هذا الأمر وهو بعد ديني، فالموت عند المسلمين فيه حضور قوي للعلاقة بالله عز وجل، وبالتالي ينصب التفكير على نقل الجثمان إلى بلدان إسلامية، والدفن في مقبرة إسلامية مائة بالمائة لأن ذلك يعني مرور المسلمين بها والترحم على كل الموتى والتوجه إلى الله بطلب المغفرة لهم جميعا كما أن الأهل سيتمكنون من زيارة قريبهم المتوفي وقراءة القرآن فوق قبره، وهذه الأمور كلها حاضرة في الذهنية الدينية والوعي الجمعي للمسلمين وخاصة أولئك القاطنين بالمهجر. البعد الثالث الذي تضيفه الوافي اجتماعي، يتجلى في إلحاح أسرة المتوفى وعائلته الكبيرة على أن يكون مثواه الأخير بجانبهم في البلد الأم حيث يضمنون أن يدفن وفق الطقوس الدينية والاجتماعية كاملة، وتبقى لدى هذه الأسر حرقة كبيرة وأسى إذا دفن فقيدهم في مكان بعيد عنهم لا يستطيعون زيارته للترحم عليه في المناسبات أو أيام الجمعة. على المستوى العملي خصصت الوزارة المكلفة بالجالية صندوقا خاصا بدفن الأموات، وذلك للاستجابة لرغبات المغاربة المقيمين في الخارج والذين يحرصون على أن يدفنوا في وطنهم الأم رغم ما يستتبع ذلك من مصاريف وتبعات مادية، إلا أن هذا الصندوق يواجه بعض العراقيل بسبب ضعف التنسيق بين وزارة الجالية والخارجية المغربية عن طريق قنصلياتها التي يفترض أن تسهر على تطبيق وتفعيل هذا الصندوق إلا أن ذلك لا يحصل في الغالب بسبب الضغط الإداري عليها، مما يدفع المغاربة إلى اللجوء للمساجد والمراكز الإسلامية لجمع التبرعات والمال اللازم لنقل جثمان المتوفي إلى المغرب. تؤكد الوافي أن الوضع بالنسبة للجيل الثاني والثالث مختلف، فهم ولدوا في بلاد المهجر وترعرعوا هناك ولا يرفضون فكرة أن يدفنوا فيه، خاصة وأن بعض الدول مثل فرنسا وبلجيكا وهولندا حيث توجد جالية مغربية مهمة وقديمة من حيث الوجود، تقدم خدمات بشكل يحترم الشريعة الإسلامية، حيث يخصصون مقابر للمسلمين كما يخصصون أماكن منفصلة في المقابر العمومية للمسلمين يدفنون فيها موتاهم وفق الطقوس الإسلامية، كما تشير الوافي إلى حرص المسؤولين في المستشفيات في الدول الأوربية على تسهيل عملية التغسيل والتكفين وغير ذلك من العمليات المرتبطة بالموت في احترام تام للتعددية الثقافية التي تعرفها هذه البلدان. قرارات المجمعات موضوع دفن المسلمين في مقابر غير المسلمين، كانت حاضرة في نقاشات الهيئات والمجمعات الدينية الكبرى المعروفة في الإسلام، وقد أصدر مجلس مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، فتوى حول الموضوع، أوضح فيها أن جمهور الفقهاء من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة اتفقوا على أنَّه لا يجوز دفن المسلم في مقابر غير المسلمين إلا عند الضرورة، كأن يموت المسلم في بلد أجنبي لا يوجد فيه مقبرة خاصة بالمسلمين، ولا يستطيع ورثته نقله إلى بلدٍ من بلاد المسلمين لدفنه فيها؛ لعدم قدرتهم المالية على ذلك، أو لأنهم لا يجدون بلدا من بلاد المسلمين تسمح سلطاته باستقبال جثمان الميت المسلم لدفنه فيها؛ فإنه يجوز في هذه الحالة دفن المسلم في مقابر الكفار. المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، أصدر بدوره قرارا في الموضوع، أشار فيه إلى أن وجود أحكام شرعية مقررة تتعلق بشأن المسلم إذا مات، مثل تغسيله وتكفينه والصلاة عليه، ومن ذلك دفنه في مقابر المسلمين طريقة في الدفن واتخاذ المقابر، من حيث البساطة والتوجيه إلى القبلة، والبعد عن مشابهة المشركين والمترفين وأمثالهم. و ''من المعروف: أن أهل كل دين لهم مقابرهم الخاصة بهم، فاليهود لهم مقابرهم، والنصارى لهم مقابرهم، والوثنيون لهم مقابرهم، ولا عجب أن يكون للمسلمين مقابرهم أيضا، وعلى المسلمين في البلاد غير الإسلامية أن يسعوا خ بالتضامن فيما بينهم- إلى اتخاذ مقابر خاصة بهم، ما وجدوا إلى ذلك سبيلا؛ لما في ذلك من تعزيز لوجودهم وحفظ لشخصيتهم'' يقول القرار ويضيف الحالات الاستثنائية '' فإذا لم يستطيعوا الحصول على مقبرة خاصة مستقلة، فلا أقل من أن يكون لهم رقعة خاصة في طرف من أطراف مقبرة غير المسلمين، يدفنون فيها موتاهم. فإذا لم يتيسر هذا ولا ذاك ومات لهم ميت، فيدفن حيث أمكن ولو في غير مقابر المسلمين، إذ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، ولن يضير المسلم إذا مات في هذه الحالة أن يدفن في مقابر غير المسلمين، فإن الذي ينفع المسلم في آخرته هو سعيه وعمله الصالح، وليس موقع دفنه (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) (النجم:93)، وكما قال سلمان الفارسي خ رضي الله عنه-: ''إن الأرض لا تقدس أحدا، وإنما يقدس المرء عمله''. ويؤكد المجمع على أن دفن الميت حيث يموت هو الأصل شرعا، وهو أيسر من تكلف بعض المسلمين نقل موتاهم إلى بلاد إسلامية، لما في ذلك من المشقة وتبديد الأموال. وليس بعد المقبرة الإسلامية عن أهل الميت مسوّغًا لدفنه في مقبرة غير المسلمين؛ لأن الأصل في زيارة المقابر إنما شرعت أساسا لمصلحة الزائر؛ للعبرة والاتعاظ، كما ثبت في الحديث: ''كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها، فإنها ترق القلب، وتدمع العين، وتذكر الآخرة'' رواه أحمد والحاكم عن أنس. أما الميت فيستطيع المسلم أن يدعو له ويستغفر له، ويصله الثواب بفضل الله تعالى في أي مكان كان الداعي والمستغفر له.