2008 هي سنة العنف بامتياز ضد المسلمين ورموز الديانة الإسلامية، بدءا من إحراق المساجد والمكتبات الإسلامية، إلى تدنيس المقابر ثم التطاول على الرسول الكريم (ص) بمقالات مهينة، فالاعتداءات الكلامية التي تكرس مظاهر التحقير للمسلمين وتنكر حقهم في إثبات وجودهم من خلال جغرافيا مسلمة تبني وجودهم على أساس التميز الإسلامي. تيارات سياسية متطرفة لم تخمد بعد موجة الغضب والغليان التي رافقت نشر مقالات مسيئة للرسول الكريم (ص) من طرف بعض الصحف الفرنسية وفي مقدمتها مجلة «لكسبريس» التي نشرت قبل ثلاثة أشهر، مقارنة واهية في عشر صفحات بين محمد الأمين (ص) ونبي الله عيسى، وكذلك عرض فيلم «فتنة» المسيء للإسلام، حتى استيقظت ضواحي مدينة ليون وسط فرنسا، قبل أسبوعين، على إحراق مدخل ومكتبة أحد المساجد. وقبل ذلك تدنيس مقبرة عسكرية للمسلمين المشاركين في الحرب العالمية الأولى بكتابات ورسومات معادية للإسلام والمسلمين على حوالي 500 قبر بمدينة لوريت في شمال فرنسا. وهذه الشرذمة الإجرامية تتحرك ضمن عصابات وتيارات سياسية عنصرية ومتطرفة ترفض التعايش بين الثقافات والديانات، وتنكر حق الآخر في العيش وفي ممارسة حياته الروحية والثقافية. وتأتي أعمال التدنيس بعد نحو ثمانية أشهر من قيام مجموعات متطرفة برسم نقوش نازية وصلبان معقوفة على مقابر مسلمين في هذه المقبرة التي تعد إحدى أكبر المقابر الفرنسية العسكرية، أقيمت على موقع لإحدى المعارك التي قتل فيها عدد كبير من الجنود المسلمين بين عامي 1914 و1915. وقام المتطرفون بتدنيس نفس المدافن بكتابات نازية مثل «هاي هتلر» و«حليق الرأس لم يمت» ورسوم للصليب المعقوف، وأيضا نقوشات تسيء إلى الرسول (ص) وإلى كافة المسلمين. ارتفاع وتيرة العنف وأمام غياب أية إحصائيات رسمية عن هذه الاعتداءات وطبيعتها، يبقى الحديث عن أعمال عنف متفرقة تمس المسلمين كأشخاص لا كجالية هو السائد في تقارير الشرطة الفرنسية. ويرى رئيس تجمع مسلمي فرنسا والكاتب العام للمجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، أنوار كبيبش، أن الاعتداءات على الإسلام والمسلمين ارتفعت في فرنسا خلال السنوات الأخيرة، وأكد ل»المساء» غياب الإحصائيات عن عدد الاعتداءات على المسلمين بفرنسا، لا ينفي ارتفاع وتيرة العنف واتساعها، فالوقائع تتحدث عن نفسها وجميع المراقبين والملاحظين يؤكدون ذلك. فمثلا مقبرة نوتر دام دو لورات بشمال فرنسا تعرضت للتدنيس ثلاث مرات في ظرف 18 شهرا، في المرة الأولى دنس 50 قبرا، وفي الثانية 148 قبرا، لتدنس جميع القبور الخاصة بالمسلمين في المرة الثالثة أي 576 قبرا. أضف إلى ذلك أنه بعد أسبوعين فقط من عملية التدنيس الأخيرة أحرق مسجد بحي سان برياست بليون، وذلك للمرة الثانية. كما أن عشرة بيانات صحفية من مجموع ال40 التي نشرها المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية خصت الاعتداءات الممارسة على المسلمين خلال الستة أشهر الأخيرة». وتفيد تقديرات جمعية «العدل والتكافل» بفرنسا بأن أعمال العنف ارتفعت سنة 2008 بنسبة 20 في المائة مقارنة بالسنة الماضية. وتقوم الجمعية بإحصاء هذه الاعتداءات منذ خمس سنوات، حيث سجلت، حسب نائب رئيسها أحمد السيقالي، ارتفاعا كبيرا خلال العامين الأخيرين، وخاصة الاعتداءات على الأشخاص، حيث كانت هذه الأعمال تقتصر على المساجد والمقابر، لكن الآن أكثرها يخص الأشخاص. ويعود ارتفاع العنف ضد المسلمين، حسب الأوساط الجمعوية، إلى تغيير اليمين المتطرف لهدفه في السنوات الأخيرة، حيث كانت الجالية اليهودية هدفه الأول، أما الآن وبعد تشديد العقوبات والقوانين للحد من العداء للسامية، فقد اتجه نحو المسلمين لأنهم ضعفاء ولا قوانين تحميهم من ذلك. تشكيل لجنة خاصة وترى وزارة الداخلية الفرنسية أن أعمال العنف ذات الطابع الديني انخفضت ب30 في المائة في 2008. وعن ذلك يرد السيد كبيبش، رئيس تجمع مسلمي فرنسا، بأن «إحصائيات وزارة الداخلية هي إحصائيات إجمالية لكافة الديانات، وإذا انخفضت الاعتداءات الممارسة ضد الجالية اليهودية، فإن تلك الممارسة على المسلمين قد ارتفعت». وأعلن أن المجلس الفرنسي للديانة الفرنسية سيبادر خلال اجتماعه في شهر فبراير 2009 بتشكيل «لجنة خاصة بالاعتداءات على المسلمين» من مهامها متابعة وإحصاء جميع الاعتداءات المرتكبة في حق المسلمين والإسلام بداخل التراب الفرنسي. وستعمل بالتنسيق مع لجان جهوية ستكون على اتصال دائم بالجالية المسلمة. وشدد على أهمية إحداث هذه اللجنة التي ستبلغ المجلس حتى بالاعتداءات الكلامية التي لا نعلم بها في غالبية الأحيان، لأن أكثرية الأشخاص لا يبلغون عنها، وإذا بلغت مراكز الشرطة فإنها لا تصنف كاعتداء ضد الديانة الإسلامية. أما وزارة الداخلية الفرنسية، فلا تبلغنا سوى بالاعتداءات ضد المؤسسات الدينية الكبرى. وستعمل اللجنة، فضلا عن إحصاء هذه الاعتداءات، على متابعة وتيرة التحقيقات، وستطالب السلطات الفرنسية بتقارير مستمرة عنها، كما ستطالب وزارة الداخلية بمعلومات عن جميع الاعتداءات ذات الطابع الديني الخاصة بالمسلمين. ويدرس المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية بالتعاون مع المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية و مجمع الطوائف اليهودية إمكانية صياغة وتقديم «ورقة اقتراحات» للحكومة الفرنسية في غضون الشهر القادم، ومن بنودها محاربة العداء للإسلام بفرنسا، والممارسات الدينية وكيفية تأطيرها وتصنيف الاعتداءات ضد المسلمين والإسلام ضمن تصنيفات وزارة الداخلية ومراكز الشرطة كما هو الحال بالنسبة إلى الاعتداءات الممارسة ضد الجالية اليهودية. ويمكن للهيئات الإسلامية الاستفادة بشكل كبير من خبرات المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية وعمره 40 سنة، بينما المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية في عامه الخامس فقط. فالمجلس اليهودي يمتلك ثقافة التواصل مع جاليته والإعلان عن الاعتداءات الممارسة عليها فور حصولها، حتى أن لديه رقما أخضر يمكن الاتصال به في كل وقت، وهو ما لا يتوفر لدى المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية. ردود استنكارية وبالعودة إلى أعمال العنف ضد الإسلام والرموز الإسلامية، فإن ما ميز سنة 2008 بشكل خاص، الاعتداء الشنيع الذي تعرضت له مقابر المسلمين الذين سقطوا في الحرب العالمية الأولى إلى جانب المحاربين الفرنسيين. وقد توالت الردود الاستنكارية بدءا من الرئيس نيكولا ساركوزي الذي اعتبر أن هذا العمل يحمل إهانة لكل المحاربين الذين شاركوا في الحرب العالمية الأولى، أيا كانت عقيدتهم الدينية. وقد قام بزيارة للمقبرة تزامنا مع الحفل الذي أقيم بمناسبة الذكرى التسعين لانتهاء الحرب العالمية الأولى التي عبأت فيها فرنسا نحو 600 ألف جندي معظمهم من المسلمين الذين قتل منهم 78 ألفا. وفي سياق الردود على هذه الإهانات الدنيئة التي تتعرض لها الديانة الإسلامية في فرنسا، وآخرها الاعتداء على مسجد ليون وسط فرنسا، دعت المنظمات السياسية باختلاف توجهاتها، ومعها منظمات مناهضة العنصرية وكذا الجمعيات الإسلامية، إلى تطبيق عقوبة رادعة لمرتكبي هذا العمل الإجرامي حتى يكونوا عبرة لغيرهم. وحذرت من أن موجة كراهية ومعادة الإسلام لا تلقى الاهتمام اللازم من الجهات التي تحارب العنصرية، مؤكدة أن العنصرية لا تتجزأ وأن محاربتها أيضا يجب إلا تتجزأ. ثقافة الفرنسيين وبغض النظر عن ردود الفعل التي أثبتت التجارب أن لا قيمة حقيقية لها باعتبار أنها تتفاعل مع الحدث في لحظته وآنيته دون أن تتطرق إلى تعقيداته المختلفة التي من شأن معالجتها أن تفضي إلى صياغة رؤية شمولية لحل المشكل، فإنه من اللازم تناول هذه الأفعال الإجرامية عبر طرح مجموعة من الأسئلة المؤرقة التي لم تلق حتى الآن الجواب الشافي عنها لا من قبل مؤسسات الدولة بأجهزتها الرسمية أو التمثيلية، ولا من طرف الفاعلين الحقوقيين والجمعويين، ولا حتى من المنظمات المناهضة للعنصرية: ما هي الجهات المنفذة لهذه الأعمال الحقيرة التي تطال المسلمين في قبورهم ومساجدهم وحتى رموزهم؟ ما هي خلفياتها وما هي نوعية الرسائل التي يمكن أن تحملها هذه الأعمال وحجم مسؤولية الأحزاب وفعاليات المجتمع الفرنسي ثقافية كانت أو دينية؟ أول ما يصدمنا تحت ثقل هذه الأسئلة هو أن كلمة «عربي» في ثقافة عامة الفرنسيين وحتى لدى بعض الفئات التي تصنف نفسها في خانة النخب الفكرية، تعني «إسلامي» ثم «متزمت» إلى أن تخلص إلى «إرهابي». وبذلك فإن العرب في المخزون الثقافي الفرنسي والغربي بشكل عام، يختزلون ثلاث صفات في واحدة: الإسلام، التزمت والإرهاب. أمثلة كثيرة تكرس هذا الواقع سواء في الشارع، حيث نظرات الاحتراس والشكوك تطارد المواطن العربي، أو في المؤسسات حيث إقصاء هذا الاسم في الكثير من الحالات من قاموس التوظيفات أو حتى في زيارتك لبعض المواقع الإلكترونية بحثا عن موضوعات مرتبطة بكلمة «إسلام»، ومنها موقع وزارة الداخلية الفرنسية الذي لا يقترح عليك في الغالب سوى الوثائق الأشد وقعا في نفوس المسلمين، تلك المتعلقة بالإرهاب، بينما لا تنطق وثائقه المتعلقة بإسرائيل سوى بالشتات والمحارق ومعاداة السامية. هكذا يتلخص وضع الإسلام اليوم في فرنسا، فالمسلمون لا يشتكون من مؤامرات تحاك ضدهم في دهاليز السلطة لطردهم أو قمعهم، بقدر ما يعانون من الاتهامات الدائمة المعتمدة على خلفيات قد لا تكون لها علاقة بالواقع الفرنسي أساسا. وهكذا أيضا تتجلى مظاهر الإسلاموفوبيا وكراهية المسلمين كواقع يجسد أبشع نماذج الإهانة التي أصابت اليوم أناسا ماتوا من أجل أن تحيى فرنسا. ويأتي الإعلام الفرنسي بمختلف قنواته واتجاهاته ليجعل من الإسلام والمسلمين مادة خصبة ورصيدا يتغذى منه ليكرس هذا الواقع تحت نفوذ صهيوني يعمل على نشر مقالات وتحقيقات ناقمة على الإسلام والمسلمين، في غياب شبه تام لإعلام إسلامي في فرنسا يدافع عن المسلمين. التطرف، الأصولية، الإسلاموفوبيا.. مفردات أصبحت تتردد كثيرا في الإعلام الفرنسي، وأصبح معها التهجم على الإسلام سلوكا يجنب صاحبه أي عقاب مادام يدخل في إطار حرية التعبير وحرية الإعلام، بينما مجرد الإشارة إلى اليهود، تصنف صاحبها في خانة العنصرية والمناهضة للسامية وتغرقه في متابعات قضائية وفي حملات إعلامية واسعة.