أعادت حادثة تدنيس قبور الجنود المغاربة في فرنسا إلى الذاكرة معلومة بدهية عن تاريخ المغرب المعاصر: وتتعلق بانحيازه إلى المعسكر الديمقراطي، معسكر الحلفاء في حربهم ضد النازية وحليفها الفاشستي.. وهو الانحياز الذي تم على مستويات عديدة، منها لقاء آنفا، الذي حضره تشرشل وروزفلت، باعتبارهما قائدي التحالف والعالم الحر. وأيضا نمت خلال الانحياز إلى الانتماء الوطني بالنسبة لليهود المغاربة، والحماية التي قدمها مغرب محمد الخامس في وجه قوانين فيشي. الانحياز الأكبر كان للمغرب في شخص هؤلاء المقاتلين، في شخص أبنائه الذين قدموا أرواحهم دفاعا عن فرنسا وعن حريتها، التي كانت تعني في لحظة من لحظات التاريخ حرية العالم بكامله.. والقبور التي تم تدنيسها اليوم هي قبور جنود خدموا وتوفوا أو قتلوا في صفوف الفرقة الثانية للمدرعات للجنرال لوكليرك، الذي شارك في تحرير فرنسا سنة1944 . وبعد 55 سنة، استيقظ الوحش النازي، العنصري الذي قتله هؤلاء الجنود ليثأر لهزيمة العنصرية والعدوان والتعصب والتمييز العرقي.. جنود الأهالي الذين خلد قصتهم فيلم «ليزانديجان»، وشارك في بطولته العديدون، منهم على وجه الخصوص جمال الدبوز، لم يكونوا قلة ولا أقلية في الحرب الضروس التي فرضتها نازية هتلر على العالم بأجمعه، وفرضت على العالم الحر، كما سمى نفسه وتسمى بذلك، أن يلتفت إلى سواعد الدول الفقيرة والمستعمرات، ومنها المغرب لإنقاذ البشرية من الوحش الضاغط عليها.. أن ترفع جمعية«إيس. أو. إيس» دعوى ضد مجهول، فتلك طريقة قانونية فقط للتوجه إلى النازية وإلى أنصار الحقد العنصري، والحنين إلى تصفية الأعراق الأخرى.. لقد خلف تدنيس قبور مغاربة لقوا حتفهم من أجل تحرير فرنسا، «موجة من الإستياء والتنديد في الأوساط الدينية والسياسية والجمعوية الفرنسية.» من المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، الذي يدافع عن قضايا المسلمين بفرنسا إلى تجمع المسلمين بفرنسا، مرورا بالمسؤولين عن المسجد الكبير بباريس.. إنه دين الدم للمغاربة على فرنسا وعلى الفرنسيين والعالم الحر .. لقد قدمت دول المغرب العربي ما يقارب من 257 ألف جندي في الحرب العالمية الأولى، منهم 27 ألف قتلوا. وفي الحرب الثانية قتل ما لا يقل عن نصف مليون في صفوف فرنسا، وكانت أهم معركة خاضها المغاربة - والذين نعتوا من طرف الألمان أنفسهم بالغربان السود التي تأتيهم بالموت- هي معركة مونتي اسينو التي فتحت الطريق إلى روما. وأحاديث أهالينا في المغرب كلها لا تخلو من قصص تهم لاندوشين والنورماندي و الحملة الألمانية .. وقد كان المغاربة يجندون في الفترات التي تحتاجهم فرنسا، منذ دخولها إلى البلاد عن طريق تعويض يقدر ب50 فرنكا، قبل رفعها إلى 60 فرنكا لكل متطوع. في الحرب العالمية الأولى توفي ما لا يقل عن 11 ألف مغربي، وهو ما يعني أن مغربيا من أصل سبعة لم يعودوا إلى بلدهم وتوفي في الأرض الغريبة، وفوق تراب لا يعنيهم.. وكانت دورية صادرة في 3 دجنبر 1914 تحدد الطقوس الخاصة بدفن المغاربة بحيث كان يتكلف جندي مغربي أو مسلم بقراءه الشهادة والحرص على دفنه حسب الشعائر الدينية الخاصة بنا.. وفي الحرب الكبرى الأولى لم يفت ليوطي الحديث عن الروح المقاومة والوفاء الذي عبر عنه المغاربة.. وعلى كل، كان على المغاربة أن يقضوا نصف العمر في فرنسا، بعيدا عن البلد الذي أنجبهم إن أرادوا أن يستفيدوا من تعويضات الحرب.. تلك الشجاعة التي قادتهم إلى التراب الفرنسي هي التي يتم اليوم تدنيسها، ويتم اليوم احتقارها ونسيانها من طرف جيل يتربى على التدنيس والتبخيس .. ومن حسن الحظ أنه في فرنسا اليوم قوى تناهض العنصرية، ولا تتنازل عن القيم الجمهورية ولا عن ثقافة الأنوار، وهي توجد في اليمين كما توجد في اليسار والوسط، وتوجد في كل الديانات وكل الطوائف، كما هو حال الطائفة اليهودية التي أدان مجلسها التمثيلي في فرنسا بقوة هذا العمل. وأعرب المجلس في بلاغ عن أمله في أن يتم إيقاف «المدنسين الجبناء» في أقرب وقت، ومعاقبتهم بشكل صارم». الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي عبر عن استيائه، وأدان بشدة هذا العمل العنصري البغيض.. إن للجنود المغاربة دينا كبيرا على فرنسا وعلى ثقافتها، وهو دين الدم الذي سال فوق ترابها أو فوق تراب إيطاليا وألمانيا من أجل أن تتحرر من ربقه الاستعمار، وهو دين لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يؤدى بالإدانة وبالإشمئزاز، بل بعقاب الجناة والانحناء، كما يفعل الفرنسيون أنفسهم أمام القبور الذي سال دم أصحابها من أجل حريتها..