تنبيه: لقد تم إرسال هذه الورقة، بتاريخ 2 شتنبر من السنة الجارية، إلى السيد مدير نشر جريدة "أخبار اليوم" قصد نشرها، وذلك تعميما للنقاش والفائدة، إلا أنها لم تجد طريقها إلى النشر. أطل علينا الصحفي السيد توفيق بوعشرين، في جريدتيه الورقية والإلكترونية ليوم الاثنين 17 فبراير 2014، بافتتاحية موسومة ب "احذروا دولة القضاة"، ضمنها مجموعة من المغالطات التي بلغت حد التزييف والتضليل، لدرجة أن أول ما قد يتبادر إلى ذهن قارئها، هو أن ليس فيها دون "الذاتية" و"التحامل" و"الانحياز" خَرْطُ القَتَاد. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تجاوزه لدرجة أن وجه، بمناسبة الندوة المنظمة من طرف شبيبة حزب العدالة والتنمية، في غشت الفارط، حول مشروع إصلاح العدالة، اتهامات صريحة لبعض القضاة ووكلاء الملك مفادها: "أنهم يتلقون التعليمات والتوصيات والتوجيهات، من قبل جهات في السلطة، ومن قبل أصحاب المال والنفوذ وعلية القوم"، دون أن يكلف نفسه عناء الكشف عنهم، وعن طبيعة التعليمات التي يتلقونها، وكذا الجهات الصادرة عنها، وذلك قبل أن يعبر عن "رفضه لتمتع القضاة بحرية التعبير، وأن طريقة تعبيرهم الوحيدة هي الأحكام التي يصدرونها". ونتيجة لهذا التصريح الأخير، مضاف إليه تصريحات أطراف سياسية أخرى، دخل نادي قضاة المغرب على الخط انسجاما مع أهدافه الرامية إلى الدفاع عن استقلال السلطة القضائية وهيبتها وسمعتها، وأصدر بيانا في الموضوع بتاريخ 30 غشت 2014، جاء في شق منه: "بعد الاطلاع على التسجيل المنشور بالموقع الإلكتروني "اليوم 24"، يوم 27 غشت 2014، والذي صرح من خلاله الصحفي توفيق بوعشرين، مدير جريدة أخبار اليوم، بأن هناك بعض القضاة يمتلكون هواتف محمولة، ويتلقون فيها تعليمات. وبالنظر لما في هذه التصريحات من زعزعة لثقة المتقاضين في القضاء، فإن المكتب التنفيذي قرر مراسلة السيد وزير العدل والحريات بشأن ضرورة فتح تحقيق شفاف ونزيه للتثبت من هذه التصريحات، وإعلام الرأي العام بنتائج التحقيقات المباشرة في الموضوع بالنظر إلى أهمية ذلك على صورة العدالة ببلادنا، واتخاذ الإجراءات المحددة في القانون في حال ثبوت عدم صحتها". وهو البيان الذي دفع الصحفي المعني إلى تدبيج مقال في الموضوع وسمه ب "رسالة إلى نادي القضاة"، ضمنه مجموعة من الرسائل أهمها أن النادي يحاول "ترهيب أي شخص يقترب من نقد منظومة العدالة في البلاد". ولما كان من صميم الروح الديمقراطية الحداثية –الحداثة بمفهومها غير المتفسخ- أن نحترم آراء غيرنا، بل ونقدرها ونجلها. فإن ذات المنطق، كافل لحقنا في إبداء بعض ما نرتئيه من ملاحظات رفعا لكل لبس ونفيا لأي جهالة في الموضوع، الأمر الذي لا نعدمه في هذه الورقة تعليقا على المواقف أعلاه، وغيرها من المواقف التي يضيق المجال عن الخوض فيها، وذلك كالتالي: الملاحظة الأولى: حاول السيد بوعشرين من خلال افتتاحيته أعلاه، أن يصور ضمنا قضاة المغرب، ومن خلالهم بالضرورة السلطة القضائية، كما لو أنهم كائنات غير بشرية، يتعين الحذر منها، معبرا عن ذلك بكونهم سيصيرون دولة داخل دولة، وهي التي وسمها ضدا على سياق التاريخ ب "دولة القضاة"، مدللا على ذلك بكونهم أرادوا أن يشرِّعوا لأنفسهم تذرعا بشعار "استقلالية السلطة القضائية". غير أن الواقع خلاف ذلك على الإطلاق، فليس ثمة إشارة ضمن وثائق "نادي قضاة المغرب" التي تترجم أدبياته الفكرية أي دعوة لبناء "دولة القضاة"، بل هو يرفضها على الإطلاق، ولا أدل على ذلك من أنه تقدم باقتراحات تعديلية على مشاريع القوانين التنظيمية اتخذت شكل "مطالب" أقل ما يقال عنها أنها لا تضمن سوى الحد الأدنى لاستقلالية السلطة القضائية. فكيف لمن يستعمل لغة "المطالب" أن يكون دولة "في قلب دولة"؟ أوليس هذا من باب التضليل والتهويل طالما أنه لن يستقيم من ناحية الواقع والمنطق ؟ ولماذا نجرم مشاركة القضاة في وضع قوانين تتصل بهم اتصال وثاق، في حين سبق وأن طالب ذات الصحفي، غير ما مرة، بإشراك الصحافيين في وضع قانون الصحافة ؟ فهل يمكن وصف هذه الخطوة بمحاولة تأسيس "دولة الصحافيين" ؟ وإذا كان نادي قضاة المغرب ضد "دولة القضاة"، فمن باب أولى وأدهى أن يكون ضد فكرة "قضاة الدولة" التي تريد السلطة التنفيذية تكريسها من خلال مسودة مشاريع القوانين التنظيمية، مستعينة في ذلك ببعض الكتبة التي تظهر على موادهم الإعلامية عدم تصفحهم للمشاريع المذكورة، بلْهَ دراستها وتمحيصها، وذلك للاستفراد ببناء سلطة قضائية على المقاس، ومنهم السيد بوعشرين الذي ما فتئ يحاول إظهار نادي القضاة على أنه "جزء من المشكلة"، وأنه "أداة لعرقلة الإصلاح"، قبل أن يتبنى ضمنا كل ما سبق وأن طالب به النادي بخصوص ضمانات استقلالية السلطة القضائية، وخصوصا تلك المتعلقة بتعيين القضاة ونقلهم وترقيتهم وتأديبهم، وذلك عند تعليقه على القرار الشهير للمحكمة العليا بولاية تكساس. الملاحظة الثانية: ارتباطا بالملاحظة الأولى، حاولت الافتتاحية المشار إليها، أن تسوق لفكرة مفادها أن للقضاة لوبي قوي يعرقل الإصلاح الذي تقوده وزارة العدل، وهو ما تم بالفعل –حسبها- على مستوى اللجنة العليا للحوار الوطني لإصلاح منظومة العدالة، لاسيما فيما يتعلق باستقلال النيابة العامة عن السلطة التنفيذية، أو بالأحرى ميثاق إصلاح العدالة برمته. إلا أن اللافت في الأمر، هو أن وزارة العدل هي التي اختارت أعضاء اللجنة المذكورة، والتي لم يشكل القضاة فيها سوى ما يقارب 10 في المائة، إذ أغرقت بشخصيات أخرى، منها المستقلة، ومنها التابعة لوزارة العدل نفسها. فكيف إذن التصديق بكون القضاة الذين شاركوا في الهيأة العليا شكلوا قوة ضغط على وزارة العدل وهم قلة قليلة ؟ بيد أن الأَلفتَ من ذلك، هو ما سبق وأن تضمنته افتتاحية أخرى للصحفي نفسه تحت عنوان: "وصفة إصلاح القضاء .. نعم ولكن؟"، إذ اتخذ موقفا مغايرا، بل ومناقضا، لما ذهب إليه الآن، وذلك بقوله: "(..) ميثاق إصلاح العدالة هذا جاء بأشياء إيجابية كثيرة وعميقة على مستوى إصلاح جهاز القضاء (...) بلا مجاملة، الميثاق خطة إيجابية لإصلاح العدالة المريضة في بلادنا". مضيفا: " نعم لخروج النيابة العامة من يد وزير العدل لأنه جزء من السلطة التنفيذية، واستقلال القضاء الجالس والواقف يتطلب ابتعاد الحكومة عن النيابة العامة وعن المفتشية العامة". فأي الموقفين نعتبر: التقليل من الميثاق وما أسفر عنه من استقلال للنيابة العامة بعلة الضغط الذي مورس من قبل القضاة على مستوى اللجنة العليا، أم الإشادة به وبفكرة استقلالية النيابة العامة عن السلطة الحكومية ؟ الملاحظة الثالثة: سبق وأن أشرنا أعلاه بأن السيد بوعشرين فاجأ الرأي العام القضائي والحقوقي برفضه الصريح "لتمتع القضاة بحرية التعبير" باعتبار طريقة تعبيرهم الوحيدة هي الأحكام التي يصدرونها ليس إلا. ولعل المتأمل في هذا الكلام يخلص إلى أحد أمرين اثنين: إما أن السيد بوعشرين جاهل بمقتضيات الدستور خصوصا فصله 111 الذي أقر حق القضاة في التعبير، وكذا كل المواثيق الدولية المعنية باستقلال السلطة القضائية لاسيما مجموعة المبادئ الأساسية بشأن استقلال السلطة القضائية الصادرة عن منظمة الأممالمتحدة سنة 1985 في بندها 8. وإما أن السيد بوعشرين يعرف الدستور جيدا، وله من سعة الاطلاع على المواثيق الدولية التي تعنى بالسلطة القضائية ما ليس لغيره، باعتبار تخصصه كباحث في القانون الدستوري، إلا أنه يتجاهل كل ذلك من أجل غاية في نفسه لا قبل لنا بها. وحقيق بالإشارة هنا، أن السيد بوعشرين سبق وأن وجه نداء إلى الجمعيات المهنية للمشاركة في تنزيل مطالب الإصلاح، وذلك بقوله في افتتاحيته "وصفة إصلاح القضاء .. نعم ولكن؟": "على الجمعيات الحقوقية والمهنية وسط المحامين والقضاة أن ترفع صوتها لأن صوت الحكومة، مهما كان، يظل ضعيفا ومبحوحا لأن المجال أمامه محصور بإكراهات سياسية عديدة"، وهو ما يتناقض مع: أولا: رفضه الصريح لتمتع القضاة بحرية التعبير، إذ كيف الجمع بين رفع جمعية قضائية صوتها عاليا لتنزيل مضامين الإصلاح، وضرورة التحجير على القضاة في التعبير؟ ثانيا: وصفه لمطالب القضاة الرامية إلى تكريس استقلال حقيق وفعلي للسلطة القضائية ب "دولة القضاة"، إذ كيف ندعو الجمعيات المهنية لرفع صوتها للإصلاح، وعندما تستجيب خارج الإطار الذي أريد لها أن تغرد داخله، نتهمها بالتغول وتأسيس "دولة" داخل الدولة ؟ ثالثا: عدم إدانته بالمرة للمنع الإداري، بل والأمني، الذي طال وقفة النادي المؤرخة في 08 فبراير من السنة الجارية، والتي نظمت من أجل المطالبة بإقرار قوانين تنظيمية ضامنة لاستقلال حقيق وفعلي للسلطة القضائية، إذ لم ينبس ببنت شفة استنكارا لذلك، وهو الصحفي الذي يتعين عليه أن ينتصر للقضايا الحقوقية العادلة، فهل كان مثمنا لهذا المنع يا ترى خصوصا وأن مقاله حول "دولة القضاة" جاء بعد الوقفة بأسبوع؟ ولماذا ثمن وقفة النادي أمام محكمة النقض واصفا إياها ب "استفاقة القضاة"، وانتقد التي كان مزمع تنظيمها أمام وزارة العدل، علما أن السبب الداعي لهما واحد والمطالب المرفوعة من خلالهما واحدة؟ الملاحظة الرابعة: إن اتهام السيد بوعشرين لبعض القضاة ووكلاء الملك بتلقي تعليمات عبر الهاتف، يحتاج إلى أدلة تقطع الشك باليقين، وإلا فكلامه غير منزه عن العبث خلافا لكلام العقلاء. ورب قائل يقول بأن السيد بوعشرين تحدث بلسان حال النادي الذي ما فتئ يشهر شعاره الموسوم ب "لا للرشوة" داخل المحاكم، وهو قول حق أريد به باطل، لأن النادي، وكما هو معلوم للقاصي قبل الداني، كانت له الجرأة لفتح ملف التخليق داخل منظومة العدالة كاملة وليس القضاء وحده، غير مكذب في ذلك لجل التقارير الدولية والوطنية التي شخصت علة الفساد في منظومة العدالة بكل مكوناتها، شأنها شأن باقي القطاعات، دون أن يستهدف حالات بعينها في غياب وسائل إثباتها كما فعل السيد بوعشرين. ويأتي طلب النادي لفتح تحقيق في مدى صحة تلك التصريحات من عدمها، في إطار تشجيعه للصحافيين والحقوقيين على تعرية الفساد الموجود في كل القطاعات بما فيها منظومة العدالة، شريطة أن تكون مشفوعة بحجج تدل على حقيقة الأمر ؛ فإما أن نكون أمام مظهر من مظاهر الفساد يتعين محاسبة المتورط فيه بكل الصرامة المطلوبة، وإما أن نكون أمام رجم بالغيب أقل ما يقال عنه كلام عوام ومقاهي يتعين محاسبة قائله لما في ذلك من إهدار لعامل الثقة في القضاء، فضلا عن المساس الصريح بالرصيد غير المادي له. وجدير بالذكر، أن نادي القضاة، سبق وأن سن برنامجا وطنيا مندمجا لتخليق منظومة العدالة تحت شعار: "محاكم بدون رشوة"، وهو البرنامج الذي لم تُقَدم من أجل تنزيله أي مساعدة لاسيما من القطاعات الحكومية ذات الصلة، بل وأحجمت عن تغطيته والتحسيس به جريدة السيد بوعشرين، في الوقت الذي خصصت له يومية "التجديد" صفحتها الأولى، وهي المقربة للحزب المكلف بتدبير حقيبة وزارة العدل. وجماع ما تقدم وحاصله، نخلص إلى: - نظرا لعدم ثبات السيد بوعشرين على موقف موحد ومنسجم في مجموعة من القضايا، والتي مثلنا ببعضها أعلاه، فقد ألف التسرع في إطلاق أحكام جزافية بخصوص القضاء يعوزها الدليل القانوني المحض، والغريب أنه بدلا من أن يقدم الدليل على كلامه تثبيتا لمصداقيته، اختار الهروب إلى الأمام بتحوير النقاش من جوهر الموضوع إلى هامشه، مما يعني أن ليس له من زاد غير الكلام ؛ - لقد حور السيد بوعشرين مرامي طلب النادي المذكور، قائلا بأن الهدف منه" هو محاولة ترهيب أي شخص يقترب من نقد منظومة العدالة في البلاد". والحقيقة بعيدة كل البعد عما ذهب إليه، ولا أدل على ذلك من أنه، وفي خضم الحراك القضائي المغربي، يعد النادي أكثر التنظيمات انتقادا لمنظومة العدالة، بل وساهم، ولا زال، بشكل عز نظيره في تشخيص عللها واقتراح حلول عملية لها بدل الاكتفاء بالكلام المرسل غير المحسوب ؛ - إن امتعاض السيد بوعشرين من طلب النادي الرامي إلى فتح تحقيق في تصريحاته غير مفهوم، بل ويدعو إلى الاستغراب، لاسيما إذا علمنا حجم دفاعه عن الشفافية في التعاطي مع القضايا العامة التي تهم المجتمع بكامله، فضلا عن ضرورة افتراض كونه لا ينطق من فراغ، وإنما يمتلك أدلة وحججا تعزز ما صرح به. *عضو بنادي قضاة المغرب