الربيع الديمقراطي وأثره على المشروع النهضوي العربي - الإسلامي المعاصر عند طيب تيزني مخطئ من يظن في نفسه القدرة على الفصل بين الأفكار(التصورات) من جهة، والتاريخ والواقع من جهة أخرى؛ إذ الاستيعاب التام للأفكار التي ينسجها التاريخ البشري، في مختلف حقبه ومراحله المتعاقبة، يتطلب الإدراك التام لمجمل مجريات الأحداث التاريخية المتنوعة، والمرتبطة في ما بينها، والمولّدة لها أساسا. كما يستدعي ذلك رصد كافة الشخصيات المساهمة في صياغتها، مهما كانت أهدافها المحركة لها، ومذاهبها المتباينة، وآليات اشتغالها المتعددة، دون إغفال باقي العوامل الأخرى الرئيسية منها أو الثانوية، والمؤثرة فيها داخليا أو خارجيا. ذلك أن الفكر في هذه الحالة كما بيّنا، شديد الارتباط - جملة وتفصيلا – بالتاريخ السياسي، الاجتماعي، الاقتصادي، والثقافي؛ فهو سر وجوده، والعكس صحيح، لما لهما من اتصال وتناغم. كان طبيعيا ولازما أن نؤمن أولا، قبل المضي قدما في تناول بعض قضايا موضوعنا هذا، بأنه يستحيل فهم أفكار أي مفكر أو فيلسوف، أو امتلاك القدرة على إصدار أي موقف منه بجرأة تامة، دون الوصول إلى درجة الوعي(الإدراك) بمنظومته الفكرية التي تشكلت على مدى عقود من الزمن؛ حيث نهلت من التراث المحلي و العالمي؛ قبل خضوعها لجدلية الفكر والواقع. كل ما أثرناه يصدق لا محالة على العديد من المنظومات الفكرية سيما المعاصرة منها؛ سواء كانت غربية أم عربية - إسلامية؛ ومن بينها على سبيل المثال لا الحصر المنظومة الفكرية للمفكر السوري الدكتور طيب تيزيني، الملقب ب "فيلسوف ثورات الربيع الديمقراطي". ليس ثمة شك في أن هذه المنظومة الفكرية تحتاج بدون مبالغة إلى دراسات عديدة، قائمة على إمعان النظر في محتوياتها - التي تخدم واقعنا - أكثر من مرة؛ لتقريب الرؤى والأفكار الواردة فيها إلى كل المهتمين بالشأن الإصلاحي المعاصر؛- فهي وجبة فكرية دسمة لهم -، حتى يستفيدوا منها عمليا، سيّما وأن صاحبها يعد من أحد رواد الفكر العربي والإسلامي المعاصر الذي كانت فكرة النهضة، وما تزال محور اهتماماته الكبرى. في ضوء ذلك، كان علينا الوقوف عند أهم معالم مشروعه الأول؛ الذي تجاوزه من خلال تصريحاته التي أدلى بها، والتي أثارت انتباهي، حتى تتبين لنا حقيقة مشروعه القديم و الجديد - الذي نحن بصدد تناوله - في نفس الوقت، وحتى نتمكن من إبراز بعض الأفكار المرتبطة بحقبة تجاوزها التاريخ، وما يمكن استفادته عموما من المشاريع المماثلة له؛ والمعنية بإشكالية النهضة في العالم الإسلامي. غير أن توجهنا الصريح والمعلن عنه في العنوان أعلاه، يرمي كما هو واضح إلى إبراز أثر الربيع الديمقراطي على فكر تيزني ومشروعه النهضوي الجديد -، دون الدخول في بعض التفاصيل المفيدة التي تركناها إلى مناسبة أخرى-، وهذا ما يعنينا هنا؛ لذلك سعينا إلى الالتزام بذلك قدر المستطاع؛ حتى لا نبتعد عن المطلوب، أو نخرج عن حدوده المنغلقة. أيّ متتبّع لآراء تيزني لا يحتاج إلا إلى جهد قليل، ليتبيّن له أن الصّيرورة التي خضع لها فكره، قد جعلت منظومته تتسم بطابع الانفتاح على الممكنات؛- بعد مراجعة حساباته مع بعض القضايا المرتبطة بهموم الأمة الإسلاميّة - إلى درجة يمكن القول إنه قد أحدث مؤخرا نوعا من الانقلاب النسبي على إرثه الفكري السابق، وهذا ما تبين لنا بالملموس، منذ اندلاع ثورات الربيع الديمقراطي التي لقنت دروسا وعبرا لقوى الاستبداد والتسلط، خاصة بعد سقوط أعتى النظم العربية والإسلامية. لا يساورنا شك أن مشروع تيزني التثويري للتراث هو أول ما افتتح به مشواره الفكري، بعد عملية التأسيس له؛ وقد جعل منه مادة لثورة طبقة، أو طبقات ضد النظام الاجتماعي، السياسي والاقتصادي القائم في الوطن العربي - الإسلامي، ويتعلق الأمر ب "مشروع رؤية جديدة للفكر العربي منذ بواكيره حتى المرحلة المعاصرة" في اثنا عشرة جزءا. غير أن هذا المشروع الثوري الضخم جدا، لم تكتب له الاستمرارية، مادامت تجلياته غائبة، وأبعاده بعيدة المنال واقعيا؛ لذلك اعترف تيزيني بهذا التراجع معتبرا مشروعه هذا قد استجاب لمرحلة كانت تقتضيه، وانتهى بانتهائها، ولم يعد واردا الآن، - سيّما في ظل الربيع الديمقراطي – إلا مشروعه في النهضة الذي يتسم بطبيعة جمعية، لا تشكل فيه الإيديولوجيات منبع كل شيء؛ فهو يستوعب كل المتغيرات التي شهدتها دول الربيع الديمقراطي عموما؛ وعليه فلا ينبغي أن يختزل في حزب، أو نقابة، أو منتدى، أو صالون أو تجمع، ولا في أي من الحقول الأخرى. إذا سرنا عبر مشروع تيزني الفسيح فسنجده يمتد بشكل واضح من أقصى الأمة العربية- الإسلامية إلى أقصاها؛ أي من أقصى اليمين الوطني والقومي والديمقراطي إلى أقصى اليسار الوطني القومي والديمقراطي أيضا، تحت سقف التعددية والعقلانية والتداول السلمي للسلطة، والقبول بالعمل الديمقراطي "الوريث الشرعي للشورى". إذا، هذا المشروع هو بالدرجة الأولى مشروع النهوض والتنوير، لأنه سيفصح عن أخص خصائصه في أنه جماع القول في الوحدة بين الوطني و القومي الإصلاحي الاجتماعي. إنه جدلية التحرير والتغيير، ومشروع للنضال في سبيل إنتاج إجماع في وسط الأمة العربية والإسلامية على التحدي والمواجهة والنهوض؛ وذلك بآليات سياسية، ثقافية،اجتماعية، اقتصادية، تكنولوجية، علمية وعسكرية. طيب تيزيني - الذي يعد واحدا من مائة فيلسوف في العالم للقرن العشرين، حسب ما أوردته كونكورديا المؤسسة الألمانية الفرنسية الفلسفية - ، أراد لفكره أن يلتحم بهموم و قضايا عصره وأمته. لذلك فليس بغريب بعد هذا كله أن نراه موجودا في طليعة بعض التظاهرات السورية التي أثار من خلالها بعض مواقفه الجريئة، حيال ما يجري في سوريا خاصة، وبعض البلدان الإسلامية التي طالتها رياح الثورة عامة. على إثرها اعتقل، لكن بعد ذلك أطلق سراحه، وهذا ما دفعه مؤخرا إلى الإحاطة بجوانب مشروعه النهضوي المعاصر أكثر فأكثر، وفقا لطبيعة الأحداث غير المحدودة التي تشهدها هذه المرحلة التاريخية الحرجة. فمن خلال حواراته المتعددة التي أجراها في مناسبات مختلفة، أوضح أن ثورات الربيع الديمقراطي عامة، والثورة السورية خاصة، هي نتيجة تراكمات طويلة؛ فمنذ العقد السادس من القرن العشرين والأمة الإسلامية تعاني من التهميش والإقصاء، وثرواتها قد تراكمت في أيدي المفسدين؛ حيث توجد في وضعية يسود فيها "قانون الإفساد والفساد الرباعي"؛ ومعناه حسب تيزيني ، " الاستئثار بالسلطة والثروة والإعلام والمرجعية ". إذا فكل شيء يستحوذ عليه زعماء الفساد وأتباعهم، بينما المنتجون الحقيقيون يعيشون حالة الفقر وفقدان الحقوق. إننا ندرك خطورة هذه الحقيقة المرة التي أدت إلى اندلاع ثورات الربيع الديمقراطي بطبيعة الحال، ومن ثم انعدام الاستقرار السياسي في ظل التوترات الداخلية والخارجية التي أحدثتها هزات الإصلاح، المهددة لرؤوس الفساد. والحق في تقديرنا أن القضاء على الفساد وتبعاته في رمشة عين سواء في سوريا أو مصر أو تونس أو ليبيا أو المغرب...أو في سائر بلدان العالم الإسلامي عموما لن يكون سهلا، مهما بلغت درجة الاتحاد بين قوى الإصلاح عامة، مادام الفساد بعينه هو رمز بعض القوى التي تدّعي الإصلاح للأسف الشديد. هذا الأمر لم تستوعبه بعد معظم القوى الحالية المساهمة في تسيير الشأن العام، خاصة على مستوى المؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية التي بنيت على الفساد من الداخل، وكان طبيعيا أن يكون مآلها الفساد؛ لأن كل ما بني على فاسد فهو فاسد. الأجدى في نظر تيزني بعد مراجعته الحديثة لمفهوم الثورة، ودلالاتها العميقة في الشأن الإصلاحي هو وضع المعالم الكبرى لها - أي للثورة -، وآليات تفعيلها على أرض الواقع؛ لجعلها جزء من مشروعه النهضوي المعاصر الذي يتأسس على ثلاثة حوامل: - الحامل الأول اجتماعي : فالمشروع النهضوي الذي ينشده يرتكز على الأمة كلها؛ فجميع القوى بمختلف توجهاتها ومشاربها أصبحت معنية به؛ كالناصريين، القوميين، الماركسيين، الليبراليين والإسلاميين - الذين كانوا في اعتقاده سابقا خارج دائرة الثورة - ، ماداموا يقرون بثلاثة أمور: - الإقرار غير المشروط بالتعددية - والإقرار غير المشروط بصراع سياسي وثقافي، ولكن سلمي – والعقلانية التي تحكم هذا المشروع. - الحامل الثاني سياسي : يتأسس على الفكر الوطني الديمقراطي؛ مهما كان انتماؤه ومرجعياته، يمينا و يسارا ووسطا؛ لذا ينبغي على كل الأحزاب أن تقوم بدورها الفعال؛ من أجل التأسيس للفعل الديمقراطي من داخلها، والتأكيد على بعض المبادئ، ومن أبرزها التداول السلمي للسلطة، علاوة على الحوار العقلاني الديمقراطي . - الحامل الثالث ثقافي : يستمد أفكاره ومرجعياته النظرية من أفكار الأمة كلها، ومن أفكار الأمم الأخرى، بعد خضوعها لعملية مثاقفة، تفضي مباشرة إلى ثقافة ذات خصوصية إسلامية. ما أراه من جهتي أن كافة الحوامل السالفة الذكر تحتاج إلى الأجرأة الميدانية، حتى لا تبقى مجرد نظريات، ومن ثم كان لابد من البحث عن وسيط بين أفكار تيزني، وكل المشتغلين بمسألة الإصلاح في العالم الإسلامي، ومن هنا نكون قد وصلنا إلى مربط الفرس. لكن السؤال الذي يحلو للبعض إثارته هنا، ما موقع المثقفين والمفكرين كيفما كانت توجهاتهم في مخططات الإصلاح الراهنة في ظل المتغيرات التي أفرزتها رياح الربيع الديمقراطي ؟ . الجواب عن هذا السؤال بالطبع ليس سهلا، مادام محيرا، بحكم تعدد الرؤى المختلفة، ومواقع المثقفين أنفسهم، لكن المطلوب كما يبدو هو ضرورة الانخراط، والمشاركة في عملية التغيير والإصلاح التي تشهدها كل دول الربيع الديمقراطي خاصة، وبأي شكل من الأشكال حتى لا يكون كلام هذه الطبقة مجرد ظاهرة صوتية فقط، وتكون كتاباتهم مجرد حبر على ورق؛ بحيث لا تصلح لأي شيء، أو يكون فكرها مسجونا في حدود المدينة الفاضلة المليئة بالأحلام، بحيث يستعصى تحقيقه على أرض الواقع، وهذا نوع من أشكال الهروب والاستسلام، الذي سيجعل المثقف يفقد منزلته داخل هذه المجتمعات المعاصرة التي تجاوزت مرحلة الحديث عن النظريات، وانتقلت مباشرة إلى مرحلة الإنجازات العملية، غير البعيدة عن الفعل الثوري، المضاد لقوى الفساد، الراسخة في بنية الأنظمة المفعمة بالاستبداد، والأنانية المفرطة . أما " لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم ؟ " فإن هذا السؤال - الذي طرحه رواد النهضة الأولى مثل الطهطاوي والأفغاني ومحمد عبده وخير الدين التونسي و شكيب أرسلان وغيرهم - في نظر تيزيني لم يعد مطروحا الآن في عصر النهضة الجديد، إنما المطروح في اعتقاده هو وجوب إعادة بناءه من طرف الأمة العربية - الإسلامية، وفق الخصوصيات الراهنة، وهذا صحيح مادام المشروع النهضوي المعاصر في العالم الإسلامي يأخذ بعين الاعتبار كل وقائع الربيع الديمقراطي، والقوى المتحكمة في العالم بأسره. إذا تأملنا مليا السؤال الجديد الذي يفرض نفسه في نظر تيزني؛ فإننا سنجده سؤالا أنطولوجيا بامتياز "أي نكون أو لا نكون"، لأن النظام العولمي الإمبريالي، رفع سقف مشكلات العالم إلى أقصاها؛ ومن ثم لا بد من اكتشاف مسوغات التقدم؛ وتوظيف حالة تفكك المشروع الأمريكي الذي يزعم أنه وحيد، وأبدي لصالح المشروع النهضوي الإسلامي. أيّا كان الأمر، فإن تيزني يرى أن تحقيق النهضة مرهون على المجتمع المدني؛ المطالب برفع لواء النهضة، ولا يقوم على الأنظمة الحاكمة؛ مع الأخذ بعين الاعتبار التجربة الخاصة لكل قطر إسلامي؛ فلكل بلد خصوصيته، وما يمكن أن تحمله القوى الفاعلة فيه، دون إغفال شرط قراءة الواقع قراءة نقدية صرفة، وبآليات علمية محضة. هذا صحيح لكنه يحتاج في تقديرنا - ووفقا لما ذهب إليه أفلاطون وأرسطو - إلى إعمال العقل الذي لا يعني مجرد مجموعة من القدرات المعرفية نتسلمها عند الولادة، إنما هو نوع من جهاد - لا ينتهي وراء المعرفة والحكمة - يتطلب أن يُنَمَّى في الشباب من خلال التربية، وفي الحياة بعد ذلك عن تراكم الخبرة. وقبل هذا وذاك لابد للبشرية التي سارت حتى الآن في طريق الخطأ أن تعود إلى نقطة الصفر، لكي تبدأ من جديد، كما ينظر بيار دوبوي (من المفكرين المعاصرين الذين يتميزون بقراءة مجريات العالم اليوم من خلال مفاهيم المخاطرة أو الكارثة أو الطامة). لَعُمري ما كُنت أنتظر يوما أن تصل الأزمة السورية بعد اندلاع ثورتها إلى هذه الدرجة المأساوية، مقارنة بثورات الربيع الديمقراطي الأخرى. وحتى لا أنسى ما كنت أودّ الإشارة إليه في البداية، نتمنى للمفكر طيب تيزني الصحة والعافية على الدوام. كما نتمنى له التوفيق في إخراج مشروعه الجديد إلى حيز الوجود بأشكال متعددة، تجعله حاضرا في جل خطط التغيير والإصلاح لتحقيق الوعي المجتمعي، بكل أبعاده السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، و الثقافية، في بلدان العالم الإسلامي. فنحن في أمس الحاجة إليه، مادام الأمر على هذا النحو، لأن عجز الفكر العربي- الإسلامي المعاصر عن وعي الحقيقة، كما يرى حسن حنفي هو المسؤول عن عجزها في واقع الأمر عن تغيير الواقع. في ختام كلامنا، نتمنى للشعب السوري الخروج من هذه الأزمة الخانقة التي يمر منها؛ وليعلم أن دوام الحال من المحال، وأن تحقيق الاستقرار السياسي السوري، لن يتم إلا بعد الاستجابة لإرادته التي بدأت منذ رفعه راية التحدي، بغية الوصول إلى حقه المشروع، الرافض في أوله وآخره للاستبداد والفساد والطغيان، بعد إمعان النظر في مآله ومصيره المخيف، والداعم لمسألة الحرية والعدالة الاجتماعية في عمقه ... وعاش الشعب السوري الحر ما دام حرا.