ذِكْرَيَاتٌ وَمُعَايَشَاتٌ فِى حَاضِرَة مَجْرِيطْ العَامِرَة فى الثالث من شهر غشت الجاري 2014 حلّت الذكرى الخامسة عشرة لرحيل الشاعر العراقي الكبيرعبدالوهاب البياتي،(ولد فى 19 ديسمبر ببغداد 1926، وتوفّي فى 3 غشت بدمشق 1999)، ونظرا للصّداقة التي ربطتني بهذا المبدع الفذّ خلال فترة عملي فى حاضرة أبي القاسم مسلمة المجريطي " مدريد العامرة " أواسط الثمانينات من القرن المنصرم. وعلى الرّغم من إنسياب السّنين، ومرور الليالي، وتعاقب الأيام، فما زالت ومضات، ونفحات من ذكريات ومعايشات جمعتني وإياه أواسط الثمانينات من القرن المنصرم حاضرةً فى القلب، والعقل، والرّوح، والوجدان،واللسان والجَنان. إننّي نادرا ما أرتاد المقاهي، مصطفى لطفي المنفلوطي كان ينصح قرّاءَ "نظراته" و"عَبراته" بعدم ضياع وقتهم في المقاهي بين لعب النّرد، والطاولة، والورق. كان يعيب على الناس إرتيادهم للمقاهي، ويعجب كيف لا يؤمّون المكتبات، ودور الكتب والمعرفة والعرفان للنّهل من العلم والغَوْص في بحوره. ومن مفارقات الحياة، أنّ العديد من الأدباء والشّعراء الذين جاءوا بعده من نفس طينته، كانوا مولعين بالجلوس في المقاهي - وما أكثرها فى مصر- ومع ذلك نبغوا وأبدعوا ،وأجادوا وأقنعوا..! . خلافاً لنصائح رائد البيان العربي مصطفى لطفي المنفلوطي ، وإمعاناً فى ذكراك - إنّني ما زلتُ أرتاد مقهانا القديم فى حاضرة مجريط (مدريد) العامرة ، وما برحتُ أجلس في نفس طاولتنا الأثيرة المستديرة،أتذكّر أياماً، وقصصاً،وحكايات طريفةً، وصدفا ً ومفارقات عجيبة، وضحكات، وقفشات ، وطرائفَ نادرة وقعت لنا مع أحفاد بني عمومتنا وخؤولتنا في هذه الديار العريقة في العلم والحلم والحضارة والعرفان، بعض هذه القصص هي أقرب إلى الخيال منها الى الواقع أي إلى التصديق لطرافتها، وغرابتها، ولكنّها وقعت بالفعل. الحديث عنك أيها الشّاعر الصّديق هو الحديث عن الحياة بكلّ ما فيها من معان وأسرار وغموض، الحديث عنك أيّها الشاعر، هو حديث عن الكون الهائل المحيّر.. عن عذابات النفس المكلومة التائهة في متاهات الحياة، ومرابض الكينونة، في تناوش وتشاكس وديمومة متجدّدة، فالشّعر كان عندك هو اللغة في أرقى مظاهرها، هو الخيال المجنّح الذي يسمو بك إلى أعلى مراتب الخلق والإبداع، هو تجسيد للكون، وما يكتنفه من غموض وتساؤل وحيرة وقلق وإغتراب. هو ضرب من مناوشة الوجود، هو تعبير أفلاطوني عن توحيد الجزء في الكلّ والعكس، هو "مخلوق يدبّ على قدمين " ، كما يقول الإنجليزيّان ريتشاردز وأوغدن فى كتابيهما " فى معنى المعنى" ، إنّه دائم البحث عن القيم الجديدة، هو ليس قصراً ولاحصراً على التذّوّق الفنّي، أو الإحساس المرهف أو التسامر أو الإنطواء أو الإنتماء، بل هو مواجهة صريحة للواقع، وإستكناه لخباياه وإستغوار لأسراره، وإستجلاء لغوامضه ومفارقاته، ومعانقة للآمال والآلام . فى البداوة حُسْنٌ غيرُ مَجْلُوب أيّها الصّديق العزيز.. "مجريط" كانت تذكّرنا بمباهج الحياة الدّنيا ورونقها، بالبريق المشعّ في كل شيء، في الوجوه الحسان، في الجدائل المنسدلة، في العيون المسبلة، والحواجب المزجّجة ، والأقراط المدلاّة، المدينة إزدانت يا صاح وتبرجّت في كل شيء، وجهها ملطّخ بالاصباغ، وأنت كصاحبك أبي الطيّب المتنبّي ،كلاكما لا تحبّان الأصباغ ، وحسن الحضارة عندكما مجلوب بتطرية، وفي البداوة حسن غير مجلوب..! . الشكوى فينا حبّات متناثرة، وذرّات مبعثرة كأنّها كثبان رملية منهمرة على وقع هدير أمواج عاتية، هذا السّحر اللاّمع ،واللّحظ الدّامع يوحيان بكثير من الفكر، ويبعث على التأمّل وإعمال النظر، إلاّ أنّه فِكَرٌ وتأمّلاتٌ مشبعةٌ بضرب من الغنوص المتواتر.. والغربة أيّها الشاعر العزيز هي نغمات حزينة وتنويعات مكلومة تنبعث من أوتار قلوبنا المعذبة المثقلة بالكدر، والهمّ،والنكد، والهموم فى زمننا هذا الشاحب الكئيب ،وواقعنا هذا الحالك الرّديئ، ومع ذلك ما زال النّبع الرّقراق يتلألأ لامعاً ،مشعّا، وهّاجاً في أعماق الأنفس المحبّة العاشقة الولهانة. فى مقهى الشّعراء إنّني ما زلت أتذكّر يا صاح عندما كنّا في ضيافة أبي القاسم مسلمة المجريطي العالم الجهبذ والرياضي البارع الذائع الصّيت بالحاضرة التي ما زالت تحمل إسمه ، أوبالأحرى يحمل إسمها إلى اليوم ، والتي أسّسها الأمير محمد بن عبد الرحمن الثالث حصنا حصينا، ودرعا واقيا فى الثّغر الأعلى للشقّ الجنوبيّ لهذه الجزيرة المحروسة. كنّا غالبا ما نتحاور طويلا في مثل هذه الأمور، عندما كنّا نرتاد مقهى Aben Ammar الذي كان يؤمّه صفوة من أصدقائنا من شعراء مدريد فى ذلك الأوان، ويحمل هذا المقهى كما ترى إسمَ الوزير أبي بكر إبن عمّارالشاعرالأندلسي الرقيق، والشطرنجي البارع، والداهية المراوغ ، والصّديق الأثير للمأسوف على ملكه، وشعره ،وحياته، المنكود الطالع المعتمد بن عبّاد. كان المقهى يقع قبالة حديقة عمومية تاريخية كبرى تُدعى"ريتيرو" ، بل هي أكبر حدائق العاصمة الإسبانية قاطبةً ، وصفها السفير الرحّالة المغربي ابن عثمان المكناسي فى كتابه الطريف" الإكسير فى فكاك الأسير". وقبله وصفها وصفا دقيقا الفقيه أبو عبد الله محمد بن عبد الوهّاب السفير، والوزيرالمغربي الغسّاني، وهي حديقة ذات بساتين باسقة غناّء، ومتنزهات فسيحة فيحاء، وذات ظلال وأنهار وأشجار، وكانت البّركة الكبرى الجميلة التّى تتوسّط هذه الحديقة تذكّرنا دائما ببركة "المتوكّل" التي أجاد فى وصفها أبو عبادة البحتري قائلاً : يا من رأى البركة الحسناء رؤيتها ...والآنسات إذا لاحت مغانيها...بحسبها أنّها بفضل رتبتها ...تعدّ واحدة والبّحر ثانيها ...ما بال دجلة كالغيرى تنافسها ...فى الحسن طورا وأطوارا تباهيها. كما كانت تذكّرنا كذلك ببرك وجداول"جنّة العريف" في غرناطة الحمراء التي كانت على مقربة منّا قلبا وقالبا.. وما فتئ النّور يشعّ وينبعث من هذه الحاضرة البهيّة البهيجة كما تؤكّد القصيدة .. قصيدتك " النّور يأتي من غرناطة " إلى يومنا هذا من أيّام الله التي لا تُحصىَ. كنّا كثيرا ما نؤمّ كذلك مقهى آخر يسمّى Solimán "سليمان"، وكنت تقول- كلما هممنا بالدخول إلى هذا المقهى الجميل- : " لعلنا نعثر هنا يا أخ محمّد على خاتم سيّدنا سليمان لنقصي به عنّا كلّ الهموم والمشاغل التي كانت تثقل كاهلنا " ، ولكنّك "لم تجد الحياةَ والضّوءَ في مدائن الضّياع والفقر، وكان شعرك النّار في وحشة المنفى وفي منازل البرد" ، و لكنّنا لم نعثر قطّ على خاتم سليمان، فظلّت همومنا ومشاغلنا ملازمةً لنا ،مسكونةً فينا حتى رحلتْ معنا عندما برحنا ونزحنا عن هذه الديّار،كلّ منّا لحال سبيله، كما أنّنا لم نحظ قطّ بصحبة الوزير أبي بكر إبن عمّار، ليحكي لنا ما جرى له مع خليله ورفيق دربه ، وصديق عمره أبي القاسم المعتمد ابن عبّاد ، إستمتعنا فحسب بجلساتنا الطليّة المطوّلة فى المقهى الذي يحمل إسمَه ، كما إستمتعنا بأشعاره، وأقواله، ونوادره، وطرائفه، وأخباره ،وأقاصيصه وحيله، ودسائسه. فى لقاء.. لاَرَا وذات مرّة وبمحض الصّدفة كدت أن تتحوّل فيها أو خلالها أيّها الصّديق العزيز من شيخ وقور إلى غلام يافع، غضّ الإهاب تتوقّد شبابا وحيوية ونشاطا، بل إنّك فى برهة تسربلت بحلل الغبطة والسّعادة، وتدثّرت بأثواب السرور والحبور، إذ كان ما حدث لك ولي أكبر من أن يصدّق، ممّا أضفى عليك وعليّ من الجذل والإنشراح ما لا حدود له، حتى كنت أرى أسارير وجهك تلمع نضارةً وبِشْراً،وملأ الدّمعُ حدقتيْ عينيْك، وندّ منهما بريق كالشّررالمتطايرمن فرط المفاجأة ، فقد تعرّفنا في مقهى ابن عمّار ذات مساء صدفة على غادتين إسبانيتين حسناوتين جلستا بجوارنا، كانتا حديثتي العهد بالإلتحاق بكلية الآداب بجامعة مدريد المستقلة (Universidad Autónoma de Madrid) قسم اللغة العربية وآدابها شعبة الأدب العربي المعاصر، وكانت الفتاتان تتحدّثان العربية بصعوبة وتلكّؤ، ولكن حديثهما لم يكن يخلو من سحر وطلاوة ، وإنطلقنا في حديث عفوي معهما دون أن نقدّم أو نعرّف بأنفسنا، وقلتُ أنا ساعتها لواحدة من الفتاتين : إذن أنتما تدرسان الأدبَ العربيَّ الحديث..؟! نعم ولكننا بدأنا هذه السنة فقط..! طيّب، من هم الشّعراء من العرب الذين درستما شيئا عنهم..؟ فقالت الأطولُ قامةً والأجملُ محيّاً : أنا شخصيّا معجبة بشاعرين أرابييْن (عربييْن) إثنين وَهُمَا: نزار كبّاني (قبّاني) وبيّاتي،(كذا) نظرا لوجود ترجمات لشعرهما فى اللغة الإسبانية. وسُررنا من وقع المفاجأة علينا، ولكنّك إلتزمت الصّمتَ فى ترقّب محتفظاً ببسمة عريضة صافية نديّة معهودة فيك، وسيجارتك من الصّنف الإنجليزي (غرابن ) لا تفارق أناملك ، وقلت أنا للفتاة على الفور ودون إنتظار: أتصدّقين إذا قلت لكِ أنّ الجالس بجانبك الآن هو الشاعر عبد الوهّاب البياتي نفسه..!؟ فوجئت فى البداية ،وأعتبرتها مُزحة، ولكنّها سرعان ما ندّ وجهها عن إبتسامة واسعة جميلة حتّى كادت أن تمطرَ لؤلؤاً ،وأن تسقيَ نرجساً ،وأن تعضَّ على العنّاب بالبرد..! وظلتْ برهة تتفرّس في وجه شاعرنا الكبير وكأنّها تتساءل إذا ما كان في الأمر بالفعل دعابة مّا ، وكان عليّ أن أعود لأصرّ مرّة أخرى بأنّ الجالس بجانبنا هو الشّاعر البيّاتي نفسه فعلاً..! ولم تقف المفاجأة عند هذا الحدّ، بل لقد ذهبتْ وشطّتْ بنا أبعد من ذلك، إذعندما قدّمت لنا الفتاة نفسَها..ويا لها من صدفة.. قالت إن إسمَها " لاَرَا ". و (لارا) التي من أجلها قال البياتي (أولد وأحترق) تُعتبرمن أجمل قصائده، وأحبِّها إلى قلبه : تستيقظ (لارا) في ذاكرتي: قطًّا تتريًّا, يتربّص بي, يتمطَّى, يتثاءب يخدش وجهي المحموم ويحرمني النوم. أراها في قاع جحيم المدن القطبية تشنقني بضفائرها وتعلقني مثل الأرنب فوق الحائط مشدودًا في خيط دموعي. أصرخ: (لارا) فتجيب الريح المذعورة: (لارا) أعدو خلف الريح وخلف قطارات الليل وأسأل عاملة المقهى. لا يدري أحد. أمضى تحت الثلج وحيدًا, أبكي حبي العاثر في كل مقاهي العالم والحانات. وهكذا يا صاح تمضي السّنون... ويمزّق العذابُ نياط َالقلب المكلوم ،ونحن نطيرمن منفى لمنفى..ومن باب لباب..نذوي كما تذوي الزنابق فى التراب .. ! تحيّةً حرَّى لك أيّها الشّاعر الصّديق العزيز،فى ذكرى رحيلك منذ خمسة عشرة سنةً خلتْ، وأنت اليوم فى دار البقاء والصّفاء والنقاء والبعد عن الشقاء، من نفس الزّاوية.. فى مقهانا الأثير هأنذا فى نفس طاولتنا المستديرة،جالس أتأمّل فى خشوع وإنبهار إنصرام الأيام والليالي ،وتحضرني فيها في هذه الأمسية القائظة ، وفي كلّ أمسية من أماسي مدريد السّاحرة .. ذِكْرَاك. (*)عضو الأكاديمية الإسبانية - الأمريكية للآداب والعلوم – بوغوطا - (كولومبيا)