"لا حرية لأعداء الحرية"، مقولة صادفتها غير مرّة، في نسختها العربية، منسوبةً بالخطأِ إلى فولتير. لا تفسير لي لهذا الأمر. لا أريد أن أفترض مثلا أن دأباً كهذا يهدف على نحو لا واع إلى التشويش على مقولة أخرى ذائعة الصيت، هي أيضا بالمناسبة منسوبة بالخطأ إلى فولتير، علما أن معناها يصب في النقيض تماما : "أخالفك الرأي، لكني مستعد لبذل حياتي دفاعا عن حقك في التعبير عنه". صاحبة هذه العبارة الأخيرة هي إيفلين بياتريس هال، وهي كاتبة بريطانية توفيت أواخر الثلانينات من القرن الماضي. ألّفت عام 1906 كتاب "أصدقاء فولتير"، واعترفت فيما بعد أنها أقْوَلَت مفكر الأنوار هذه الجملة التي لم ينطق بها قط، كنوع من التلخيص لفكره. وإذا كان بعض المتخصصين يرون أن الفكرة تتسق عموما مع فلسلفة فولتير ومواقفه المعلنة تجاه بعض قضايا عصره برهن من خلالها عن إيمانه المطلق بحرية التعبير، فإن آخرين يجدون فيها كثيرا من الغلوّ، لأن فولتير لم يكن أبدا ليساند حدّ الموت مثلا رجال الدين الذي كان هو يحارب تعصبهم في "حكاياته" الفلسفية، بينما كانت بعض طوائفهم دون أخرى تتعرض للاضطهاد، بحسب أهواء الملك الحاكم. أمّا صاحب "لا حرية لأعداء الحرية"، فهو بالطبع السياسي الفرنسي سان جوست، ولقد تفوّه بها في زمن الثورة الأول. كان سان جوست من أوفى أوفياء روبسبيير الذين ثبثوا على تحالفهم معه إلى آخر لحظة، بعد أن وفّر هؤلاء جميعا بمقالاتهم الراديكالية وخطبهم السياسية الملهمة والمشحونة الإطار النظري و"الفلسفي" الذي ارتكز عليه الجانب المظلم من الثورة، أي جرائمها وفظاعاتها إبان فترة الحكم بالإرهاب، قبل أن تحل بهم كما هو معروف تقلّبات الثورة وتصاريفها، ويقتادهم الثرميدوريون، في يوليو 1794، بدورهم إلى المقصلة. في نهاية القرن الثامن عشر، كان سان جوست وزملاؤه يقصدون ب"أعداء الحرية" أعداء الجمهورية تحديدا، أي كل من سعى (أو، في مرحلة لاحقة، كل من اشتُبه فقط في أنه سعى) إلى إعادة الحياة إلى نظام مَلكية الحق الإلهي، أو أبدى تمسكا أو تعاطفاً مع مؤسساتها، السياسية منها أو الدينية. أمّا اليوم، فعلى من يُطلق لفظ "أعداء الحرية"؟ ومن يطلقه؟ هل ظهر المفهوم، سواء في النقاشات المعلنة أو الأحاديث المغلقة، مباشرة بعد انفجار ثورات الربيع العربي الإفريقي الشمالي، أم أنه لم يظهر إلا مع الإعلان عن نتائج الصناديق في أولى التجارب الانتخابية الحرة من نوعها (بغض النظر أتوفر أم لا الإطار التوافقي العام الضامن، ليس فقط لنزاهة تلك الانتخابات، بل لصدقيّتها أيضا)، أي على إثر تلك الصدمة العميقة التي شكلها بالنسبة لجزء هام من السياسيين والنشطاء والمتتبعين تبوّء أحزاب الإسلام السياسي، مع استثناءات نسبية قليلة، الصفوف الأولى؟ طرحي لإشكالية "أعداء الحرية" الجديدة/القديمة هنا مردّه إلى تساؤل ألح عليّ منذ فترة، بخصوص نوع التفكير الذي يمكن أن يكون حَمَلَ جلّ خصوم الإسلاميين إلى التزام الصمت، إن لم يكن التحريض والإشادة، إزاء الوضع المخزي والمريع الذي صارت إليه أحوال الحريات في مصر ما بعد الإنقلاب العسكري، الحدث الذي جرى الإعداد له منذ تنحي مبارك وبلغ عمليا ذروته يوم 30 يونيو 2013. وقبل ذلك، نوع التفكير الذي جعل هؤلاء الخصوم على مدى أشهر طويلة يسلكون طرقا في المعارضة أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها سعت إلى إتلاف التجربة برمتها، معتمدة التشويه والافتراء والفبركة والاختزالية والتهويل واختلاق الأزمات وافتعال الصراعات وتبخيس المنجزات، في تماه تامّ مع منابر الدعاية الرخيصة التي كان ولا يزال يدير ماكينتها تحالف الجنرالات ورجال الأعمال. بداية، إن شئنا عقد تماثل تبسيطي بين ثورات الأمس البعيد وثورة 25 يناير بالتحديد، أي قبل تأجج الصراع بين الإسلاميين وخصومهم على خلفيةٍ يزعم الأخيرون أنها "حضارية" دون أن ترتقي أساليبهم إلى مستوى ما ينادون به أو يحاربون من أجله، فتوصيف "أعداء الحرية" لن يقابله في الواقع سوى توصيفات "الفلول" أو "عبيد البيادة"، على ما تتسم به تلك الألفاظ كلها من عمومية وينقصها من دقة. والحال أن ممثلي النظام القديم لم يتعرضوا لأي إبادة، بل لأي تضييق يذكر، باستثناء قوانين العزل السياسي ومجموعة محاكمات لم تتم في إطار ثوري حتّى، بل اتضح فيما بعد لمن كان غافلا عن الحقيقة، مع توالي حلقات مسلسل البراءة للجميع، أن القضاء الذي حاكم بعض الفلول هو جزء أصيل منهم. لعل هذا الاختيار لم يكن يفتقر في حينه إلى الحكمة، إذ بدا أن مصر ما بعد ثورة يناير لم تشأ الدخول في نفق مطاردة الساحرات المظلم، لا سيما وأن الجيش، إبان المراحل الأولى، فلح في اجتذاب تعاطف الثوار والتستر على نواياه الحقيقية الشريرة، كما أن الإعلام والقضاء وكل مؤسسات الدولة العميقة اضطرت لتغيير جلدها بين عشية وضحاها واصطفت بمخاتلة كبيرة إلى جانب الثورة، كنوع من التكتيك، إلى حين. لكن الأمور بعد الانقلاب نحت منحى آخر تماما. لقد ثأرت الشرطة والجيش بمعية القضاء لنفسهما بوحشية قل نظيرها، وغير مسبوقة في تاريخ مصر الحديث. تم الزج وتعذيب الآلاف في المعتقلات، قتل المئات في الشوارع، صودر الحق في الكلام والنشر والبث. وقبله تأججت حملة الدعاية التي استمرت لشهور، استخدمت فيها بانتظام المؤسسات الدينية الخاضعة للسلطة العسكرية (الأزهر) أو المتحالفة معها (الكنيسة)، ونهلت من أشد قواميس وأدبيات الكراهية والعنصرية نتانة، من قبيل التخوين والاتهام بالعمالة ونزع صفة الإنسانية، وذلك حتى يتسنى سحق الإسلاميين المعارضين، في مأمن من أي رد فعل مجتمعي غاضب قد تحركه ضمائر الناس وإنسانيتهم. إن المواقف الصامتة أو المساندة لهذا البطش المقيت، حين يكون أصحابَها ذَوُو المصالح والامتيازات من بين الضباط والقضاة، أو مرتزقو ووصوليو الثقافة والفن والسياسة والصحافة والإعلام، أي باختصار ممثلو الثورة المضادة داخل تحالفات 30 يونيو، يمكن لنا فهمها ومن ثم ازدراءها بسهولة، لكنها بكل تأكيد تظل مستعصية على الاستساغة، إن هي صدرت عن سياسيين محترمين ومثقفين عرف عنهم استقلالهم الفكري، وأنفق بعضهم سحابة عمره في مناصرة حقوق الإنسان وفي الترويج لقداسة مبادئ الحرية والمساواة. انطباعي أن ثمة ما يشبه الحاجز النفسي، منع الكثيرين من إبداء تعاطفهم تجاه ضحايا أحداث دامية كفض اعتصامات رابعة والنهضة مثلا، حتى لو شعروا بذلك التعاطف في قرارة أنفسهم. كما حالَ دون تبنيهم لمواقف تناسب ماضيَهم النضالي المشرّف، إزاء الانتهاكات الجسيمة التي غدت الآن في حكم الروتين وطالت لأول مرة في تاريخ بلد كمصر النساء والأطفال. معروف أن هؤلاء دأبوا على أن ينظروا إلى "الإخوان"، باعتبارهم جماعة ظلامية عنيفة ومتسلطة، تستخدم الدين بغية الاستحواذ على الحكم ولا يمكنها إن تسلمت مقاليد مصر إلا أن تعود بها إلى عصور القرون الوسطى. معروفةٌ كل العداءات الإيدلوجية المتراكمة عبر التاريخ والأجيال. لكن، ألم يكن بالإمكان أن يجد اليساريون والليبراليون نقطة توازن ملائمة ومقبولة، لا تبطل الخلاف الفكري والسياسي الضروري ولكنْ ترتفعُ به حتى لا يأتيَ على صرح المبادئ الإنسانية الأساسية، الذي بنته البشرية على مدى قرون، والتي يجب أن يؤمن ويلتزم ويحظى بظلّه كل شركاء الوطن؟ أتكون فعلا نظرة خصوم الإسلاميين إلى حقوق الإنسان أنها تسري على بعض البشر دون غيرهم؟ إن المرء ليحار حين تصادف عينه أشياء لا تكاد تصدق في القرن الواحد والعشرين، حيث ترسانة القيم الحقوقية وقوانينها ومواثيقها قد بنيت بالكامل وصارت ملزمة للجميع،من نوع تلك اللافتة التي رفعها أحدهم ذات يوم في مظاهرة : "أطلقوا سراح فلانة، إنها ليست إخوانية". من واجبنا القول إن النظر إلى الخصوم، أيا كانوا، على أنهم أعداء للحرية، من أجل سلبهم إياها، لم يعد مقبولا في زمننا هذا ولا مجديا. وبالفعل، ليس الوازع الأخلاقي وحده ولذاته ما يدفعنا إلى الاعتقاد بهذا الطرح. بل أيضا لأن إخلاء ميدان الأخلاق ولعب السياسة داخل أزقة الطغاة المظلمة وتحت مواسيرهم القذرة يترتب عنه عمليّا نتائج عكسية كارثية، في الأمد المنظور كما البعيد، مهما كانت فكرتنا عن مستقبل حداثي لبلداننا طموحة ومغرية ونبيلة. إن هزيمةً في معترك القيم، لا يمكن إلا أن تنضاف إلى هزيمة الصناديق، ولن تخفف منها أو تلغيها. كما أن الجماهير، التي علينا في وقت من الأوقات استنهاضها واستمالتها، ثم انتظار حكمها في صندوق، آجلا أم عاجلا، هي الآن تنظر إلى موقف كل ناشط أو سياسي أو مثقف، تنظر وتسجل وتحلل صمتَ كل واحدٍ منهم أو كلامَه. لقد احتقرنا آراء تلك الجماهير وازدرينا أصواتها بما يكفي، وعلينا الآن أن نعيد حساباتنا من جديد. فعلنا ذلك تحت ذريعة الحداثة، في استحضار ضمني غير محسوب العواقب ل"صراع الحضارات"، تلك النظرية السطحية الاختزالية الخرقاء المتهافتة، التي صار يروج لها من حيث يدرون أو لا يدرون شباب ونشطاء كثيرون، ناشرين بتلذذ تويتات خرقاء، جلها مفبركة، لدعاة جهلاء، حمقى أو جواسيس، أو صورا لجرائم داعش، ليس للتنديد بها كجرائم صادرة عن طُغمة مسلحة لقيطة ومشبوهة، بل لربطها وخلطها بسوء نية أو بدونه بالإسلام السياسي، بل أكثر من ذلك للتقليل عن وعي أو لا بشأنهم هم أولا كمسلمين، ضاربين بعرض حيطانهم الإلكترونية غنى وعمق تاريخ حضارة بلدانهم، وإسهامها الواسع والمبكر في بناء الحضارة الإنسانية. لا شك أن الحركات السياسية ذات المرجعية الإسلامية قَلّما تستحضر هذا الجانب المشرق من حضارتنا، لكن المطلوب تحديدا هو أن ندفع كحداثيين حركة المجتمع ككل في هذا الاتجاه، عبر أساليب مقبولة ومتسمة بحد أدنى من النزاهة الفكرية ومنسجمة مع جميع قيمنا وليس مع بعضها فقط. علينا أن نخوض الصراع بشرف، في الفكر والسياسة والأدب والفن، وأن نؤمن بضرورة التعايش، ودينامية التجاذب، وحظوظ الحركات الاسلامية في التطور والانفتاح ومراجعة الذات. فعلنا ذلك أيضا، لأن بعضنا من ذوي النزعات الاستئصالية صار أكثر من أي وقت مضى لا ينظر إلى الإسلاميين ومؤيديهم أبعد من كونهم "عقبة" في طريق حلم الدولة الديمقراطية الحداثية، مستبطنين بذلك مقولات ونظريات قديمة أخرى عفى عنها الزمن، بل تجلى قبحها رويدا رويدا في مرآة التاريخ. سنة 1830، كتب هربرت سبنسر، ملهم الداروينية الاجتماعية وصديق كل الكولونياليين، أن "القوى التي تفلح في تحقيق مشروع السعادة المطلقة العظيم لا تقيم أدنى اعتبار للآلام ذات البعد الثانوي، وتبيد كل قطاع من البشرية يسدّ عليها الطريق. يجب تصفية العقبات جميعها، أيّا ما كانت، وسواءً شكّلها الوحوش أم البشر". أفظع شيء يمكن أن يحل بنا في هذه الأوقات العصيبة المفصلية، هو أن يفقد معسكرنا الحداثي روحه، أو يبيعها كاملة إلى الشيطان. علينا في نهاية المطاف أن نختار : هل الاسلاميون "عقبة" يجب تصفيتها، أم شركاء في الحياة والوطن؟