جدل التحرير والتغيير هو عدوان على الامة بكليتها، فلسطينوغزة هما خط المواجهة الاول والقدس رمزها. إن محرقة غزة ، ليست هي المحرقة الأولى التي يقوم بها الكيان الصهيوني بحق قطاع غزة، بل سبقها مجازر ومحارق شتى، بحيث أصبح هذا السلوك العدواني هو المخرج لتنفيس الغضب والاحتقان الذي يعتري مجتمع الاحتلال إزاء أي قضية توتر تصيب التحالف القائم، من أجل تحصيل مكاسب سياسية قادمة تقوم على منهج المزاودة بين الأحزاب التي تتسابق في مجال التطرف والتشدد بحق الفلسطينيين. غزة تقاوم، سياق المواجهة وقدر الانتصار أو الشهادة عندما تنقل وسائل الإعلام أنباء تفصيلية عن الغارات الجوية الإسرائيلية على غزة، وما خلفته من قتل للأبرياء وهدم للبيوت، وترويع للمدنيين، فإن مستوى الدهشة يقل عندما تجد أن طائرات سلاح الجو السوري في الوقت نفسه تشن غاراتها على حلب و ريف دمشق وتلقي البراميل المتفجرة التي تدمر البيوت والأحياء على ساكنيها ولا تفرق بين كبير وصغير ولا شيخ وطفل وبين مقاتل وغير مقاتل، وفي اليوم نفسه ينقل الناطق الإعلامي باسم الحوثيين في اليمن أنهم استطاعوا السيطرة على مقاطعة عمران التي تبعد عن صنعاء ثلاثين كيلو متراً، وأنهم تمكنوا من تطهير المدينة من مليشيات الإصلاح حسب وصفهم، وتم الاستيلاء على أسلحتهم وما لديهم من ذخائر، وتقول وسائل الإعلام أنّ المقاطعة تشهد حركة نزوح واسعة، حيث تم تشريد ما يزيد عن عشرة آلاف عائلة، وهم في اوضاع مأساوية، حيث لا يتوافر الماء ولا الطعام فضلاً عن عدم توافر المأوى لهؤلاء المشردين في أيام رمضان، وقد زاد عدد القتلى، ومئات الجرحى والمصابين، وتشهد مناطق العراق المختلفة تفجيرات مشابهة خلقت أعداداً كبيرة من القتلى والمصابين.. فما يحدث في غزة صورة مشابهة لما يحدث في سورياوالعراق وليبيا وما يحدث في اليمن، بل ان ما يحدث في أقطارنا العربية لا يقل بشاعة عما يحدث على أيدي الاحتلال، وما كان للاحتلال أن يتم ويستمر بطغيانه وإمعانه في عمليات التقتيل والتدمير، لولا أن الشعوب العربية تعاني من احتلال استبدادي، أشد قسوة وأحط مستوى، إن الشعوب العربية المقهورة التي فقدت طعم الحرية وفقدت نخوة الكرامة، وفقدت نعمة الأمن، وفقدت حقها في تقدير مصيرها بإرادتها، وفقدت حقها في التمكين المجتمعي في أرضها وأقطارها وسيادتها وثرواتها، وفقدت حقها في اختيار حكامها وفرز نخبها، وفقدت القدرة على مراقبة أصحاب القرار ومحاسبتهم، وفقدت السيطرة على أموالها ومقدراتها التي أصبحت نهباً للصوص وقطاع الطرق وسفاكي الدماء من شبكات المصالح والمفسدين النهابين،إن تلك الشعوب التي فقدت كل ذلك سوف تبقى عرضة للغزو والاستعمار، وفريسة سهلة للاحتلال، وقهر الأجنبي. وهذا ما يؤكد أن قيادة الكيان الصهيوني تحاول الاستثمار في مآلات الربيع العربي لتحصيل أكبر قدر من المكاسب السياسية والمصالح الاسرائيلية على الصعيد الاستراتيجي من خلال انتهاز اللحظة والفرصة المناسبة بحسب تقدير بعض التقارير الاستراتيجية الصادرة عن الخبراء ومراكز الدراسات. العدوان على غزة، واستعادة البوصلة من جديد بالرغم مما سبق ذكره من السياق العام للعدوان، فلا ينبغي لنا أن نخطئ التقدير في تحديد الموقف وأن لاننحرف في القراءة السليمة للمعطيات بشكل يربك الحسابات ويخلق وعيا زائفا بميزان القوى الحقيق على الارض، وهنا وجب الحذر من خطأين استراتيجيين يقع فيهما كثير من قادة الرأي والنخب في التعاطي مع العدوان الاخير: -إن الخطأ الكبير الاول الذي يصيب العقل السياسي لبعض( نخبنا وقادتنا) يكمن في التعجل المخل بقراءة المشهد الذي يتفاعل في غزة وهي تقاوم تحت القصف، فموقف جماهير أمتنا العربية والاسلامية مختلف جوهريا عن موقف الأنظمة ، حيث إن الجماهير العربية ملتفة حول القضية الفلسطينية بشكل جارف، وتؤيد بقوة المشروع الجهادي المقاوم للشعب الفلسطيني، وهي في الوقت نفسه ملتفة حول مشروعها الحضاري الاسلامي الكبير، بغض النظر عمن يحمل هذا المشروع ويعمل على نشره وتجذيره، لأن الالتفاف الجماهيري الواسع حول مشروع النهوض وحول مشروع تحرير فلسطين ظل مرتبطاً بنخب وقوى محددة واضحة لها خريطة الصراع، فهي لاتساوم على هويتها وثقافتها، ولا على أرضها ومقدساتها، بالاضافة الى وجود تحول عالمي واسع باتجاه عدالة القضية الفلسطينية وحق الشعب الفلسطيني بتقرير مصيره، وإقامة دولته المستقلة على أرضه مثل كل شعوب العالم. ومن هذا المنطلق فإن العدوان الصهيوني على غزة سوف يسهم اسهاما واضحا في افشال خطة المتحالفين العرب على وأد ثورة الشعوب على أنظمة الاستبداد والفساد، وسوف يكشف المؤامرة الخفية على محاصرة قطاع غزة من أجل افشال برنامج التمكين الجاري في غزة من خلال قطع الصلة مع العالم الخارجي عن طريق سيناء والأنفاق. -الخطأ الاستراتيجي الثاني يتمثل بالارتكاز على القوة العسكرية الساحقة والعصا الآلية الغليظة في اخضاع الشعب الفلسطيني وقهره، التي لم تتوقف بعد الاتفاقيات المتتالية مع مهندسي ومروجي خط أوسلو داخل منظمة التحرير، حيث ما زالت النظرة الاسرائيلية المتغطرسة تقضي باستخدام السلطة الفلسطينية للتنسيق الأمني فقط، ولم يفكرالصهاينة إعطاء الفلسطينين حقوقهم الانسانية بحدودها الدنيا، وثمرة هذا الخطأ القاتل تتجلى في تطوير القدرات الذاتية للمقاومين الفلسطينيين الذين وجدوا أنفسهم وجهاً لوجه أمام معركة الفناء المفروضة والحاسمة ومعركة الحصار الشامل المضروب عليهم بلا نهاية، مما يدفع الفلسطينين دفعاً نحو الاستماتة في كسر الطوق وامتلاك أدوات الدفاع عن النفس، لقد اثبتت هذه المواجهة قدرة المقاومة في غزة على جر اليهود جميعا الى الملاجىء وتعطيل حركة الطيران، واطلاق صفارات الانذار في الغالبية العظمى من الاراضي التي يسيطر عليها الصهاينة وتعطيل حركة السياحة، وإثارة الذعر بين قطعان المستوطنين بطريقة مذهلة لها أثرها الحتمي على القرار السياسي داخل الكيان . وذلك هو الافق الواعد للمقاومة، كخيار وثقافة وخط وانحياز. العوامل المساعدة للعدوان، قل هو من عند أنفسكم لكن من المؤكد أن الذي يدفع جيش الاحتلال نحو هذا السلوك العدواني الحربي البشع بهذا المستوى من الجراءة، عدة عوامل مقروءة من خلال المشهد السياسي القائم. أولها: الوضع القائم في مصر بعد ترتيبات سلطة الانقلاب، والذي يتمثل بانشغال الجيش المصري في معركة الأمن الداخلي وتأمين سلطة الانقلاب، ومواجهة أهل سيناء من جهة و تجريم حركة حماس ووصفها بالارهاب وشن حملة كراهية ضدها، في سياق شيطنة الحركة الاسلامية بإجمال، مما يغري الكيان الصهيوني بممارسة المزيد من البطش واقتراف أعلى مستويات القوة تجاه غزة . ثانيها: الوضع العربي البائس في دول الطوق العربي، علاوة على الوضع المصري، من خلال ما يجري في سورياوالعراق من معارك طاحنة واقتتال داخلي رهيب، مما يغري الكيان الصهيوني باتخاذ خطوات جريئة باتجاه الفلسطينيين قتلاً وتدميراً وتشريداً. إن قادة العدو وحلفاؤهم كانوا يظنون أن عملية الانقلاب على الشرعية في مصر من خلال اسقاط الرئيس المصري المنتخب والشرعي محمد مرسي، تلك العملية التي كانت ثمرة لخطة نفذتها مجموعة أطراف فاعلة في عالم عرب اليوم، إن تلك العملية قد أدت الى احداث تغير دراماتيكي في المشهد السياسي برمته، حيث تم التركيز على محاصرة الحركة الاسلامية وأساسا جماعة الاخوان المسلمين وكافة اذرعتها، ووصفها بالإرهاب، والإمعان في شيطنتها ومحاولة إضعافها شعبياً والنيل منها سياسياً ونهج سياسات عزلها عن محيطها الحيوي، فوجد الكيان الصهيوني الفرصة المناسبة لاضعاف حركة المقاومة الاسلامية حماس وتجريدها من أوراق قوتها الشعبية والعسكرية وضرب برنامجها في البناء والاعداد الذي استمر على امتداد السنوات السابقة، بعد فقدانها الحاضنة السياسية، وكشف غطاء الاسناد العربي عنها الذي كان متمثلاً في مصر وسوريا وايران. ثالثها: الوضع الدولي الصامت والمشارك و المتواطىء مع الكيان الصهيوني في كل جرائمه ضد الفلسطينيين وموقف المؤسسات الدولية المشمول إزاء أي عدوان بفضل الحماية التي توفرها أمريكا دائماً باتخاذ الفيتو الذي يمنع صدور أي قرار من مجلس الأمن، أو أي إدانة بأي مستوى. أما العامل الرابع: فهو المتمثل بالمشهد الفلسطيني، الذي لا يقوى على المواجهة السياسية من جهة سلطة أوسلو التي تمتلك فرصة حقيقية للقيام بدور مناوىء على مستوى عالٍ، من خلال الاتكاء على حادثة حرق الجسد الطاهر للشهيد الطفل محمد أبو خضير وهو حي، عبر جريمة بشعة من أبشع جرائم الجنس البشري، بالاضافة الى عدم القدرة على المواجهة العسكرية المتكافئة، أو التي تحقق إيذاء موجعاً يمنع جيش الاحتلال من القيام بهذه الخطوة، مع التأكيد على نوعية الاختراقات والانتصارات التي أحرزتها المقاومة الفلسطينية بمختلف فصائلها وفي طليعتها حماس . إن المراهنين على مسار التهدئة الى الابد ينبغي أن يعلموا يقيناً أن العدوان على غزة يؤكد فشل كل مسارات التسوية ودخولها في مأزق حاد، وأنه لا مجال للتعامل مع الاحتلال إلا من خلال مشروع مقاومة متواصل ومستمر وطويل الأمد وله نفس طويل وبعد استراتيجي عميق وشامل، بعد التحقق من فشل كل المشاريع السياسية القائمة، وفي الوقت نفسه ينبغي التفكير بعدم تكرار التجارب الفاشلة التي أجهضت ثورات الشعب الفلسطيني وانتفاضاته المتكررة من خلال الوقوع في فخ الاحتواء من قبل السلطة والتخلي عن استراتيجية التحرير الشامل والتخلي عن البندقية قبل إنجاز مهام التحرير والاستقلال التام. مما يعني كخلاصة ، أن لا سبيل إلى مقاومة الغزو والاحتلال القادم من خارج الحدود إلا إذا امتلكت الشعوب حريتها وإرادتها وكرامتها، وامتلكت القدرة على تحرير نفسها من سطوة الاستبداد والديكتاتورية، ولن يتم ذلك إلّا بإنشاء جيل جديد يتربى على قيم العزة والحرية، بعد التخلص من تركة الأجيال التي عاشت في ظلال الذل والقهر والمسكنة، وفي ظلال العبودية والرق والخوف والجبن. ختاما إن غزة –وهي تقاوم وتلملم جراحها-تدفع عنا جميعا ثمن الضعف العربي والانقسام الحاد المتحكم في جسد الامة، وتؤدي أكلاف التواطؤ العربي والدولي، وتدفع ثمن التآمر لافشال ثورة الشعب المصري، كما انها تدفع ثمن التدهور العربي المزري، والضعف العربي المستشري على كل الأصعدة وفي كل المستويات . لكننا بالرغم من كل ذلك نقف على أعتاب مرحلة جديدة سوف تفرض معالمها على المنطقة برمتها، وعلى الأجيال القادمة في أمتنا أن تستعد لهذه المرحلة الجديدة، بثقافة جديدة ومنهجية جديدة، تنعتق خلالها من رق التقليد الأعمى للثقافة القديمة والمنهجية القديمة التي أدت إلى هذه النتيجة المرعبة، على كل المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية والتعليمية والتربوية، وأن تسعى لتلمس طريق النهوض الحقيقي الذي يتطلب مزيداً من الجهد ومزيداً من البذل، وقسطاً وافراً من البصيرة والرؤية السليمة التي تمكنهم من قراءة المشهد بدقة متناهية، تتجاوز حالة الغثائية المريضة، التي أودت بالأمة وعصفت بقوتها وذهبت بريحها تحت مطارق الجهل والعجز والتعصب والفرقة والتشتت.