عزا الدكتور إدريس لكريني، مدير مجموعة الأبحاث والدراسات الدولية حول إدارة الأزمات، كثافة الهجرة عبر المتوسط إلى الإكراهات الاجتماعية والاقتصادية التي تشهدها العديد من دول جنوب الصحراء والساحل، جراء الصراعات السياسية والعسكرية، وإلى كون الدول التي تعد معبرا نحو الضفة الأخرى تتميز بطول حدودها ووعورة تضاريسها". ولفت لكريني، في مقال خص به هسبريس، إلى أن تحولات الحراك في المنطقة وما رافقها من ارتباكات أمنية وسياسية وصعوبات اجتماعية بانتشار البطالة والفقر، أفضت إلى تنامي هذه الظاهرة، عبر استغلال الانفلاتات الأمنية وضعف المراقبة البحرية، والانشغالات المرتبطة بتحولات الحراك في تونس وليبيا خاصة". وهذا نص مقال لكريني كما ورد إلى الجريدة: الهجرة السّرية عبر المتوسط.. السياق والتداعيات ظلّت الهجرة على امتداد التاريخ الإنساني؛ تستجيب لتطلعات الأفراد في مناطق مختلفة من العالم؛ نحو تطوير حياتهم وتغيير ظروف عيشهم نحو حياة أفضل. وبفضل هذه الظاهرة؛ انتشرت الأديان السماوية والعلوم والمعارف وتواصلت الشعوب فيما بينها.. تراجعت حدّة الهجرة مع توجّه الدول إلى فرض التأشيرات ومراقبة الحدود؛ وبدأ الحديث عن هجرة "شرعية" وأخرى "غير شرعية" ضدّأ على المواثيق الدولية الداعمة لحرية التنقل واللجوء. ورغم التحولات التي شهدها العالم في أعقاب نهاية الحرب الباردة وسقوط جدار برلين وما تلاهما من انفتاح اقتصادي وتحرير للتجارة؛ وحدّ من التعريفات الجمركية؛ وفتح المجال أمام تداول المعلومات والخدمات بفعل رياح العولمة؛ فإن هذه الأخيرة استثنت من ذلك حرية مرور الأشخاص.. ونتيجة لمجموعة من الظروف والعوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية؛ تحوّلت الهجرة في عصرنا الحالي إلى معضلة ألقت بظلالها؛ سواء بالنسبة للدول "المصدرة" أو "المستقبلة" من منطلق تداعياتها وانعكاساتها المختلفة على الطرفين. لقد فتحت أوربا الغربية الحدود على مصراعيها أمام المهاجرين من بلدان مختلفة في أعقاب نهاية الحرب العالمية الثانية؛ عندما كانت بحاجة إلى سواعد لإعادة بناء ما دمّرته الحرب وتجاوز مخلّفاتها الكارثية، قبل أن تشرع في إغلاق هذه الحدود بإحكام فيما بعد؛ من خلال اتخاذ تدابير أمنية ميدانية وسنّ قوانين تدعم هذا الخيار. فخلال السنوات التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفييتي وما تلاه من رغبة متزايدة في توسيع الاتحاد الأوربي من جهة، وتزايد وثيرة الهجرة الإفريقية إليه تحت ضغط الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتزايدة من جهة أخرى.. شرعت الدول الأوربية في سن مجموعة من القوانين؛ واتخاذ العديد من التدابير والإجراءات من أجل تنظيم هذه التدفقات نحو بلدانها والحد منها؛ الأمر الذي أسهم في تزايد الهجرة السّرية. تخلف الهجرة السرّية تداعيات سياسية واجتماعية واقتصادية كبرى؛ ويزداد حجم هذه الهجرة كلّما كان الفارق الاقتصادي والاجتماعي شاسعا بين إقليمين متجاورين.. وقد تنامت حدّتها خلال العقود الثلاث الأخيرة نتيجة لعوامل عسكرية مرتبطة بالحروب والنزاعات؛ أو تحت وطأة الكوارث والعوامل الطبيعية كالجفاف..؛ أو بفعل عوامل سياسية مرتبطة بغياب الحريات وهيمنة الاستبداد.. وتحت ضغط عوامل اجتماعية واقتصادية في علاقتها بالبحث عن عمل وظروف عيش كريم.. إن ركوب الكثير من الأشخاص لغمار الهجرة السرية في ظروف غير إنسانية ومهينة؛ يعود في جانب أساسي منه إلى حالة الإحباط التي يشعر بها الكثير من الشباب نتيجة للأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية الصعبة التي يواجهونها داخل بلدانهم. فعلاوة على رحلة المعاناة التي يقطعها هؤلاء المهاجرون عبر طريق طويل محفوف بالمخاطر؛ تتعرض معه العديد من النساء للاغتصاب؛ ويلقى البعض حتفه جوعا وعطشا؛ زيادة على تعسّفات الوسطاء وما يحيط بذلك من نصب؛ أشارت بعض التقارير إلى أن أكثر من 900 مهاجر سري من جنسيات مختلفة توفي سنة 2007 في الطريق إلى مضيق جبل طارق؛ وذكرت مصادر أخرى أن أكثر 17 ألف مهاجر سرّي لقوا حتفهم غرقا في حوض المتوسط على امتداد العقدين الأخيرين. تزايدت نسبة الهجرة عبر المتوسط في السنوات الأخيرة تحت ضغط مجموعة من العوامل؛ فتبعا لمعطيات قدمتها المنظمة الدولية للهجرة، فقد عبر حوالي أربعون ألف شخص نحو الضفة الشمالية للأبيض المتوسط في ظروف صعبة وعبر مراكب وقوارب مهترئة عام 2013؛ فيما بلغ عدد المهاجرين في نفس الاتجاه وخلال الأشهر الخمسة من السنة الجارية (2014) أكثر من أربعين ألف مهاجر. وتتباين جنسيات هؤلاء المهاجرين؛ فهناك السوريون والمصريون والمغاربة والليبيون والصوماليون والنيجيريون.. وغيرهم من الأشخاص المنحدرين من دول إفريقيا جنوب الصحراء. إن الهجرة السّرية ليست جديدة في المنطقة؛ فقد برزت بشكل جليّ في أواخر الثمانينيات؛ غير أنها تطورت بشكل ملفت نتيجة التدابير الصارمة التي اتخذتها دول الاتحاد الأوربي في هذا الشأن؛ حيث لم تعد مرتبطة بمبادرات فردية؛ بل أصبحت تنظّم في إطار شبكات منظمة وعابرة للحدود. وتجد الهجرة المكثفة عبر المتوسط أساسها في مجموعة من العوامل؛ فعلاوة عن الإكراهات الاجتماعية والاقتصادية التي تشهدها العديد من الدول الإفريقية؛ وبخاصة منها المتموقعة في إفريقيا جنوب الصحراء والساحل؛ حيث تقترن هذه المشاكل مع الصراعات السياسية والعسكرية وضعف الدولة المركزية وعدم قدرتها على بسط السيطرة على ترابها. كما أن الدول التي تعد معبرا نحو الضفة الأخرى؛ تتميز بطول حدودها ووعورة تضاريسها؛ بما يعقد عمليات مراقبة العبور.. وبرغم التراجع الملحوظ المسجّل في وتيرة الهجرة السرية عبر المغرب نحو الدول الأوربية قبل عام 2011؛ بفعل التدابير الأمنية والتعاون المبرم بين المغرب ودول الاتحاد الأوربي في هذا الصدد؛ فقد أدت تحولات الحراك في المنطقة وما رافقها من ارتباكات أمنية وسياسية وصعوبات اجتماعية في علاقة ذلك بانتشار البطالة والفقر.. إلى تنامي هذه الظاهرة؛ سواء تعلّق الأمر بمواطني هذه الدول كما هو الشأن بالنسبة لسوريا وليبيا وتونس ومصر.. أو تعلق الأمر برعايا دول إفريقية أخرى؛ بعدما تم استغلال الانفلاتات الأمنية وضعف المراقبة البحرية والانشغالات المرتبطة بتحولات الحراك في تونس وليبيا اللتان أضحتا معبرا مفضّلا لعدد من المهاجرين نحو الضفة المقابلة من المتوسط. كما أسهم التّدهور الأمني بدول الحراك بهذه المنطقة في تراجع مراقبة للحدود البحرية بشكل فعال وعدم القدرة على إسعاف المهاجرين أو تقديم العون لهم في حال تعرضهم للغرق.. فالكارثة الإنسانية التي خلفها الصراع الدموي في سوريا؛ وما نتج عنه من قصف وتدمير أرغم الكثير من الساكنة إلى مغادرة البلاد في اتجاهات مختلفة طلبا للأمن؛ وقد سعى الكثير منهم للوصول إلى الأراضي الأوربية كاليونان وإيطاليا وإسبانيا؛ عبر المغرب وتونس وليبيا والجزائر.. تناقلت وكالات الأخبار الدولية نبأ غرق سفينة تقلّ مهاجرين من جنسيات مختلفة على مشارف السواحل الإيطالية بالقرب من "جزيرة لامبيدوزا" في الثالث من أكتوبر مما تسبب في وفاة 364 شخص من بينهم نساء وأطفال. كما وقعت حادثة غرق سفينة أخرى على مقربة من الشواطئ المالطية؛ خلال نفس السنة؛ مما تسبب في مقتل 36 شخصا. وكردّ فعل على ذلك؛ قامت السلطات الإيطالية باتخاذ مجموعة من التدابير الأمنية الاحترازية برّا وجوّا وبحرا؛ لمواجهة تدفق المهاجرين؛ وهو ما قامت به إسبانيا في فترات سابقة. وإلى جانب إيطاليا لم تخف مجموعة من الدول كإسبانيا واليونان ومالطا انزعاجها من تزايد المهاجرين السّريين القادمين نحو أراضيها؛ كما دعت دول الاتحاد الأوربي إلى التعاون معها لمواجهة تداعيات الظاهرة.. ورغم تنامي الدعوات التي تقودها بعض المنظمات الحقوقية داخل أوربا لاستحضار البعد الإنساني في التعامل مع الظاهرة انسجاما مع التشريعات والمواثيق الدولية ذات الصلة؛ فإن تنامي التيارات اليمينية الرافضة لمسار الاتحاد الأوربي؛ ورفع الأحزاب السياسية الأوربية المنتمية لهذه التيارات لشعارات انتخابية لا تخلو من عنصرية في مواجهة المهاجرين باعتبارهم مسؤولين – بحسب هذه التيارات- عن كل الإكراهات والمعضلات التي تعيشها أوربا في علاقة ذلك بمظاهر التطرف وتفشي البطالة.. يزيد من حجم المعاناة والتضييقات التي تواجه فئة المهاجرين؛ ويحول دون بلورة قوانين واتفاقات تدعم تخفيف القيود عن الهجرة وتوفير شروط استقرار واندماج المهاجرين بصورة تحميهم وتحفظ كرامتهم وإنسانيتهم. تحاول الكثير من دول الاتحاد الأوربي تحميل دول الجنوب من البحر الأبيض المتوسط مسؤولية مواجهة تبعات الظاهرة لوحدها؛ معتبرة إياها مجرد "دركي" لمنع ولوج المهاجرين إلى ترابها، مع السعي لاختزال مقاربة الظاهرة في الجوانب الأمنية والردعية؛ دون الوقوف على مسبباتها والعوامل المختلفة التي تغذيها؛ متناسية أن الأمر يتطلب مقاربة شمولية تدعم التنمية والاستقرار بالبلدان المصدّرة للهجرة. وبفعل هذه السياسات والتوجهات؛ تحوّلت العديد من دول جنوب المتوسط كما هو الشأن بالنسبة للمغرب من بلدان للعبور إلى بلدان للإقامة بالنسبة إلى عدد من هؤلاء المهاجرين؛ في سياق ما بات يعرف بالهجرة جنوب – جنوب، التي ظهرت كسبيل لتجاوز الإكراهات الاجتماعية التي يعيشها هؤلاء المهاجرون في بلدانهم الأصلية، وكبديل عن الهجرة جنوب - شمال. والحقيقة أن هناك حاجة إلى إعمال استراتيجية شمولية تقف على مسببات الظاهرة بجوانبها المختلفة؛ في إطار من التعاون والتنسيق الدوليين؛ لتجاوز تداعياتها المختلفة بعيدا عن منطق الأحادية والمبالغة في استحضار المدخلين القانوني والأمني في هذا الشأن. وهو ما يفرض الانخراط في بلورة صيغة بنّاءة لتعاون شمال – جنوب؛ عبر تشجيع التنمية والاستثمارات في دول الضفة الجنوبية في إطار من التشارك والتنسيق وبعيدا عن لغة الإحسان؛ ودعم السبل السلمية لتدبير الأزمات والصراعات التي خلفت الكثير من الإكراهات والصعوبات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تظل مسؤولة في جانب مهم منها عن تفشّي الظاهرة.. * مدير مجموعة الأبحاث والدراسات الدولية حول إدارة الأزمات [email protected]