يبدو أن التاريخ انتهى، ليس للأمر علاقة هنا بما جاء به أحد منظري المنظومة الفكرية الجديدة القديمة للفكر الغربي بصفة عامة . الأمر يتعلق بالنهاية الفعلية للتاريخ كمفهوم أقام الدنيا وأقعدها. دقت آخر المسامير في تابوته ووري التراب للأبد في جنح الظلام ومن المؤسف أنه لم يحضر جنازته أحد باستثناء شرذمة من أولئك الذين أجهزوا عليه ، ففي نهاية الأمر ليس من مصلحتهم أن يعلم أحد بما جرى ، فكانت الجريمة كاملة سوف لن يؤرخ لها، لأنها أنجزت دون أن يشهد على ذلك أحد ، وثانيا لأن السجل الذي كان من المحتمل أن تدون فيه صار جثة هامدة . هذا الكلام سوف لن يعجب بالتأكيد "هيغل" و"ماركس" وستكون خيبة أمل" فوكو" منه كاريثية ، صدمة قد تنبث الشعر على رأس الأصلع . أحجية تبدأ مع أولئك الذين مجدوه ( أي التاريخ) في حياته وكتبوا عنه قصائد لا تعد ولا تحصى ، معلقات لن يسعها مركزي التجارة العالمي إذا كانا لا زالا قائمين ، لكانت كلمة رثائية واحدة في حقه بعد رحيله. في إحدى معلقات " هيغل" عن التاريخ ، وفي لحظة مجد لم يسبق لها مثيل رأى" بونابارت" وهو يغزو "بروسيا" " التاريخ على صهوة جواد" ." بونابارت" بكل ما كان يمثله آن ذاك من مثل الثورة الفرنسية ومبادئها السامية التي بغض النظر عن كونها كانت فرنسية خالصة، إلا أنها كانت " منارة" لكل من تدفعه حماسة " الحرية والكرامة " أن يقتدي ب"الملحمة" لتجسيدها في مكان وزمان آخرين. " التاريخ على صهوة جواد" نصر آخر وعلامة أخرى تضاف لترقية هذا المفهوم وجعله يسمو فيصير أفقا تتطلع له الرقاب بشوق المحبين الولهانين المتيمين. لحظة جعل منها "هيغل" عمودا رفع مظلة معشوقه حتى تجد الإنسانية فيها ملجأ تفر إليه يشتد الظلم، وتقسو السياط، مظلة تحج إليها البشرية جمعاء وفي مازوشية لانظير لها، حتى تأتي لحظة المجد التالية، ويأتي "بونابارت" آخر على صهوة جواده. إلا أن الأمر كان جميلا جدا حتى يكون حقيقيا، فصار الجواد ومن على صهوته جلادين، آلتي توسع واستنزاف تزداد كل حملة تلو الأخرى وأصبح كل ما كانت ترمز إليه الثورة في شخص "بونابارت" نقيضا لذاته، فتحولت شعارات الأخوة ،الحرية والتعاضد، مفردات للتنافر والقهر ، وكان إذ ذاك على "هيغل" أن يتفطن كون التاريخ قد انتهى ، أو على الأقل أنه لن يكتب له أن يعيش طويلا ولكن كيف للأب أن يذم وليده؟ وكيف ل"ماركس" أن يقول عكس ذلك وهو من ترعرع التاريخ في كنفه؟ حكاية "ماركس" والتاريخ ، حكاية عشق تفوق سابقتها: إذ انتقلت من درجة العشق إلى درجة العبودية . ضخم المفهوم إلى أن صار مخلوقا قائما بذاته ، يتحكم بمصائر الأفراد والشعوب ، ويوجه مسيراتهم ، شهد على نكساتهم وانتصاراتهم ، يحركهم كبيادق في لعبة لم يكن يجيدها نظرا لعبثية نتائجها ، ونظرا لكون تحريكة للقطع تلك ليست دائما في صالحها. رفع إلى مقام المخلوق اللامنتهي آلهة من ذلك النوع المذكور في الميثولوجيا الإغريقية، والتي كانت تتفرج على "سيزيف" يدفع الحجر إلى قمة الجبل ليظطر إلى دفعها مرة تلو الأخرى لأنها تتدحرج إلى الأسفل . وعلى أطلس وهو ينوء تحت وطأة الصخرة الكروية التي كان يحملها على ظهره. آسف يا "ماركس"، آسف يا"هيغل" فالأسطورة انتهت. آسف يا"فوكو"لأن الصدمة أشد وأعظم. " فوكو" الذي ظن أنه بطل تمرد فكري غير مسبوق على منظومة فكرية معينة ، فغير البنيات والمفاهيم ، غير التصورات ،خرق القواعد وكسر المعتقدات فأعطى صورة جديدة للتاريخ الذي أصبح بالنسبة له قطائع ، أعمدة تقف كل واحدة منها منفصلة عن الأخرى ، فتطاول بذلك على أحد الأسس التي بنيت عليها التاريخانية وهي الأفقية والإستمرارية. إلا أنه ومع الأسف الشديد لم يفطن لأمر بالغ الأهمية ، لم ينتبه لكون المنظومة التي تجرأ أن يخرقها اكتسبت ذاتية غير مسبوقة في اشتغالها فصارت تستوعب من يقاومها، وتحوله إلى مصدر للإستمرار رغم أنفه. تحركت الرمال المائجة تحت قدم المسكين "فوكو"، واستعملت نفس المفاهيم التي جاء بها لتؤكد مصداقيتها وشرعية وجودها. القطائع صارت مبررات لخطاب جديد ، وجداول أعمال جديدة تحضرالعقول للرضوخ أمام الأمر الواقع . فصرنا نتحدث عن ما قبل حدث ما وعن ما بعده . تحول العالم فجأة وصار الكل بدون استثناء مستعد لتغيير أصباغه والظهور بحلة تجعله يواكب التحول في " العالم المتحول" لم يعد التاريخ سوى هيكل عظمي نهشت لحمه نسور "الكالاهاري" ، وصارت تتوارى من ورائه وتحركه دمية حتى يقتنع الكل أن هذا هو التاريخ ، التاريخ من فضلكم ومن يقف في وجه التاريخ فهو يقف في وجه " بونابارت" وجواده ،إنه يقف عقبة في طريق أول الرجال .