لقد شكل خطاب جلالة الملك بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب 2010، مناسبة قوية أكد فيها محمد السادس على عدة تحديات منهجية لطبيعة حكمه في العشرية المقبلة. كما وجه رسائل واضحة ومشفرة للشركاء والفرقاء والمساهمين في صنع القرار الوطني، وتأطير وتمثيل المواطنات والمواطنين. وهي كلها تحديدات طبعت وتطبع تصورا نسقيا حكم رؤيته لراهن ومستقبل المملكة، وللتعامل الإيجابي مع ما يطرحه من أولويات لمشاكلها، ولوضعها الداخلي والإقليمي والدولي. إن ما يمكن استخلاصه من تحديدات يرتكز في نظرنا أولا على القيمة الرمزية لثورة الملك والشعب. وهي التي انصهر فيها محمد الخامس مع التطلعات التحررية للشعب المغربي، وآثرها عن الوضع المادي والاعتباري الذي اقترحته عليه سلطات الحماية. وقرار القوى الجادة والوطنية باستعمال كافة أشكال النضال والكفاح والتمرّد، القمين بإرجاع الملك الشرعي واستقلال المغرب. وتلكم هي الصورة التي ينشدها محمد السادس، والمتمثلة في تلاحم مكونات المجتمع الوطني حول أهداف وسبل استكمال التحرر وتثبيت التنمية المستدامة والمندمجة. لقد جعل الملك من هذه المناسبة، التي شكلت اختيارا صعبا ومصيريا للملك وللشعب، مطية للإقناع بأن ما هو مطروح على المغرب من مهام الدفاع عن وحدته الترابية، والضغط لتليين مواقف الجزائر ومن يسير في ركبها من اقتراح الحكم الذاتي الموسع للأقاليم الصحراوية، ومن التوجه التنموي والديمقراطي الذي ينشده ويسهر عليه، كل ذلك يستوجب بالضرورة استحضار 20 غشت وما تحمله من دلالات موحية وقادرة على بناء الثقة الكافية والضرورية، لمواصلة تحديث الدولة والمجتمع ودمقرطته عبر مفهوم جديد للسلطة وتنظيم ترابي واعد بانبثاق الطاقات والكفاءات. ويرتكز التحديد الثاني على جعل مسار الجهوية المتقدمة خيارا استراتيجيا، يختزل رهانات المغرب الكبرى، المتمثلة في الوحدة والديمقراطية والتنمية. وهو بذلك يوازي بينه وبين خيار التحرر والاستقلال الذي أطلقه جده، واستتباع للجهاد الأصغر بالجهاد الأكبر. وكأن حدثي المسيرة الخضراء وإرساء أسس الدولة الحديثة التي ميزت فترة حكم والده الحسن الثاني، لم تكن سوى منجزات إجرائية، لها ما لها وعليها ما عليها. ويلاحظ في هذا المجال تسطير الخطاب لأهم المراحل المنهجية التي ستطبع بلورة هذه الجهوية المتقدمة، من فتح نقاش وطني حولها ووضع خارطة طريق لتفعيلها وإعداد ميثاق لعدم التمركز ومساهمة الأحزاب الجادة في تفعيل ذلك. وينبغي هنا تسجيل ملاحظتين جديرتين بالتأمل والاستيضاح: •الإشارة لأول مرة إلى مساهمة الأحزاب الجادة في تفعيل مسار الجهوية المتقدمة، إذ يحث ذلك على تبني المقاربة التشاركية في هذا المجال. وهذا أمر مستحب. غير التأكيد على الأحزاب الجادة يحيل على منظور الملك لراهنية الأحزاب السياسية، وما تعرفه من نكوص وتآكل وتتقوقع، ويحيل أيضا على منظور قيمي لما ينبغي أن تكون عليه هذه الأحزاب لتلعب أدوارها التنموية والاقتراحية والتنظيمية والتمثيلية. ويطرح السؤال بالتالي عن مقاييس تحديد الأحزاب الجادة وغير الجادة، ومضمون الجدية مضمون أخلاقي وفكري وعملي أكثر منه قانوني وكمي وعددي. كما يوحي والله أعلم بمعالم تعديلات قانونية وتشريعية قادمة، تترجم مقاييس الجدية المطلوبة من الأحزاب السياسية في ظل التفكير والمساهمة في بناء وبلورة الجهوية المتقدمة الموعودة. •استثناء المجتمع المدني الجاد والفعاليات العلمية والاقتصادية والثقافية الوطنية والمحلية، من تفعيل مسار الجهوية المتقدمة. وهو إقصاء لا يمكن إلاّ أن يؤثر سلبا على إشراك سواعد وعقول فاعلة ومؤثرة في الدورة الاقتصادية والاجتماعية الوطنية، وعلى بلورة تصور واقعي وقريب من خصوصياتنا وإمكاناتنا الحقيقية والمؤثرة والعملية. ويرتكز التحديد الثالث على تصور جلالة الملك لطبيعة الحكم الذي يبتغيه للعشرية القادمة، يحكمه تصور استشرافي طويل المدى وبعيد الآفاق، لا تمتلكه الأحزاب السياسية ولا تمتلك غيره، لا تناقشه ولا تعارضه ولا تقترح تعديلات عليه، وإنما تتفاعل مع مضامينه وتسير على هديه. وهو ما سيطبع دون شك ملامح التعديلات الدستورية المرتقبة، والتي لن تمس في الغالب تفويت مهام وصلاحيات جديدة إلى الحكومة والوزير الأول، إلى أن يرتقي العمل الحزبي الجاد وينضج ويستقيم عوده. وسيبقى الملك يسود ويحكم إلى أن تنتزع الأحزاب السياسية الجادة أحقية المكان والمكانة، بجدارة التمثيل والتنظيم والاقتراح.