قال صاحبي وهو يحاورني بعدما لاحظ التغيير الجذري الذي أصاب وادي أبي رقراق، حيث تغيرت معالمه الكبرى التي كانت شاهدة على فترة من فترات ازدهاره. أين الميناء البحري الذي كان يستقبل السفن والبواخر المحملة بالأسماك الطرية، وأين النوادي البحرية من "الأولمبيك وسطاد والفتح.." التي كانت تسهر على تنشئتنا ونحن صغار في مجال السباحة وكرة الماء والتجذيف والزوارق الشراعية.. وأين المطاعم الخاصة التابعة لها.. بل أين شاطىء "بركامة" والذي كان بمثابة ملحق لشاطئ الرباط ، و متنفس لشباب سكان المدينة القديمة ونواحيها كأحياء ( الاوداية والملاح،وأوقاصة، وبوقرون والسويقة ولوبيرا، ولكزا،وللابكنابش، وتحت الحمام، والسوق التحتي، والمحيط..). حيث تنظم به دوريات في لعبة كرة القدم وخاصة في فصل الصيف،حيث الإقبال على الشاطئ يتزايد، والفرجة تتاح لمن تطأ قدمه رمال الشاطئ. وكانت فرصة لأندية كرة القدم لإرسال المنقبين على المواهب لاكتشافها، ومحاولة استقطابها للانضمام إلى صفوفها بداية كل موسم جديد.. وفرصة كذلك للالتقاء بنجوم أندية العاصمة عن قرب..كما كان ملعب الرحبة وملعب حسان وملعب باعلال وملعب "دريجة" وملعب مدارس محمد الخامس الذي كانت تنظم فيه كأس الربيع ( نسبة إلى عطلة فصل الربيع) من العلامات المميزة التي ساهمت في خلق مواهب كروية أغنت رصيد أندية العاصمة كاليوسفية وسطاد والفتح والجيش وا تواركة والقرض الفلاحي و... بالعديد من الموهوبين ، واللاعبين المهرة . وأين القوارب العابرة للضفتين جيئة وذهابا والتي يتزعمها "با مقراج" و"أحمد الميترو" و" عبدا لنبي السبيندر" و آخرون.. وفي التفاتة منه جهة الضفة الأخرى السلاوية، لاحظ صاحبي شطب " بركامة" السلاوية بحيث لم يعد لها أثر، فتساءل باندهاش: ألم نكن نعبر النهر سباحة لإجراء مقابلة كروية مع أبناء سلا، وفي النهاية نستمتع بأشعة الشمس ونحن نعرض أجسامنا بعد ذهنها بالقليل من زيت الزيتون و"الخل" و العطر، رفقة يهود الملاح الذين كانوا مزهوين بأنفسهم وهم يمتطون القوارب، فنزعجهم برش الماء عليهم ونحن نعبر النهر سباحة كفريق ؟. ألم نكن ننصب خيمتنا هنالك، ونقضي العديد من الأيام رفقة الزوار الأجانب، والقاطنين بسلا.. وننتظر الزاد القادم إلينا من الضفة الأخرى ليلا، عبر المناداة علينا من قبل إخواننا الصغار، فنهرول بالتجديف بقارب من القوارب المربوطة، ثم نعيده إلى مربطه ؟ أجبته بهزة من رأسي، بعدها طأطأ رأسه متعجبا لما لحق بالأمكنة التي كان لها الأثر البليغ في رسم معالم طفولته وشبابه إلى أن هاجر، ولما عاد أراد أن يعيد الشريط من أوله ،وجده قد تعطل. إذاك أشرت عليه بأن ما كان يعيشه في فترة من فترات طفولته وشبابه، هاهو يعاد بطريقة أخرى تعيد للأمكنة جماليتها ورونقها بطريقة تعتمد الاقتصاد أساسا. فليس الأمس كاليوم، وما كان يوهب في الماضي بالمجان، أصبح اليوم بمقابل. انظر و امدد نظرك وسترى أوراش البناء التي تزحف نحو كل شبر من اليابسة. هاهي الفنادق تقام، والمقاهي والمطاعم تفتح أبوابها في وجه زبناء العملة، وأية عملة ؟. والميناء البحري الذي تحدثت عنه، ألم تر أنه أعيدت هيكلته، بناء على الدراسات التاريخية، التي تعيد لمدينة سلا عنفوانها ،عن طريق قراصنة سلا، الذين كان لهم باع طويل، في الميدان البحري بشهادة الإسبان والبرتغال..؟ ألم تر هذه الطفرة النوعية، التي عرفها وادي أبي رقراق، على مستوى المشاريع المدرة للدخل؟ ألم تر هذه السفن، الحاملة لأعلام القارات الخمس، والراسية بالميناء ؟ ألم تر المتاجر التي رصت على أرصفتها، والتي تعرض كل ما يتعلق بالبحر والبر.؟ ألم تر..؟ ألم تر...؟ كفى ! رأيت.. ! ما أقصد بالتغيير الجذري، أن كل ماكان متاحا لنا، في فترة طفولتنا وحتى شبابنا، سواء في الأندية الرياضية المائية أو البرية كان بالمجان ، ومتاح للجميع.. أين الوحل الذي كنا نتصارع بكويراته، ونتزحلق بفعل الجري على بعضنا البعض؟ وأين السرطان الذي كنا نتسابق لإمساكه قبل أن يدخل الحفر، وجمعه لطهوه في إناء ، والاستمتاع بأكل لحم أرجله وملاقطه؟ وأين دود طعم الصيد الذي كنا نتنافس في جمعه لملء علبة مربى مقابل دريهمات، لشراء أكلة خفيفة، ومشاهدة فيلم في سينما سطار؟. وأين...؟ وأبن..؟ قلت له : ذلك زمن ولى، ولكل جيل زمانه. فجيل "بركامة" ليس هو جيل " لامارينا". فالأمل معقود على السلطات المحلية في مسح المنطقة الترفيهية من كل من يعاني العوز والفقر، والتلويح به في جهات تسمح له بالتعايش مع عينات تماثله مستوى معيشيا واقتصاديا.. لفسح المجال" لأصحاب الحبة" أصحاب البارود. فكل ملاعب الأحياء بالعاصمة أصابها الزحف الإسمنتي، وجل قاعات السينما تحولت إلى قيساريات تجارية، وكل ما يمت إلى الثقافة والرياضة بصلة أصبح من اختصاص ثلة من المستثمرين الذين تفوقوا في مجالات الماركوتينغ والبيزنيس في مدارس مختصة بأوربا و أمريكا.. فباي باي "بركامة" ومرحى ب " لامارينا بيش". وختمت مع صديقي بالقول: فلربما في الزيارة المقبلة لم تتح لك الفرصة لتطأ قدمك أرضية "لامارينا" إلا بواسطة بطاقة خاصة ، أو جواز من نوع خاص..