صدر سنة 2009 كتاب جديد لعبد الله العروي، بعنوان "من ديوان السياسة" عن المركز الثقافي العربي، عدد الصفحات 224 من الحجم المتوسط. والكتاب مؤلف من فقرات مرقمة ومعنونة. وقد صدر له كتاب آخر بنفس المنهج الذي اتبعه في هذا الكتاب، وهو بعنوان "السنة والإصلاح"، غير أن مجال كتاب "من ديوان السياسة" هو السياسة، ومجال "السنة والإصلاح" هو العقيدة. ينصب اهتمامي أساسا حول إبداء ملاحظات محددة في مواضيع معينة في الكتاب، ما يعني أنني سأكتفي بمناقشة بعض الأفكار التي جاءت في الكتاب وترك مناقشة الأفكار الأخرى. وإقدامي على هذه الاختيارات المنهجية نابع من رغبتي في إثارة موقف العروي من الأمازيغية لغة وثقافة وتاريخ وهوية. موقف يعبر عنه تارة بشكل واضح وتارة أخرى بشكل غامض وملتبس. وموقفه يعبر عن هيمنة ذهنية عربية إقصائية. ومعاداته للأمازيغية وإمازيغن ليست غريبة علينا، لأن مشروعه الأيديولوجي، والذي بدأه منذ كتاباته الأولى، مشروع يعالج إشكالية معروفة حددها كما يلي: "كيف يمكن للفكر العربي أن يستوعب مكتسبات الليبرالية قبل (وبدون) أن يعيش مرحلة ليبرالية؟" ويمكن القول أن هذا السؤال يبين الأفق الفكري الذي يدور فيه العروي، ما يعني أن أطروحات العروي ليست تقدمية بقدر ما هي قومية وعربية إقصائية. وقبل الإنطلاق في إبداء الملاحظات، سأذكر بثلاث نقط أساسية تعتبر، في تقديري، مهمة لاستيعاب كتابات العروي. ويتعلق بعضها بعوائق ابستمولوجية سيتبرم العروي من ذكرها. 1- تتميز الطريقة التي يكتب بها العروي بالغموض أحيانا، وتجنب التدقيق والتعميم أحيانا كثيرة. 2- يقوم العروي، وباستمرار، على إسقاط تجارب مجتمعات أخرى، غربية في الغالب، على المجتمع المغربي، وهذا عائق ابستمولوجي. 3- ينطلق العروي في التحليل من العموميات، ما يجعل أفكاره قابلة للتأويل إلى حد التناقض. ما يعني أن العروي يتجنب التفصيل في الجزئيات، مستلهما ذلك من المثل الفرنسي الشائع "يوجد الشيطان في الجزئيات". - تتعلق الملاحظة الأولى بما ورد في الفقرة رقم 02 والمعنونة "لقاء في مقهى" من حديث عن الأمازيغية وتيفناغ، أو "التيفناغ" كما كتب العروي في كتابه عندما أضاف "ال" التعريف إلى كلمة أمازيغية مرتكبا خطأ لغويا. وما يهمني هنا ما أشار إليه الكاتب عن لقائه بشاب كان يقرأ صحيفة مكتوبة بتيفناغ. يقول العروي:" جلست هذه المرة جنب شاب كان يقرأ صحيفة مكتوبة بالتيفناغ، الحرف الذي تكتب به اليوم اللغة الأمازيغية" (ص. 06) والعبارة التي أثارتني كثيرا هي"الحرف الذي تكتب به اليوم اللغة الأمازيغية" ولأن العروي أثار الموضوع بشكل عام، فإنني ارتأيت القيام بتحليل هذه العبارة من أجل الكشف عن المعاني غير المعلنة لهذه الجملة، والتي تبدو كأنها عادية، لكن كلمة "اليوم" الواردة فيها تعني شيئا كثيرا بالنسبة لمؤرخ يوظف ظرف الزمن بشكل واع. يمكن بناء على ما قاله العروي في العبارة، سالفة الذكر، استنتاج أفكار تبين المغالطات التي ارتكبها العروي: - تتعلق الفكرة الأولى بفصله للغة الأمازيغية عن تيفناغ، بحيث يقول "الحرف الذي تكتب به اليوم اللغة الأمازيغية"، فهل ذلك يعني أن اللغة الأمازيغية كانت تكتب قبل اليوم بحرف آخر ولم تكن تكتب بتيفناغ مطلقا، وإذا كان هذا المعنى هو الذي يرمي إليه العروي، هل نسي أو تناسى العروي أن تيفناغ حرف قديم ومعروف وكتبت به الأمازيغية قبل اليوم وقبل الأمس أيضا بل قبل قرون، وأستعمل هنا كلمتي "اليوم والأمس" بنفس المعنى الذي أعطاه لها العروي في العبارة سالفة الذكر، والدليل على ذلك هي الآثار الموجودة لهذا الحرف في أماكن معروفة في جنوب المغرب والجزائر وأماكن أخرى في شمال أفريقيا. والدراسات الأركيولوجية، على قلتها، ستضع العروي في وضع محرج، لأنه لم يلتزم الموضوعية أثناء إصداره لهذا الحكم، وهو حكم قيمة لا يستند على تحليل علمي. ثم هل يمكن فصل لغة عن حرفها، ولاستعمال المقايسة كما يفعل العروي دائما، هل يمكن فصل اللغة العربية عن حرفها، وأظن أن العروي لن يتردد في الجواب ب "لا". ما يفيد أن العروي خاطئ. وإذا كان هذا التفسير خاطئا، تمنيت ذلك، لتبرئة ساحة العروي. لكن حديثه عن النوازع في الفقرة 4 والمعنونة "نوازع النفس" (صفحات 07 و08 و09 من الكتاب)، جعلني أفترض، دون التمني هذه المرة، أن ذلك التفسير صائب وإن كان يحتمل الخطأ، ما يحتمل تفسيرا ثانيا فيه إدانة للعروي أيضا. - هل يعني العروي، ضمن هذا التفسير، أن الأمازيغية لم تكن لغة قبل اليوم، ما يعني، حسب هذا المعنى، أن ما كان يكتب قبل اليوم بحرف تيفناغ ليس لغة، وفي هذا حكم مسبق على الأمازيغية. وإذا كان هذا المعنى هو المقصود من كلام العروي، لماذا لم يتردد الكاتب في اعتبار الدارجة لغة محكية، أليست الأمازيغية لغة محكية ومكتوبة أيضا. ولاستيعاب موقف العروي هذا، لابد من استحضار ما قاله عن التربية الأولية وتأثيرها الحاسم، حسب العروي، في معاداة أو موالاة مسألة الأمازيغية، ما يعني إمكانية التفكير مع العروي ضد العروي. - أما الفكرة الثالثة، فهي أن اللغة الأمازيغية لم تكن موجودة وكذلك حرف تيفناغ، وكلمة "اليوم" في العبارة تفيد أن: اللغة الأمازيغية لم تكن موجودة قبل اليوم وحرف تيفناغ لم يكن موجودا قبل اليوم كذلك. لكن هذا المعنى فيه اعتراف من قبل العروي بوجود لغة أمازيغية اليوم، وهو اعتراف غير مقصود. - الملاحظة الثانية: كل محاولة جادة أو غير ذلك للكتابة عن الأمازيغية من قبل العروي ستكون قاصرة وفاشلة، ليس فقط لأن النظرة إلى الأمازيغية بعيون العروي مضببة بسبب جهله التام باللغة الأمازيغية وتجاهله لكل ما كتب ويكتب وسيكتب عن الأمازيغية باللغات الأجنبية بما فيها العربية، بل لأنه يضع نظارات عربية لا تصلح لرؤية الأمازيغية رؤية علمية موضوعية تتسم بالحياد القيمي La neutralité axiologique بالمعنى الذي أعطي له من قبل عالم الاجتماع الألماني Max WEBER. - الملاحظة الثالثة: إذا كان الأمر غير ذلك أو غير مفهوم، فإن التفسير موجود في الفقرة 26 المعنونة "الأمازيغية" والتي يقول فيها العروي ما يلي:"كاذب أو منافق من يدعي أنه يقف من مسألة الأمازيغية موقف المتفرج اللاهي أو الملاحظ المتجرد أو الباحث الموضوعي. كل منا، حسب وضعه الاجتماعي وتربيته الأولية، يوالي الدعوة أو يعاديها تلقائيا، ثم بعد حين، بعد التفكير والتروي، يميل إلى الاعتدال والنقاش الهادئ" (ص. 53). بناء على هذه الفقرة، يمكن القول بأن معاداة الأمازيغية من قبل العروي مفهومة الآن، وسيكون العروي كاذبا أو منافقا، أو هما معا من يدري، لو قال عكس ذلك. فالعروي لم يقف من مسألة الأمازيغية موقف المتفرج اللاهي أو الملاحظ المتجرد أو الباحث الموضوعي، لأن وضعه الاجتماعي وتربيته الأولية جعلته يعادي الأمازيغية تلقائيا. لكن إشكالا آخر يطرح هنا، وهو مرتبط بكون معاداة الأمازيغية من قبل العروي لا ترتبط فقط بوضعه الاجتماعي وتربيته الأولية كما يدعي، بل تتجاوزه إلى كتاباته الغزيرة والتي أفترض، أنها غير مرتبطة بوضعه الاجتماعي وتربيته الأولية إلا في اختيار مواضيع اشتغاله. وإذا رفض هذا التفسير، فما جوابه عن سؤال: لماذا لم يستطع التخلص من تربيته الأولية أثناء الكتابة وهو الباحث والمفكر والمنظر والأستاذ ؟ أم أن ما وضعه مرتبط بالحال لا بالعمل، بالحيثية لا بالإنجاز، كما تناول ذلك في الفقرة 21 المعنونة "الرزق" (ص. 41). بهذه الطريقة، ودون الجواب عن السؤال الذي طرحته لأن ذلك مستحيل، يتبين أن معاداة الأمازيغية من قبل العروي لم تكن مرتبطة فقط بتربيته الأولى بل تتعلق أيضا بالذهنية العربية المتحكمة في كل كتابات العروي، وموقفه من الأمازيغية سياسي والدليل اعتباره للمسألة الأمازيغية مسألة سياسية في الفقرة 26 سالفة الذكر. وموقفه السياسي ابتعاد عن الموقف العلمي. - الملاحظة الرابعة: وأنا أناقش موقف العروي من مسألة الأمازيغية، تذكرت ما قاله إيمانويل كانط عن الواجب الأخلاقي، ما دفعني إلى طرح سؤال مدى استمرار العروي في معاداة الأمازيغية كمنطلق في التحليل، وهل مال إلى الاعتدال والنقاش الهادئ رغم أن الملاحظات السالفة الذكر كافية للقول بأن العروي عاد في هذا الكتاب إلى عادته القديمة (معاداة الأمازيغية ومعاداة الأمازيغية فيها معاداة لإمازيغن). وسيكون العروي منافقا أو كاذبا لو قال أنه يقف الآن من مسألة الأمازيغية موقف المتفرج اللاهي أو الملاحظ المتجرد أو الباحث الموضوعي، ولو أنني أعتقد أن المتفرج اللاهي فيه نوع من المعاداة الخفية. - الملاحظة الخامسة: أعود إلى عبارة، "كل منا، حسب وضعه الاجتماعي وتربيته الأولية، يوالي الدعوة أو يعاديها تلقائيا، ثم بعد حين، بعد التفكير والتروي، يميل إلى الاعتدال والنقاش الهادئ" لأبين أن عبارة "كل منا" فيها تذويب مقصود للإختلاف الموجود بين من يوالي الدعوة ومن يعاديها، أي بين إمازيغن وغيرهم، وهذا حكم نظري أعمى لا يستند على معطيات الواقع. وإذا كانت موالاة إمازيغن للأمازيغية معقولة ومبررة لأنها مسألة كرامة ولغة وثقافة وأرض وبدون علامات استفهام التي وضعها العروي في كتابه وبدون استلهام لتجارب تاريخية لمجتمعات أخرى كما يلمح إلى ذلك العروي في الفقرة رقم 26 المعنونة الأمازيغية (الصفحة 53 من الكتاب). فإن ما يثير الاستغراب التلقائي هو معاداة الأمازيغية من قبل العروي، لكن بعد حين، بعد الإطلاع على كتاباته وقراءتها بهدوء وتأني، يتضح أن العروي وكل من يعادي الأمازيغية يفعل ذلك لأنه يوالي دعوة أخرى، وهي الدعوة العربية والقومية العربية في الغالب، يجعل الأمور مفهومة. ويدفع إلى استنتاج مهم يمكن تلخيصه في أن معاداة الأمازيغية رهان كل من يوالي العربية. - الملاحظة السادسة: عندما أثار العروي الميل بعد حين إلى الاعتدال والنقاش الهادئ، عممه على من يوالي الدعوة ومن يعاديها. فهل موالاة الدعوة، في نظر العروي، مغالاة ؟. إذا كان الأمر كذلك فإن موالاة العروي للقومية العربية في المغرب مغالاة أيضا. ومغالاته لا تستند إلا على مبررات ايديولوجية محضة، ولا يمكن قياسها بموالاة إمازيغن لقضيتهم لأنها مسألة كرامة ولغة وثقافة وأرض وغيرها. - الملاحظة السابعة: تتعلق بما قاله العروي عن اللغة في الفقرة رقم 28 المعنونة "لغة التواصل". يقول العروي:" اللغة عملة. بعضها محدود وبعضها واسع الرواج. من يتكلم الأمازيغية فقط كمن يملك نقود سوس. من يتكلم العربية المغربية كمن يملك دراهم حسنية. من يتكلم الفرنسية أو الاسبانية كمن يملك الفرنك أو البسيطة (قبل وجود اليورو). واضح ماذا يستطيع أن يقتني كل واحد من هؤلاء"(ص. 58). تعبر هذه الفقرة عن الموقف القديم من الأمازيغية، أي المعاداة. إن اعتبار اللغة عملة، قابل للنقاش لأنه يحمل مغالطات كبيرة ومفارقة لواقع المغاربة إمازيغن كانوا أو غيرهم، ونقود سوس كما وصفها العروي رائجة في كل مدن المغرب ولغتهم هي العملة الأكثر استعمالا في التواصل في أغلب دكاكين الدارالبيضاء وفاس ومراكش وغيرها من مدن المغرب الكبيرة واللغة الأمازيغية لغة التخاطب لدى أغلب المغاربة. ما يعني أن من يتكلم الأمازيغية فقط سيقتني أكثر من الذي يتكلم العربية. إن ربط العروي للتكلم بالأمازيغية ونقود سوس، فيه مغالطة واضحة تتجلى في أن الأمازيغية لا تختزل في سوس فقط، إن من يتكلم الأمازيغية يستطيع التواصل في كل المغرب، عكس من لا يتكلمها والذي لن تنفعه دراهمه الحسنية في التواصل. إن الترتيب الذي وضعه العروي لهذه اللغات العملات، يكشف عن تلك النظرة التبخيسية للأمازيغية، بحيث يضع في أدنى مرتبة اللغة الأمازيغية، لكن الإحصائيات الحقيقية وغير الرسمية تكشف أن من يتكلم اللغة الأمازيغية قادر على اقتناء كل ما يريد. كما أن توصيف نقود سوس أثناء تعريف اللغة الأمازيغية غير ملائم للاستعمال في تحليل علمي يعتمد الحياد القيمي، فكل العملات التي ذكرها العروي معروفة أما نقود سوس فمجهولة وغير موجودة أصلا، ما يعني أن تعريف العروي للغة موجودة (اللغة الأمازيغية) بعملة غير موجودة (نقود سوس) خاطئ. وفي هذا معاداة للأمازيغية ورفض لها. والنقاش الهادئ والميل إلى الاعتدال الذي تحدث عنه العروي تبخر مع هذه الفقرة. إن اعتماد هذا التعريف الإجرائي ينم عن الذهنية العربية المتحكمة، ولو كان العروي من الذين يتكلمون الأمازيغية لما وصف الأمازيغية بنقود سوس، ولا أفهم كيف أن العروي حدد كل العملات، من درهم وفرنك وبسيطة ويورو لكن الأمازيغية في نظره لا ترتقي إلى مستوى العملات فهي مجرد نقود سوس، دون ذكر لعملة ما. يظهر أن العروي نسي صفات دنيئة أخرى عندما أشار إلى النفاق والكذب. - الملاحظة الأخيرة: يقول العروي ومعه الإحصائيات الرسمية" تقول الإحصائيات إن 27 في المائة من المغاربة يتكلمون الأمازيغية. قد يشك من يهمه الأمر في دقة هذا الرقم" (ص. 53). ولأن العروي كتب هذا الكتاب دون مراجع وهوامش، معتقدا أنه وصل درجة من العلم تعفيه من هذه الأعمال الروتينية والمملة، فإنه أورد هذا الرقم دون الإشارة إلى مصدره، وهل هي إحصائيات رسمية، وهذا ما فهمته، أو توقعات عربية مستقبلية، تزف للعرب نهاية إمازيغن القريبة، وتحمسهم لبدل الجهد للقضاء على "كل من يستعمل نقود سوس عملة". هل اتفق يوما أن من يعادي دعوة ما سينصفها. شيطان مارد من يدعي أن الإحصائيات الرسمية في المغرب تكون محايدة وموضوعية، لأن الدولة، وفي مسألة الأمازيغية بالذات، تقف موقف المعادي مع العروي وغيره من القوميين العرب. كما أن عبارة "قد يشك من يهمه الأمر في دقة هذا الرقم"(ص. 53)، فيها دفاع واضح من قبل العروي عن هذا الرقم مجهول المصدر، وفيه شك غير معلن من قبل العروي، وبدل مناقشة دقة هذا الرقم وهو الباحث "الموضوعي" والمؤرخ "اللامع" فضل الدفاع قبل الهجوم. أما من يهمهم (بالجمع) الأمر، فلست منهم أيها العروي، وإمازيغن لا ينتظرون موالاة من أحد. ختاما، إن كل ما ينتج عن إمازيغن من قبل غيرهم، ومن قبل القوميين العرب تحديدا، يخضع لميكانيزمات اشتغال الحقل السياسي في البلاد، في تضامن غريب بين رجل الفكر ورجل السياسة والسلطة، بحيث يُسَخِّرُ الأول عقله لخدمة الثاني. مقابل تزويد الثاني للأول بإحصائيات غريبة. *باحث في علم السياسة [email protected]