كتاب عبد الله العروي « من ديوان السياسة »، هو كتاب في السياسة كما هو واضح من العنوان عكس الكتاب السابق « السنة والإصلاح » الذي انتقد فيه بشدة المنظور السلفي للثقافة و الاجتماع والسياسة. كتاب « من ديوان السياسة » يتطرق إلى مواضيع هي أقرب إلى السياسة العملية. فهو يتكلم في الحكم و الدستور و البرلمان و الديمقراطية المحلّية و العزوف الإنتخابي و التأهيل السياسي و القصور البرلماني إلى غير ذلك مما يأتي على ذكره قصداً أو عرضاً. أسلوب الكاتب كما عوَّدنا عليه مركَّز مقتضب جدّاً و مقطَّع، ممَّا يجعل القراءة المتأنية و إعادة القراءة ضروريتين، لكن قضايا الكتاب و طروحاته لا تخفى أهمِّيتها و تستحق البسط و المناقشة في المنتديات و المحافل. وقبل أن أقدِّم قراءةً في الكتاب لي بعض الملاحظات اللغوية على الاستاذ العروي. في هذا الكتاب كما في سابقه يستعمل الكاتب مصطلحات من قبيل «الأمية» في هذا الكتاب و «السنة» في سابقه، فيها إخراج للأسماء عن معانيها المعجمية. فالأمي هو من يجهل القراءة و الكتابة و ليس الأمي جاهلاً بالضرورة أو مكتفياً بما علَّمته أمه، وقد يكون ما علمته أمه عظيماً. الأمي قد يكون فنانا و قد يكون شاعرا و قد يكون له من الذكاء الفطري و الاهتمام بأهم القضايا ما يجعله جهبذاً في مجاله أو مجاهدا أو مجددا أو مبدعا... ثم إن المسائل الفكرية والسياسية التي يتطرق إليها العروي هي مسائل مطروحة على المثقفين المعتبرين و ليس على الأميين، والاختلاف بين هؤلاء شديد وعميق. ثم إن استعمال العروي لمصطلح « أمي » بطريقة قدحية فيه تحقير لشرائح واسعة من شعبنا كان لها دور حاسم في التكوّن السياسي للمغرب الحديث، و لم ينقصها وعي ولا تضحيات. تعني الأمية عند العروي اعدام المعرفة و غياب الوعي السياسي. الأمية بهذا المعنى هي التي يعاني منها عدد غير قليل من المتكلمين و من المتصدرين للشأن السياسي. ثم إن معنى هذا المصطلح يتعدد و يتنوع خلال الكتاب، كما سنرى ذلك. ولا بأس في هذا الصدد أن أذكر مصطلح «السنة » الوارد في كتاب « السنة و الاصلاح » للكاتب نفسه. الكلمة لم تستعمل بمدلول واحد خلال الكتاب، فتارة يستعملها بمعنى التقليد و تارة يستعملها بمعنى السنة النبوية و تارة تستعمل بمعنى الدين كله و تارة أخرى يستعملها بمعنى التقاليد الاجتماعية التي كان عليها المغرب إلى عهد الحماية. و في هذا الاستعمال المتعدد و تحميل الكلمات معاني متنافرة، فيه تضليل للقارئ و إفساد للمعنى. كلمة أخيرة عن أسلوب العروي قبل أن أشرع في عرض أقواله و مناقشتها. أسلوبه تقريري وثوقي. و الأوصاف و النعوت التي يطلقها تشتم فيها الاساءة إلى الإنسان المغربي و ثقافته، و تشي بشيء من الإعجاب بالنفس. أما الكتاب فمكون من سبعين مقطعاً، الأربعون الأولى منها تمهيدية. أطروحات العروي مركزة في العشرين مقطعاً الأخيرة. لذلك سنركز على هذه المقاطع العشرين الأخيرة عرضا لبعض ما جاء فيها ومناقشة. في المقطع 50 المعنون ب « الدولة الإسلامية، دولة الخلافة ». وهي نظام الدولة كما وصفه الماوردي إلى حدود العهد العباسي الثاني. ونظام الدولة في هذه العهود غيرمدروس. ولعل النظم السياسية يقول العروي في العهود الإسلامية الأولى منقولة أو مقتبسة من النظامين اليوناني و الفارسي وأطلقت عليها تسميات إسلامية، و ليس لها من الإسلام إلا الإسم. كان همُّ الفقهاء هو أن يضفوا عليها الصبغة الشرعية، حسب العروي. مناقشة. وكأن العروي يستكثر على العرب أن تكون لهم دولة ابتكروا نظمها و عالجوا قضاياها و استمرت دولتهم و ثقافتهم رغم ما اعتراها إلى اليوم. الدولة الإسلامية لم تنقطع كما انقطع حكم يونان. والدولة لم تكن إسلامية لأن نظمها مستنبطة من الكتاب و السنة و لكن معظم من حكمتهم عرب مسلمون. و الدين لم يات بنظام سياسي محدد و إنما بمبادئ عامَّة يجب أن تراعى في السياسة كالعدل و الشورى و الحريات و الحقوق...و الخلفاء الراشدون و الأمويون و العباسيون كما المماليك و العثمانيون مصروا الأمصار و حكموا البلاد على شساعتها وحكموا البلاد المفتوحة على تعدد أعراقها و ثقافاتها. أوكان ذلك كله بغير نظام وبغير معرفة و تبصر في السياسة ؟! أواحتاجوا في ذلك إلى تقليد ثقافي اليونان و الفرس المغلوبتين ؟! قراءة غير مسطحة للتراجم و السير و التواريخ تنبئنا بعظيم سياسات الحكام و الأمراء و الولاة العرب وعبقريتهم السياسية. نعم، قراءة تاريخنا بمنظور الثقافة و الفكر الإستعماريين تعطينا أحكاماً كالتي يطلقها العروي.