لكل موازينه.. ولا تَزِرُ وازِرة وِزْرَ أخرى ! فعلى بعد آلاف الأميال من فلسطينالمحتلة وشعبها المحاصر المظلوم، هناك في أوروبا وبلاد الأناضول الشامخة، كانت زمرة من شرفاء العالم وأحراره تتابع بيقظة إنسانية عالية وضع المحتجزين الضعفاء في محتشدات غزة المنهكة.. وصلوا ليلهم بنهارهم يفكرون في سبيل للوصول إلى من تخلى عنهم العالم ببعض المساعدات وكثير من الأمل والإرادة الصلبة لفضح جريمة الحصار وجريمة الصمت على الحصار! أجل.. فعندما كان سفهاؤنا ينصبون المنصات الضخمة، ويحضّرون خراطيم إعلامهم العمومي/المخوصص لإشاعة لهوهم على أوسع نطاق، وبذل المال العام في استقبال وإكرام صناع النسيان ومروّجي الانحطاط المشاعري والغيبوبة عن أحزان المستضعفين في الأرض.. كان مهندسو الإنسانية النبيلة من كل القارات والديانات والمرجعيات يضعون اللمسات الأخيرة لتحريك أسطول الحرية والشهادة.. ومعه تحريك الضمير العالمي المتكاسل أو المتخاذل أو الراقص في غفلة بليدة عن جرائم الإبادة الصهيونية المخزية.. هنا كان الإنسان يستباح، وهو يتمايل تحت زخات كواتم صوت العقل والروح المنبعثة من زعيق شاحب يشحن فضاء "الاحتفال" بكل المعاني التي تعمق الانتماء للذات المتناهية في الصغر، واللهاث وراء لحظة انتشاء عابرة.. أما هناك.. وما أدراك ما هناك!.. فكان الأفق الإنساني أرحب من أن تحيط به امتدادات البحر المظلمة، أو تكسره قوة خراطيم الإعلام الصهيوني المعولم وفوهات الرشاشات الموجهة نحو الإرادات والأجساد.. هنا قسمت المغانم وطويت منصات اللهو، وصارت كما كل سنة، تدخل تاريخ العبث والنسيان مع شيء من الذكريات الموشومة بجثامين الضحايا المدهوسين تحت الأقدام أو المتساقطين في الحفر.. أو بجثامين الأرواح والإرادات المنهكة في دروب الشهوات والأنانيات الصغيرة.. أما هناك، فانفتح سِفْر المجد ليدوّن بالفخر الكامل ملحمة أبطال تصدوا بصدورهم العارية للآلة الهمجية الصهيونية الجبانة، وهم يقاتلون سِلْماً من أجل أن يصل حليب للأطفال ودواء للمرضى، وبيت من خشب أو بلاستيك للمشردين تحت الأنقاض.. هنا، حيث يتصاغر المغرب الرسمي في ساحات النزال الإنساني العالمي، لم يغنِّ "إلتون جون"، ولا كل من انتفش طاووسا، أو تصبب عرقا، أو حرّك مؤخرته/ها أو وصلات شعره/ها المعطرة بآخر صيحات العطر الذي يكفي ثمن قارورة منه لإطعام عائلة غزّية شهورا كاملة.. هنا لم يغنِّ أحد على منصات الموازين المعطوبة عن آلام المحرومين والحزانى والثكالى واليتامى في فلسطين.. لم يغن أحد عن مشاهد الرعب الذي يصنعه الحصار الصهيوني، والصمت الجماعي المتماهي مع أهدافه الحقيرة! هنا كان الفن يمارس لعبة الحصار، وكان الحصار فنا يُمارَس بنعومة قاتلة..! أما هناك، وما أدراك ما هناك!، فقد هزت دماء شرفاء الحرية ضمير العالم وغنى أحرارها بين مشاهد الرصاص والشهادة والاعتقال وسلب ونهب الممتلكات والإهانات الصهيونية المتصلة.. غنوا جميعا سيمفونية الإخاء الإنساني العالمي، وانداحت موسيقاهم عبر الأثير محمولة من ثنايا الألم العابر لحنا مجيدا تداعى له العالم إصغاء، وباحترام كبير لهذه الإرادات التي نَصَبَتْ منصاتها على سطح البحر، ولم تجيّش إعلاما عموميا مرتزقا، ولم تأكل من مال الشعب درهما واحدا..! هنا سرى قانون النسيان بعد سويعات من السفه المعلن على رؤوس الأشهاد.. وهناك كان الخلود والمجد العالي وانقلاب الموازين..! هي حكمة الله إذن في خلقه.. وكل ميسر لما خلق له.. فأما من ثقلت موازينه، فهو في عيشة راضية..وأما من خفّت موازينه، فأمه هاوية....! فتأمل أيها القارئ اللبيب..! *نائب برلماني ومدير نشر جريدة المصباح