شأنه شأن التقارير الأممية السابقة، صدور التقرير ألأممي الأخير و بكل حيثياته لا يعني بالضرورة نهاية حاسمة للصراع حول الصحراء، وإنما فترة لالتقاط الأنفاس من اجل مواصلة السباق نحو كسب المزيد من الرهانات الجديدة. ومن ثم فحينما يتعلق الأمر بقضية الصحراء فغالبا ما ينظر إلى الهدوء الذي يسود مرحلة ما بعد صدور قرارات مجلس الأمن، بالهدوء النسبي الذي يسبق العاصفة، كل الإشارات تدل على أن الجولة الموالية بقدر ما ستكون مختلفة، لن تكون هينة بحكم طبيعة الخيارات والإكراهات التي تتحكم في توجهات المرحلة القادمة . انتهت الجولة السابقة كغيرها من الجولات الأخرى ويمكن الجزم بأنها لم تأتي بجديد يذكر بقدر ما حافظت على التوازن المفترض و الذي كانت عليه القضية في ما سبق، وهو أمر تعتبره العديد من الأطراف ايجابيا على اعتبار انه قد لا يؤثر بشكل كبير، بل قد يخدم في جزء منه بعضا من الاستراتيجيات والأجندات السياسية لبعض من هذه الأطراف، سواء منها المرحلية آو المستقبلية. البوليساريو وان لم تحقق رغبتها في حث المجتمع الدولي على خلق آلية لمراقبة حقوق الإنسان في منطقة النزاع عبر توسيع صلاحيات بعثة الأممالمتحدة في الصحراء مينورسو، فإنها بالمقابل لم تخسر الكثير بحكم أن هذا الخيار قابل للتجدد ويدخل ضمن إستراتجية طويلة المدى أسست لها الجبهة مند نهاية التسعينات وما يليها من سنوات الألفية الجديدة, ولا يمكن الجزم بأن البوليساريو قد تأذت كثير بسبب إخفاقها في تحقيق هذا المنال بحكم أنها لازالت تؤمن بأن هناك فرصا لتحقيق رهانات قادمة ، غير أن قيادتها وبالتأكيد قد تضررت على مستوى التأييد الشعبي الذي تتلقاه من داخل مخيمات اللجوء وغيرها بسبب مغالاتها في التأكيد على انتزاع انتصارا ت محققة تتعلق بمسالة حقوق الإنسان في منطقة النزاع، وهو أمر أطاح بأسهم العديد من قيادييها، وخلق البلبلة في صفوفهم بسبب عدم قدرتهم على إيجاد مبررات مقنعة لإخفاقاتهم الأخيرة بخصوص محصلة التقرير الأممي وقرار مجلس الأمن. العديد من الأطراف المؤثرة في مسار النزاع يهمها أن لا يتجاوز الوضع سقف ما هو عليه في الوقت الراهن، لان أي نوع من التجاوز يمكن أن يريك حساباتها المرتبطة بأن يبقى الوضع على ما هو عليه مادامت قناة المفاوضات موجودة لتصريف الأزمة. فرنسا لا يخدمها في شيء أن يتضرر حليفها التقليدي المغرب، وحياد الولاياتالمتحدة يخدمها في أن تبقى على مسافة معقولة من الطرفين لكسب ودهما أو على الأقل تجنب عدائهما، خدمة لمصالحها المرتبطة بكل من الطرفين الأساسين في استراتيجياتها الإفريقية وهما المغرب والجزائر الداعمة لجبهة البوليساريو, التحضير لمفاوضات مباشرة والدخول فيها لن يكون بالأمر الهين، ومهما يكن فان مسار المفاوضات سيكون شاقا ومتعبا وربما غير مجدي بالنسبة لجل الأطراف بحكم تباعد الرؤى و القناعات، غير انه يظل بمثابة صمام الأمان للتحكم في الأوضاع وامتصاص التوتر وخلق التوازن بين مختلف التجاذبات المفتوحة على كل احتمالات تفجر الوضع في مناطق التأزم، ومن ثم فان الانتظار و بالضبط انتظار نتائج المفاوضات يظل خيارا لا يمكن لأطراف النزاع أن تراهن عليه إلى الأبد لكسب رهاناتها وربما هذا ما يدفعها للدخول في خيارات قد تكون أكثر قدرة على تغيير معادلة الصراع, المغرب من جهته راهن على ورقة الحكم الذاتي باعتباره مشروعا يؤسس لمفهوم السلام المأمول، والجبهة تراهن على الورقة الحقوقية لكسب المزيد من الضغط على المغرب ومحاولة إضعاف موقفه أمام الرأي العام الدولي لتغيير مواقفها من المغرب، غير أن هذه الرهانات تظل جلها مفتوحة على كل الاحتمالات بما فيها النجاح والتعثر, كل الأطراف أمامها رهنات صعبة في المرحلة القادمة، المغرب في ما مضى كان يراهن على مواقف الدول الصديقة لتأمين تحركاته، والجبهة تلعب على عامل الوقت وتأمل في تغير هذه المواقف لتغيير موازين القوى، غير أنه في اغلب الأحوال لا يمكن التعويل على عامل الزمن بالمطلق بالنسبة لكلا الطرفين . تواتر الزمن بالنسبة للبوليساريو يعري من نقاط ضعفها ويعمق عوامل اليأس داخل صفوفها خصوصا بعد الانقسامات التي بدأت تطال كوادرها والنزيف البشري من داخل المخيمات قي اتجاه ما وراء الحدود. الحرب أيضا خيار متجاوز وغير واقعي في الوقت الراهن بسبب طبيعة المرحلة والتوجه الدولي الراهن نحو مساعي السلام ورفضه لخيار السلاح، ورقة العودة إلى الحرب تظل مجرد تكتيك ظرفي بالنسبة للجبهة غير أن التلويح بها في كل مرة سيشكل مع التوالي إحراجا لها أمام الرأي العام الدولي وتأكيدا لرفضها مواصلة التمسك بالخيارات السلمية. عامل الزمن قد لا يخدم مصلحة المغرب أيضا في مراحل لاحقة، على اعتبار انه لا يمكن الاعتماد على مواقف الدول الحليفة كخيار استراتيجي وثابت، وربما هذا هو ما يدفعه للجوء إلى خيارات أكثر جرأة مرتبطة في جوهرها بالمكون البشري الصحراوي. البوليساريو لم تكن أيضا وأبدا بمنأى عن هذا النوع من الخيارات على اعتبار أنها استهدفت في كل استراتيجياتها السابقة - وربما اللاحقة - العنصر البشري بالدرجة الأولى، لقناعتها بأهميته وقدرته على تغيير موازين القوى لفائدة طرف دون الآخر، وذلك من خلال الدفع بمناصريها من الحقوقيين في محاولة استقطاب ما يمكن استقطابه من الأصوات لتحريك ما تراه الجبهة جمودا لا يخدم مصلحتها في شيء. البوليساريو من خلال هذا الفعل تحاول كسب المزيد من التأييد العلني لتعزيز شرعيتها أمام الرأي العام الدولي والمحلي خصوصا أن حدود هذا التأييد في منطقة النزاع لم يعد يتجاوز دائرة الموالين لها من الحقوقيين وهو أمر يقلق الجبهة على اعتبار أنه يقوي الشكوك حول تراجع قدرتها و دورها في المعادلة السياسية. ما هو محتمل إذن هو أن الجبهة لن تتجاوز سقف المراهنة على الورقة الحقوقية ولن تضطر لابتكار بدائل جديدة بعيدا عن المنظور الحقوقي وهو أمر مفهوم على اعتبار أنها الورقة الأكثر إحراجا للمغرب في جل الأوقات. المغرب من هذا المنطلق أمامه خيارات صعبة لمواجهة أي أزمة مستقبلية محتملة، و من هنا يتضح سبب رهانه على الحكم الذاتي واعتباره بمثابة صمام الأمان لمواجهة أي معضلة قي هذا الإطار. من هنا إذن يبدوا أن المغرب قادم لا محالة على تنفيذ خيار الحكم الذاتي وان بشكل منفرد ومتأني. الحكم الذاتي خيار مطروح على طاولة المفاوضات بين المغرب و جبهة البوليساريو، والمغرب يدفع به كأرضية للتفاوض لا يمكن أن تتجاوز مبدأ السيادة وهو أمر يتعارض مع توجهات البوليساريو التي ترفض أي خيار لا يفضي إلى تقرير المصير. إقدام المغرب على أجرأة و تفعيل آليات المشروع وان من جانب واحد نابع من قناعته بكونه الخيار الأكثر أمانا في الوقت الراهن والأكثر قدرة على استقطاب من يستهدفهم من الصحراويين، بالإضافة إلى أهميته في كسب المزيد من المواقف الدولية التي يرتبط تأييدها بمدى نجاعة المشروع ونجاحه. الحكم الذاتي المغربي مشروع يستهدف المكون البشري الصحراوي بالدرجة الأولى، ومن ثم فانه سيحاول العمل على ملامسة مشاكل وتطلعات كل التشكيلات البشرية التي يسعى إلى ضم أصواتها وهو أمر ليس باليسير بحكم تعارض التوجهات والرؤى بين مختلق الفئات الصحراوية، ومن ثمة فان هذا الخيار لا يحتمل أي نوع من المجازفة أو الخطأ لأنه خيار من الوزن الثقيل وقادر على قلب معادلة الصراع في اتجاه طرف دون الأخر في حالة ما إذا أحسن أو أسيء استعماله...! * باحث بمركز دراسات الدكتوراه: "الإنسان والمجال في العالم المتوسطي" · بجامعة محمد الخامس ، الرباط * عضو مركز التفكير الاستراتيجي والدفاع عن الديمقراطية