سبق لمفتي مصر الشيخ علي جمعة أن صرّح بأنهم يصدرون في اليوم الواحد ثلاثة آلاف فتوى (كذا!) ولا يستجيبون رغم ذلك ل"الطلب" الموجود في المجتمع، ولأنه ليس هناك علم في العالم المتقدم ينتج هذا القدر من الكلام في اليوم الواحد، و لأن من المؤكد أن مصر ليست بلدا متقدما بل هي غارقة في التخلف و "ظلمات الجهل"، فمن المؤكد إذن أنّ "علم" المفتي وسعار الفتوى الذي ما فتئ يزداد، لا يمكن أن يكون إلا من مظاهر التخلف الفاضحة، و من علامات الأزمة الحضارية الخانقة، التي حولت الناس في بلدان المسلمين إلى مرضى بلغت بهم البارانويا و انسداد الآفاق حدّ الإلقاء بأنفسهم بين أحضان الفقهاء والعرافين وكل صانعي الأحلام بالكلام. وفي المغرب الذي كان من سوء حظه أن ربطه تاريخه العاثر بالشرق، يزداد الإقبال أيضا على فتاوى الفقهاء بشكل مثير للإستغراب، ليس فقط لأن المطالبين بالفتوى يطرحون أسئلة غاية في التفاهة أحيانا، و تدلّ على مدى صغر عقول بعض المواطنين و سطحية تفكيرهم، بل لأن السائل و طالب الفتوى في الغالب نجده غير مستعدّ لتطبيق الفتوى أصلا، عندما يكون في ذلك تضحية بمكاسب الحياة العصرية التي لم يعد يرغب في التخلي عنها، مما يجعلنا نطرح السؤال عن أسباب طلب الفتوى إن لم يكن السائل المؤمن يهدف إلى العمل بها، خاصة و أن الكثير من الفتاوى تخلق مشاكل أخرى ذات صبغة قانونية أو اجتماعية، و تلقي بالمرء في طوفان من المشاكل مع الآخرين و مع المؤسسات، و تعرقل اندماج الفرد في محيطه الأسري و الإجتماعي و تحدّ من إنتاجيته بشكل كبير. من جانب آخر مما يثير الإستغراب أن الكثير من طالبي الفتوى لا يحترمون أبسط قوانين الدولة التي تنظم العلاقة بينهم و بين غيرهم، فهذا لا يقبل الوقوف في الضوء الأحمر، و ذاك يتملص من أداء الضرائب، و الآخر لا يتحمل الوقوف في الصفّ احتراما لمن سبقوه و انتظار دوره لقضاء مصالحه، و هذا يعطي رشوة بدون تردد لتزويج فتاة قاصر، و هذا يأكل مال اليتيم بدون أن يرفّ له جفن، و الآخر لا يعرف معنى للضمير المهني فيبتكر مختلف الأساليب الثعلبية الدينية منها و الدنيوية من أجل الهروب من العمل و الإخلال بالواجب، باختصار حياتنا مشاهد سريالية من التسيب و الفوضى و خرق القانون و انتهاك حقوق الغير، و عوض أن نتحلّى بالسلوك المدني و ننضبط للقانون و نحترم بعضنا البعض و نضع المصلحة العامة فوق كل اعتبار، لنحلّ بذلك مشاكلنا الحقيقية أيّا كان ديننا و مذهبنا أو أصلنا و فصلنا ، فإننا نقع فريسة الأنانية التي تجعلنا نقترف مختلف الإنتهاكات، ثم نبحث بعد ذلك عن فتوى الفقيه في توافه الأمور طلبا للجنة، حتى نكون في سلام مع الله في السماء، بعد أن نكون قد خرّبنا كلّ إمكانية للعيش بسلام مع الآخرين على الأرض. هكذا تخفي حمى الفتوى واقعا منحرفا تنعدم فيه القيم الإنسانية للعيش الكريم في مجتمع ما زال يبحث عن نفسه وسط طوفان من التحولات العارمة التي تهزّ العالم. طبعا لا نجد فقيها يتعفف عن الفتوى، أو يقول في بعض الأمور كما قال النبي محمد "أنتم أعرف بشؤون دنياكم"، أو يعتذر عندما يسأل عن أمر لا يختلف طفلان في كيفية تدبيره، بل يسعده أن يلجأ الناس إليه و هو الذي أقصي منذ قرن كامل من بلاط الحكام، و شاهد بأمّ عينه كيف أصبح تسيير شؤون الدولة مرتبطا بشواهد و دبلومات لا تتعلق بتاتا بعلوم الفقه و التفسير و رواية الحديث، ولهذا يجد في الفتاوى بما فيها الخرقاء منها و التي تعرضه للسخرية سلطة معنوية تشعره بأهميته، حتى و إن علم بأن لعبة طلب الفتوى و الإفتاء كلها لا تغني شيئا عن القانون و عن قيم الحياة العصرية و مستلزماتها. ويخبرنا العديد من الكتاب المشارقة الذين بلغت حمى الفتوى في بلدانهم ذروتها، حتى صارت تصدر عنها من المهازل اليومية ما يضحك حدّ البكاء، يخبروننا في كتاباتهم النقدية بأنّ لعبة الإفتاء قد تحولت إلى سوق تجارية ضخمة وقودها البترول، يجني منها الفقهاء و شركات الإنتاج و القنوات التلفزية أرباحا طائلة، و هذا وجه آخر للظاهرة شبيه بموضوع "الحلال" الذي حولته الشركات التجارية في الغرب الرأسمالي إلى ماركة مسجلة في سوق الماركوتينغ. قطعا لم يعد للأمر علاقة بالدين، بل أصبح ثمة احتفال بكل شيء ما عدا العقيدة. ولأن حمّى الفتوى هذه انتشرت أكثر في بلدان الشرق القريبة من موطن الداء العضال، موطن الوهابية البدوية، فإن بعض الذين أصابتهم لوثة من هذا الداء بالمغرب، و الذين تظل عيونهم عالقة طوال اليوم بقنوات تلك البلدان، قد اضطرّوا مرّة إلى استجلاب أحد فقهاء المشرق إلى مدينة مكناس لسدّ الفراغ و تدارك النقص الحاصل في مجال "الفتاوى الحمقاء" بالمغرب، و هو الفقيه الذي بايعوه فيما بعد "إماما للأمة" و عالمها الفهامة الذي اكتمل عنده العلم، فسألوه في البنوك و "الفوائد الربوية" و كأن المغاربة حديثو عهد بهذه المؤسسات، و كان المغرب بلد من جزيرة العرب، و كانه لا يفصلنافأفتى بأن جعلهم غرباء في وطنهم، و جعل وطنهم غريبا عنهم، و خلق عالما سرياليا لا علاقة له بهموم الناس و لا بواقعهم و لا بمصالحم، و اضطرّ ذلك التعتيم علماء المغرب إلى الدخول على الخطّ بإيعاز من وزير الأوقاف و من السلطات المخزنية حارسة الإيمان و حامية العقيدة الرسمية، فأصدروا بيانا يقولون فيه للفقيه المستورد ما مضمونه:"ماشي شغلك"، ليستمر العبث بالدين في المجال العام من الطرفين. لم تحلّ مأسسة الفتوى بالمغرب مشاكل المغاربة مع هذه الظاهرة التي أصبحت مثل الوباء الذي ينتقل عبر الهواء، حيث أصبحنا أمام ظاهرة أخرى غريبة و جديدة هي ظاهرة الفتاوى العابرة للقارات، حيث يظل بعض المغاربة رجالا و نساء و حتى أطفالا أحيانا متخشّبين أمام قنوات عرب البترول الدينية، يستهلكون جرعات هائلة من الإيديولوجيات الدينية باسم الفتوى، و يسعون إلى العمل بها على أنها الحق، دون مراعاة لخصوصية المغرب الثقافية و التاريخية و الجغرافية (13 كلم عن أوروبا). و طبعا كان لنا أمل في التيار المعتدل من الإسلاميين الذين قدموا أنفسهم للمجتمع و للطبقة السياسية على أنهم "متنوّرون"، و قلنا: نعم، نحن في أمسّ الحاجة إلى إسلاميين يشيعون قيم الديمقراطية و التسامح انطلاقا من مرجعية دينية إسلامية، عبر جهود عقلية في التأويل و التفسير و الإجتهاد الخلاق الذي يتجاوز الحدود الضيقة للعقلية السلفية الجامدة، و للتراث الفقهي العتيق الذي أنتج في القرون الغابرة، إذ التغيير من داخل الوعي الإسلامي أسهل من التغيير من خارجه، غير أننا سرعان ما أصبنا بخيبة أمل عندما صار هؤلاء منظمين في حزب سياسي أصبح له طموح المرور إلى السلطة، ليس عبر الإقناع السياسي و تقديم البديل بل بتحطيم الخصوم، و لتحطيم الخصوم لا بدّ من استعمال الإشاعة و التشهير و كل وسائل الإيديولوجيا الدينية الشرسة، فوقعوا في شرك الغوغائية لإرضاء الأتباع المهيّجين الذين ينتظرون الأسلمة الكاملة للدولة و المجتمع من داخل المؤسسات، وعمدوا إلى المزايدة على التيارات الإسلامية المتطرفة فسعوا إلى لعب أدوار محاكم التفتيش و حراس التقليد بمطالبة السلطة بمنع جميع الأشياء التي لا تتفق مع نهجهم السياسي و إيديولوجياهم الدينية، فطالبوا بحظر أفلام سينمائية و أشعار و نصوص أدبية و مهرجانات موسيقية و بمنع الخمور و إغلاق محلاتها، و حرّضوا على مواطنين مثليين حتى رجمت الدهماء بيوتهم بالحجارة، واعترضوا على حقوق أساسية للنساء بحجة وجود "نصوص قطعية الدلالة"، و إشاعوا فتاوى لا عقلانية و غريبة عبر الصحافة الإسلامية، و صفقوا للسلطات وجهروا بمدحها كلما قامت بقمع الحريات الفردية أو بالإعتداء على مواطنين مغاربة اختاروا نهجا في الدين أو في الحياة غير ما يريده المتطرفون، و هي كلها إجراءات جعلت "اجتهاد" هؤلاء و "تنويرهم" مجرد سحابة صيف، إن فتاوى الإسلاميين و مطالبهم الموجهة للسلطة، لا يمكن أن تتحقق إلا في ظلّ الدولة الدينية الشمولية، التي لا ينطبق نموذجها على المغرب ولا على التوجهات المعلنة لدى قواه الحية بمن فيها القوى الإسلامية المعتدلة، أو التي تعتبر نفسها كذلك. كلّ هذا يرهص بفتن عظيمة لا يقي منها إلا الديمقراطية العلمانية التي هي الإطار الوحيد حاليا لتدبير الإختلاف بطرق حضارية في إطار مبادئ تحترم التعددية الدينية و الفكرية و السياسية و اللغوية و الثقافية، ما دام احترام الناس لبعضهم البعض لا يمكن أن يتمّ في إطار الإيديولوجيات الشمولية التي تسعى إلى تعليب الجميع في دين واحد أو نهج واحد أو رأي وفكر أوحد.