قبل أسابيع، نشرت "هسپريس" مقالا حول فتوى أصدرها مفتي المملكة السعودية تقضي بتحريم لعبة الشطرنج تحت ذريعة أنها تلهي الناس عن عبادة الله تعالى. "" ورغم أنني لا أتفق مطلقا مع مضمون الفتوى، لأن المؤمن الحقيقي لا يمكن أن تلهيه أي لعبة عن عبادة ربه، بما في ذلك لعبة الشطرنج التي حرمها الشيخ عبد العزيز بن عبد الله، إلا أن ما أثار انتباهي أكثر ليس هو ما جاء في الفتوى في حد ذاته، وإنما التعليقات التي كتبها قراء الموقع الذين قرؤوا المقال، والذين أيد كثير منهم مضمون الفتوى، وذهب البعض إلى حد تحذير كاتب المقال من نقد الفتاوى التي يصدرها العلماء، لأن لحم هؤلاء حسب تعليقات القراء مسموم! هنا يظهر واضحا أن هناك مشكلة كبيرة تعشش في عقول كثير من الناس اسمها "تقديس الشخصيات الدينية"، وهذه المشكلة تجعل أي واحد منا بمجرد أن يقف أمام أحد علماء الدين يلغي عقله بالمرة، ولا يجرؤ على طرح أي سؤال، أو الدخول مع العالم الديني في أي نقاش أو جدال. باش ما يخسرش ليه خاطرو! وكأن هؤلاء العلماء ينطقون كلاما منزلا من السماء، والحال أنهم ليسوا سوى بشرا يصيبون ويخطؤون، وعندما نضفي عليهم هذه الصبغة من القداسة فكأنما نضعهم في مرتبة الأنبياء والرسل من حيث لا ندري، ومن ثم نكون قد فتحنا لهم أسماعنا على مصراعيها كي يصبوا فيها ما يشاؤون من الفتاوى التي تخطر على بالهم، دون أن يغربلوها بشكل جيد حتى تكون منسجمة مع المنطق والعقل، لأنهم يدركون جيدا أن هالة القداسة التي يحظون بها من لدنّا تجعل عقولنا قابلة لاستقبال وتصديق كل الفتاوى التي يصدرونها حتى من دون أن تتعرض لأي غربلة. حيت الواحد مللي كاتحني ليه راسك كايحس براسو! ولعلكم تذكرون جيدا ذلك الداعية المصري الذي أصدر فتوى غريبة يجيز فيها للموظفات بإرضاع زملائهن في العمل. وتذكرون أيضا تلك الفتوى السخيفة التي أجاز فيها محمد المغراوي بتزويج بنت التسع سنوات. ترى ماذا كان سيحدث لو أن كل الذين انتقدوا هذين الشيخين وعارضوا بشدة مضمون ما أفتيا به لزموا الصمت تحت مبرر أن "لحم العلماء مسموم"؟ أكيد أن ذلك سيساهم في ظهور مزيد من "الفتاوى" الغريبة، ويفتح الباب لظهور مزيد من "شيوخ آخر ساعة". وهنا أتذكر فتوى أكثر غرابة سبق لمفتي السعودية الراحل عبد العزيز بن باز غفر الله له أن أقرّها، وتتعلق بتكفير كل من يعتقد بدوران الكرة الأرضية! ضاربا كل المجهودات التي قام بها علماء الفضاء في الصفر، رغم أنه لا يتوفر ولو على دليل واحد يثبت به صحة كلامه! لذلك لا يجدر بنا أن نقول على الدوام "سمعا وطاعة" لكل من يفتي في أمور الدين، وإنما الذي يتوجب علينا فعله هو أن نستفسرهم ونناقشهم ونطرح عليهم الأسئلة بدون أدنى تحفظ. فهذا هو السبيل الوحيد الذي يمكن أن يحدّ من مثل هذه الفتاوى الغريبة، ويجعل الدعاة والمشاييخ يفكرون ألف مرة ومرة قبل أن يفتوا في أي نازلة من النوازل. وأحسن قدوة يمكن أن نقتدي بها في هذا الصدد هي تلك السيدة الشجاعة التي وقفت في وجه الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وعارضته عندما أراد أن يخفض من قيمة المهور، مستدلة بآية كريمة من القرآن يقول فيها الله تعالى : "وإذا آتيتموهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا...". فقال عمر معترفا بصواب رأي تلك السيدة : "أخطأ عمر وأصابت امرأة". ولكن يظهر مع كل الأسف أن النساء في ذلك الزمن البعيد، ورغم سطوة الذكور، إلا أنهن كن أكثر وعيا منا نحن الذين نعيش في القرن الواحد والعشرين، ويكفي أن يحضر الإنسان في أحد الدروس التي تلقى في المساجد، ويرى كيف يصغي الناس وينصتون إلى الفقيه الذي يتحدث أمامهم لنصف ساعة كاملة أو أكثر دون أن يرفع أحدهم أصبعه للاستفسار حول نقطة ما، أو طرح سؤال، أو إبداء ملاحظة. بحال يلا كايبنجوهم قبل ما يدخلو للجامع! ما يعني أن عقولنا تحكّم فيها الخوف حتى تكلست وأصابها الشلل المزمن، والنتيجة هي أن هؤلاء الفقهاء سينظرون إلينا على الدوام على أننا مجرد قاصرين ما كايفهمو حتى وزة فالدين! وعودة إلى فتوى تحريم لعبة الشطرنج، يبقى أول سؤال يمكن أن نوجهه إلى الشيخ الذي حرمها هو : على أي أساس استند في تحريمه لهذه اللعبة؟ طبعا ليس هناك أي أساس ما عدا أن اللعبة في نظره تلهي الناس عن عبادة ربهم، والحال أن الذي يتقاعس عن العبادة ليس بالضرورة أن يكون مرتبطا بلعبة ما، فكثير من الناس، وأثناء رفع المؤذن لأذان الصلاة، يمكن أن تجدهم جالسين على رصيف المقهى. إيوا حرمو القهوة حتى هي. وإذا أخذنا الأمور بهذا المنطق سيأتي علينا يوم نحرم فيه كل شيء، بما في ذلك حتى النوم، لأنه بدوره بيلهي عن العبادة! وسيكون علينا أيضا أن نحرم كرة القدم، التي تتوفر المملكة السعودية على بطولة لها تجري أطوار مبارياتها على أرضية ملاعب المملكة الوهابية نهاية كل أسبوع. (نهاية الأسبوع عندهم هي عشية يوم الخميس ويوم الجمعة). أكثر من ذلك، سنكون مجبرين، إذا فهمنا الأمور على هذا النحو، على تحريم جمع الأموال أيضا، بل حتى إنجاب البنين والبنات، لأنهما من زينة الحياة الدنيا التي تلهي عن ذكر الله. ألم يقل ربنا في القرآن الكريم في أواخر سورة "المنافقون" : "يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله"؟ لكن الله تعالى لم يحرم علينا أن نملك الأموال، ولم يحرم علينا أن ننجب البنين، وإنما اكتفى بتحذيرنا من أن يلهونا عن ذكره سبحانه وتعالى. لذلك يبقى رأيي المتواضع في هذا الموضوع، هو أننا ملزمون باحترام علماء الدين، مع انتقادهم إذا اقتضت الضرورة، حيت حتى هوما بعض المرات كايزيدو فيه! [email protected]