مقدمة: لعل بواعث الترجمة عديدة وأهمها طلب العلم والحاجة إلى التواصل الثقافي الحضاري والسياسي، إذ لا يمكن أن تحيا أمة دون أن تتلاقح ثقافتها مع ثقافات أخرى تختلف معها في الرؤى والمعتقدات. وفي هذا السياق، يؤكد بن خلدون أن نهضة حركة الترجمة كانت نتيجة طبيعية لتلبية حاجة حضارية عربية إسلامية أو بتعبير جورج طرابيشي في كتابه "هرطقات عن الديمقراطية والعلمانية والحداثة والممانعة لعربية"1، "جاءت تعبيرا عن تطور حضاري جمعي" هدفه الانفتاح على الآخر. ولعل كتاب "لاري دايموند" (Larry Diamond)، الباحث الأمريكي المرموق في قضايا الديمقراطية، يأتي تعزيزا لهذا الطرح التواصلي الإنساني. 1 "لاري دايموند" شخصية تعزز التواصل السياسي: إن الديمقراطية مبتغى كل الشعوب الأمم، ولكن ذلك لا يتأتى إلا من خلال الكفاح الطويل والمستمر الذي لا يتطرق إليه كلل ولا ملل. ولا شك في أن الذي يحمل شعلة هذا الكفاح هم النخب والناشطون والتيارات والفعاليات السياسية، والثقافية، والاجتماعية لكونهم يمثلون القوة الضاغطة التي تستطيع الوقوف في وجه الأنظمة الشمولية التي تجهض أي محاولة في اتجاه تحقيق ديمقراطية واضحة وعادلة. ومرد ذلك إلى وجود قوة متسلطة ضاغطة تستفيد من الوضع الراكد وتتحكم في دواليب الحياة الاقتصادية والثقافية والسياسية وتدافع عن تثبيتها دون هوادة. من أجل هذا، ترى "لاري دايموند" يكافح من جانبه لأجل تثبيت دعائم مجتمعات حرة ومستقلة، تنعم بالديمقراطية. فهذا الكاتب السياسي والباحث الشهير يحاول أن يرسخ مبادئ التواصل السياسي من خلال بناء جسر يربط بين الشعوب والأنظمة العربية وبين فكر غربي متحرر منتفض يتوق دوما إلى العيش الكريم والعزة. ويركز بالأساس على فكرة أن تصطلح الأنظمة عبر العالم مع شعوبها وأن تستجيب لتطلعاتهم الطموحة التي تبني صرح المجتمعات الحديثة؛ وهاته لا غرو أفكار أصبحت تزعج الغرب وتقلق مضجعه، لأنه يريد أن تسود هاته القيم بلده أكثر من أي قطر آخر من أقطار العالم. إن الكاتب يقدم لنا مسحا شاملا عن التجارب الديمقراطية التي شهدها العالم خلال القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين، مثل الهند وروسيا وفنزويلا ونيجيريا وتايلاند وأمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية وإفريقيا والشرق الأوسط وغيرها. وتحدث عن أسباب تقدمها وانتكاستها وعلاقة ذلك بمعدلات التنمية ومؤشرات الحرية إن "لاري دايموند" يشدد على فكرة أن التواصل السياسي لا يتحقق إلا بالتحلي بقيم الديمقراطية المتجسدة مثلا في تحقيق الشفافية وتطبيق المحاسبة الأفقية والعمودية التي لا تستثني أحدا. ولا شك في أن ذلك دعوة إلى تبني فكر جريء يعرض لأول مرة على طاولة المداولة بيننا باعتبارنا عربا أو آسيويين وبين فكر غربي ديمقراطي ليبرالي. إن "لاري" يقر بصعوبة غرس الديمقراطية في بعض الدول النامية، ولكن لا يراها أمرا مستحيلا بعيد المنال. فالكاتب مسلح بأمل أن تكون تربة هذه الدول خصبة، وعليه فنمو نبتة الديمقراطية سهل جدا إذا ما توفر الماء وتوفرت البذور بما يكفي التي تغذيها والمتمثلة في الإرادة الأكيدة لقبول الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ولكن ليس كل ما يقول "لاري" يؤخذ دونما مساءلة، وإنما هناك ما يرد في فكره، وهي متعددة، ولكننا نقتصر على ثلاث جوانب بادية للعيان؛ فهو مثلا يعتبر النظام الإسلامي غامضا، بل يعتبره إيديولوجية، في حين إنه يستند إلى دستور مكتوب في القرآن بوضوح؛ "لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه". والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "لقد تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك..." (صحيح البخاري). ومن ناحية أخرى، فإن مصادر التقصي والإحصاءات التي يعتمدها الكاتب، في غالبها مستقاة من "بيت الحرية". فإلى أي حد نستطيع الوثوق ببياناتها؟ كما تجدر الإشارة إلى أننا نتحفظ على بعض الأفكار التي وردت في الكتاب ونرفض أخرى في سياق حديثه عن الحالة المغربية، خصوصا ما يتعلق بجانب الحرية. أخبرني زوجي أن لاري قال له إن باحثا صينيا ترجم كتاب "روح الديمقراطية" في الصين، ولم يسمح له بتشره إلا بعد ثلاث سنوات وبعد أن رضخ لشرط الصين حذف المترجم الفصل المتعلق بالحالة الصينية؛ فدور النشر العربية على الأقل قبلت بنشر الكتاب المترجم بكل جرأة. وإن تيسير زيارة "لاري دايموند" إلى جامعة محمد الأول وهي مؤسسة مغربية رسمية، وعرض أفكاره بكل حرية بمركز الدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية بالتنسيق مع عميد كلية الآداب الذي أسس فعلا لحوار حضاري بين ثقافتين غربية ومغربية، لهو دليل واضح على بداية عهد جديد ومتحرر في المغرب. 2 كتاب "روح الديمقراطية" ومعاناة أسرة: لقد حصل لي الشرف قراءة مقدمة مترجم كتاب "روح الديمقراطية: الكفاح من أجل بناء مجتمعات حرة" ومراجعتها، زوجي الأستاذ الدكتور عبد النور خراقي2 الذي أجهد نفسه كثيرا في إخراج هذا العمل المترجم إلى النور، والذي عشت معه جميع مراحل هاته الترجمة المضنية التي كلفتنا كأسرة الوقت الطويل، والأعصاب والقفز على عطلنا وعطل الأولاد خاصة؛ فالجهد إذن مشترك بيني وبين أبنائي وبين زوجي. لقد صبرت على هاته المعاناة، لأنني كنت فعلا أؤمن في كون العمل قيمة علمية متميزة، وأفكاره تجسد جسرا حضاريا تواصليا عز نظيره في الساحة الفكرية. وأذكر أنه لما حل صاحب الكتاب السيد "لاري دايموند" ضيفا على مدينة وجدة تتويجا لنشر كتابه في نسخته المترجمة قال ابني لأبيه: "واش جا لي محنك"، لأن أبيه كان دائما يردد عبارة: "محني لاري بهذ الكتاب الطويل. مبغاش يكمل!". ولكن مهما حصل، إن ظهور الكتاب – ولله الحمد – في أرقى دور النشر العربية بلبنان، أنسانا الأتعاب والمعاناة. خاتمة: أقول في الختام إنه حق على كل عربي، يتخذ من الحرية والشوق إلى الانعتاق شعارا له، قراءة كتاب "روح الديمقراطية"، لأنه فعلا كتاب رائع يعرض أفكارا في غاية القوة والتحدي والجرأة. الهوامش: 1 جورج طرابيشي "هرطقات عن الديمقراطية والعلمانية والحداثة والممانعة لعربية"، 2 أستاذ وأكاديمي جامعي مغربي - مصلحة الشؤون الثقافية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، وجدة