لا أشاطر رأي من يدعي بأن كريستوفر روس سيعود إلى مقر الأممالمتحدة خاوي الوفاض بعد جولته في المنطقة المغاربية بهدف محاولة إيجاد أرضية توافقية لتجاوز التشنج السياسي القائم منذ زمن حول الصحراء المغربية. فهذا الزعم إنما هو زعم ذو نكهة سياسية محضة وغالبا ما يكون تبني هذا الزعم مجانيا ومجانبا للصواب من زاوية البعد أو المقاربة الاقتصادية. ذلك أن الخلاصة الأساسية والرئيسية ولكنها، في نفس الوقت المؤسفة، والتي من الأرجح أن يخلص إليها المبعوث الأممي تكمن في استخلاص أن بعض دول المنطقة ما زالت تعطي الأولوية، في تعاملها مع نزاعاتها أو أية قضية مهما كانت حدة أهميتها، للجانب السياسي وأنها لم تع بعد، أي هذه الدول، أنها لو تبنت البعد الاقتصادي والتنموي في تعاملها مع قضاياها، سواء الواقعية الموضوعية، أي التنموية المتعلقة بالرقي بمستوى معيشة الشعوب، أو تلك الوهمية المفتعلة ذات الطابع السياسي، لتم حتما تجاوزها منذ زمن. وهذا التباين في الرؤى هو الفرق بين الدول السائرة في طريق النمو وتلك المتقدمة. وما وجبت الإشارة إليه هو كون المغرب كان دائم الوعي بالبعد الاقتصادي والتنموي والاجتماعي وتبنيه في تعامله مع جيرانه من خلال العمل على إنشاء منظومة اتحاد المغرب العربي الذي يمكن أن يشكل رمز وإطار الوحدة المغاربية، ودعوته الدائمة لفتح الحدود واقتراحه لمبادرة الحكم الذاتي الذي اعتبرته الأممالمتحدة حلا موضوعيا وجديا وواقعيا. فجوهر هذه الرؤيا هو اقتصادي-اجتماعي يهدف بالأساس إلى إعطاء الأولية للتكامل والتضامن الاقتصادي والاجتماعي لفائدة الرقي بالمستوى المعيشي للشعوب المغاربية وعندها سيلين وسيهين إيجاد توافق سياسي لكون الشعوب، من خلال تحسن مستواها المعيشي ورقيها، ستحسم الموقف جاعلة مما هو سياسي ثانويا وما هو اقتصادي-اجتماعي أولوي. فذاك كان سبيل دول السوق الأوروبية المشتركة والدول المتقدمة والتي تجاوزت وتتجاوز العراقيل السياسية متى برزت من خلال الازدهار الاقتصادي. ولنتساءل وبكل بساطة وواقعية، من أسقط سور برلين؟ ومن أطاح بالنظام السوفياتي سابقا؟ إنها، وهذه واقعة لا جدال فيها، الوضعية الاقتصادية للشعوب. وعند تتبعنا للحوار الذي أجرته قناة ميدي سات1 مع الدكتور لعربي حداد والخبير الأمريكي، اتضحت جليا ضرورة تبني هذا التوجه لكون السبيل السياسي قد طال وضاقت أهالي المنطقة من استمرارية تبنيه من طرف بعض دول المنطقة وقد حان الوقت لتجاوزه بتبني البعد الاقتصادي والتنموي التكاملي. وحتى وإن تحدثنا عن النهج السياسي فلم يتبقى إلا نهج واحد ألا وهو النهج الرأسمالي الليبرالي الديمقراطي. فهل ما تعايشه شعوب المنطقة صراعا سياسيا أم مجرد تعنت من أجل التعنت. ما موضوع هذا الصراع أو التعنت الأحادي الجانب، هل الصحراء المغربية؟ الواقع يثبت أن كل دولة في صحراءها. فالمغرب في صحراءه، أبا عن جد، وفقا لشرعية التاريخ أي البيعة ووفقا لشرعية القانون الدولي أي قرار محكمة لاهاي. والمغرب ماض في مسار تنموي اقتصادي واجتماعي وسياسي سيتقوى بفضل الجهوية الموسعة التي ستشكل مثالا يحتدا به في مجال تدبير الشعب المغربي لشأنه المحلي. أما مسئولو الجزائر، فهي مستمرة في تعنتها السلبي باحتجازها لأبناء المغرب الذين غرر بهم في زمن الحرب الباردة والذين يوميا يفطنون ويوعون بحقيقة الأكذوبة الباهتة أو كما عبر عنها المغفور له المرحوم الملك الحسن الثاني ب (l'escroquerie du siècle) . وتتجلى هذه الفطنة في مجازفة المغاربة المحتجزين باختراق الحدود ومحاولات الالتحاق بأرض الوطن، المغرب، علاوة على ما يشهد به كل من كللت محاولته بمعانقة أصوله المغربية العريقة. فعلى مسئولي البلد الشقيق الجزائر أن يعوا كل الوعي أن هذه المحاولات ومضمون شهادات الملتحقين بأرض الوطن أن الوضعية ستتحول، عاجلا أم آجلا، إلى انتفاضة المغاربة المحتجزين و حينها سيصعب على المسئولين الجزائريين احتواءها لأن الأمر بات مأساويا وأصبحت مأساويته جلية أمام المجتمع الدولي برمته. كما يجب، وهذا هو الأمر المقلق، على هؤلاء المسئولين أن يعوا حقيقة ربما يتجاهلونها والتي تكمن في الانقلاب الذي ستقوده، على الجزائر، تلك الشردمة من المرتزقة الذين ما زالت متمادية في دعمهم والذين ينهبون المعونات الدولية باسم المغاربة المحتجزين لذيها فوق ترابها. وعلى ضوء ما صرح به الأستاذ لعربي حداد وأكده الباحث الأمريكي، أن المنطقة باتت مسرحا للقرصنة والاختطافات ومجالا للتهريب وأرضا خصبة لترعرع المد الارهابي وموقع انطلاق هجمات أو عمليات إرهابية قدرت بأكثر من 500 عملية إرهابية، يمكننا أن نستنتج أو أن نجزم انه من المحتمل، إن على المدى القريب أو المتوسط ، أن تتحول هذه الشردمة من المرتزقة إلى الجناح المسلح للتيار الإرهابي للقاعدة الذي بات يشكل خطرا استراتيجيا على كل دول المنطقة. وحينها سيعي مسئولو الجزائر أن أصدقاء الأمس سيصبحون أعداء الغد بل أنها أي الجزائر بصدد مساندة وتعزيز قدرات من سينقلب ضدها، وهذا هو ما تمت الإشارة إليه بالانقلاب، ليصبح عدوها والعدو المحتمل للمنطقة برمتها إذا لم يتم الشروع، في إطار تضامني بين كل الدول المجاورة والمعنية بالتهديد المستقبلي، في اجتثاث أسسه والتصدي لروافده. وهذا هو التحدي السياسي الحقيقي الذي يحق لكل دول المنطقة التصدي له لكونه يهدد استقرارها وازدهارها وسيزج بها في مسار لا يمكن التنبأ بمآله. وتكمن خطورة هذا المد الإرهابي في عدم قدرة أية دولة بمفردها التغلب عليه. كما أن امتداده وانتشاره سيكون هينا عليه، إذا أغفلنا التضامن الاقتصادي والاجتماعي للرقي بالمستوى المعيشي للشعوب، استقطاب أشخاص أو مجموعات أنهكها تدني وتدهور المستوى المعيشي والتهميش. فملايير الدولارات التي تصرف بهدف التسلح المجاني يجب تحويل اتجاه صرفها لتمويل التنمية الاقتصادية والاجتماعية في إطار مشاريع مشتركة بين دول المنطقة بهدف الرقي بمستوى معيشة الساكنة والذي من شأنه أن يشكل مناعة حقيقية أمام التضليل الخطير والأطروحات الوهمية التي يروج لها التيار الإرهابي في منطقة بالغة الحساسية استراتيجيا. فلنبرمج لما يضمن طمأنينة شعوب المنطقة: الحق في السكن والتغذية والتعليم والصحة والعدالة وحرية الرأي والاندماج في تدبير الشأن العام...كل هذا اقتصادي-اجتماعي واقعي وواضح وممكن، عوض البرمجة لما يجعل الشعوب متشائمة وذات أذهان شاردة في التفكير في المجهول... كل هذا سياسي مبهم وجد سلبي. إن الرقي الاقتصادي هو الأساس وهو من سيمكن من جعل ما هو سياسي مسألة ثانوية وهذا هو حال شعوب الدول المتقدمة على عكس حال غالبية شعوب المنطقة المغاربية ومثيلاتها. إن هذا المرتكز هو بالأساس ما تدع إليه الدول الأوروبية من خلال إنشاء فضاء أورومتوسطي للتضامن والتكامل والتعاون الاقتصادي لكونها من خلال تجربتها وعت كل الوعي أن هذا المنحى الاقتصادي الاجتماعي هو من سيزيل وسيذيب الاكراهات السياسية المبهمة مغاربيا. يقول البعض، إن سعي الدول الأوروبية وراء تشييد هذا الفضاء إنما هو لفائدتها بالنظر لطبيعة النظام الرأسمالي الليبرالي. فهذا الزعم إنما هو زعم مجانب للصواب ذلك أن المنفعة هي مشتركة والنظام السياسي أصبح أو سيصبح واحدا في ظل عولمته علاوة على أن الدول الأوربية وعت تماما أنه لا يمكن لشعوبها أن تنعم بالرقي والازدهار والطمأنينة إذا كانت شعوب الضفة الجنوبية تعيش، ليس كلها، في تشردم ومستوى معيشي غير لائق ومقلق في جوانبه الأساسية. بخصوص الضفة الجنوبية وخاصة منها المغاربية، فالمغرب يحض باهتمام وبتميز خاصين أولا من طرف الدول الأوروبية ، من خلال منح المغرب مكانة تفضيلية داخل المنظومة الاوروبية. ثانيا، من طرف الأممالمتحدة المتبناة لمقترح الحكم الذاتي للأقاليم الصحراوية المغربية،وثالثا من جهة أمريكا التي تكن للمغرب مكانة خاصة بالنظر للروابط التاريخية المتجدرة القائمة بين البلدين ولإبرام اتفاقية التبادل الحر،علاوة على الموقع الجيو-استراتيجي للمغرب خاصة من زاوية محاربة المد الارهابي جنوب الصحراء المغربية وتهديده للمصالح الجيو-اقتصادية المتبادلة في المنطقة. ويجب التذكير هنا بما قاله المغفور له المرحوم الملك الحسن الثاني في إحدى خطاباته: ...ما يهم هو وزن من صوت لصالح المغرب وليس عدد من صوت ضده... إذا كان الأستاذ لعربي حداد يؤكد على أن مسألة الحسم في ما يسمى بمشكلة الصحراء المغربية يضل رهينا بحزم الأممالمتحدة في اتخاذ القرار الملائم والجاد والنهائي وبالشعور الفعلي بخطورة انعكاسات المد الإرهابي على المصالح الأمريكية في المنطقة، فوجهة النظر هاته وجب، أعتقد ذلك، تنقيحها بالقول أن الدول الأوروبية والأممالمتحدة وأمريكا وكذا الدول الوازنة واعية بهذا ويمكن تفسير موقفها بالتمهل مع الأمل والعمل، ليس لما لا نهاية له، على تحفيز ونضج الفكر المغاربي ووعيه بالخطر المحدق به. آنذاك يمكن التحام الرؤى والقوى والتصدي لما يمكنه أن يعيق المسيرة التنموية المستقبلية التي ستكون تشاركية. وفي حالة طول زمن المبهمات السياسية الفارغة والمتجاوزة، حينها ستضطر الأممالمتحدة والدول الأوربية وأمريكا على القيام، بشراكة مع الدول ذات النية الحسنة، بما هو ضروري للحفاظ على استقرار المنطقة وضمان مصالحها مع الدول الشريكة. مثل هذا كمثل التلميذ أو الطالب إذ أنهما إذا استعصى عليهما إيجاد حل لمسألة معينة، فإنهما يستعينان بخبرة صديق لهما أو في آخر المطاف اللجوء إلى أساتذتهما. فالنهج المغربي نهج ناضج وموضوعي ومطابق لفكر الدول المتقدمة والمتجسد في إعطاء الأولوية لما هو اقتصادي واجتماعي أي لما يهم معيشة الساكنة. فالمبادرات السامية المغربية الشاملة لكافة القطاعات لنموذج يحظى باهتمام وتنويه مجمل الدول المتقدمة بحيث نجدها تدعمه ماديا ومعنويا، وبكل يقين يمكن للنموذج المغربي أن يشكل مثلا للعديد من الدول قصد الاقتداء به عوض إنهاك ميزانية الشعوب في السباق نحو التسلح على حساب التنمية الاقتصادية والاجتماعية للساكنة. كما أنه هناك نوع من الاستغراب أو التناقض حين يتكلم البعض عن مشكل الصحراء المغربية لتعليل التوتر القائم والمبهم بين دول المنطقة وخاصة المغرب والجزائر. إن الحديث عن الصحراء المغربية كمشكل أمر مردود على أهله لكونها في الواقع ليست كذلك بالنسبة للمغرب بل هي مفتعلة والتاريخ يشهد بذلك ويشهد أنها كانت وليدة حقبة زمنية محددة قد طوى التاريخ صفحاتها. فالمغرب في صحراءه وماض في برنامجه التنموي وفخور ومعتز باستقبال من غرر بهم من أبناءه وماض في تطبيق إحدى أهم مرتكزات تعزيز الديمقراطية في البلاد أي الجهوية الموسعة. المشكل الموضوعي والواقعي هو التصدي جماعيا للمد الإرهابي في المنطقة من خلال الرقي جماعيا بالجانب المعيشي للساكنة. فالبعد الاقتصادي الموضوعي والايجابي للشعوب هو الأساسي والأولوي أما السياسي المبهم والمنهك للشعوب فيبقى بعدا ثانويا . لماذا المبهم لأنه لم تعد هناك سياسات بل سياسة واحدة تكمن في الرأسمالية الليبرالية أما الفرق فيكمن في مستوى أو مدى الديمقراطية التي تميز بلد عن آخر... نأمل أن يخلص المبعوث الأممي إلى خلاصة واحدة تكمن في أن مستوى نضج فكر بعض دول المنطقة لا يزال يتميز بالتعنت والتشنج والمراوغات المبهمة في ظرفية لم تعد تتحمل الوقوف جاثمين متصلبين أمام الزحف الارهابي الذي يتغذى ويتقوى بل ويرغب في استمرار هذه الظرفية لكونها ملائمة لنموه وأنه حان الوقت لتأخذ الأممالمتحدة وكذا الدول الوازنة بشراكة مع دول المنطقة ذات النية الحسنة بجدية كاملة وآنية القرارات الحاسمة وفقا للشرعية الدولية لطي هذا الملف الذي يعتبر، في حقيقة الأمر، آيلا للزوال ولا يشكل إلا تشويشا على ازدهار وتقدم دول المنطقة برمتها والذي إذا لم يتم طيه ستعيش ليس فقط دول المنطقة المغاربية بل وحتى دول شمال حوض البحر الأبيض المتوسط في دوامة التصدي لخطر المد الارهابي. *باحث في العلوم الاقتصادية والاجتماعية