إن الاختلاط العرقي والإثني الناتج عن الهجرات أو الغزو والاحتلال، أمر واقع وسمة عامة تطبع كل الشعوب والمجتمعات والحضارات. وقد يحصل أن بعض العناصر الأجنبية، التي تستقر ببلد ما بسبب الهجرة أو الاحتلال، تصبح صاحبة السلطة السياسية بذلك البلد الذي انتقلت إليه واستقرت به بصفة نهائية. فإذا استمرت في حكم ذلك البلد، الذي هاجرت إليه، باسم الانتماء إلى بلدها الأصلي وهويتها الأولى، مع استعمال لغتها الأجنبية عن لغة السكان الذين تحكمهم، فسيكون ذلك احتلالا واستعمارا. والأمثلة عن هذه الحالة من الاستعمار كثيرة ومتنوعة: فالرومان، عندما كانوا يحكمون شمال إفريقيا باسم الانتماء إلى الرومان ومستعملين لغتهم اللاتينية الأجنبية عن لغة السكان الأصليين التي هي الأمازيغية، كان ذلك استعمارا رومانيا لشمال إفريقيا. وعندما كان الأمويون يحكمون شمال إفريقيا باسم الانتماء العربي ومستعملين اللغة العربية الأجنبية عن لغة السكان الأصليين، كان ذلك استعمارا عربيا أمويا لسكان شمال إفريقيا كذلك. وعندما كان الماريشال «ليوطي» يحكم المغرب في عهد الحماية باسم الانتماء إلى الهوية الفرنسية ومستعملا اللغة الفرنسية الأجنبية عن لغة سكان الأصليين، كان ذلك استعمارا فرنسيا للمغرب أيضا. أما إذا استمرت مثل هذه العناصر الأجنبية في الحكم ببلد الهجرة، لكن باسم الانتماء إلى هوية هذا البلد بذاته ومع استعمال لغته الأصلية، فإن هؤلاء الحكام يصبحون جزء من مواطني هذا البلد، يشاركون في حكمه وتسييره والدفاع عنه، متبنين لهويته ومتقنين للغته، لا فرق بينهم وبين السكان الأصليين، رغم أصولهم الإثنية الأجنبية. وهذا حاصل في كثير من بلدان العالم: فالرئيس الفرنسي الحالي (2010) لفرنسا «نيكولا ساركوزي» Nicolas sarkozy، ذو الأصول المجرية، لا يسير الدولة الفرنسية باسم الانتماء إلى الهوية المجرية، ولا يستعمل سلطاته لفرض اللغة المجرية أو الدفاع عن المصالح المجرية، بل كفرنسي ينتمي إلى الهوية الفرنسية ويستعمل اللغة الفرنسية رغم أصوله المجرية. ورئيسة الشيلي "ميشيل باشلي" Michelle Bachelet (2006 2010) ذات أصول فرنسية، ترجع إلى أحد أجدادها الذي هاجر من فرنسا في 1869 نحو أميريكا الجنوبية ليستقر بصفة دائمة ونهائية بمنطقة "الشيلي". لكن الرئيسة "باشلي" لم تستعمل سلطتها، كرئيسة دولة، لفرنسة الشعب الشيلي واستبدال هويته الشيلية بهوية أجدادها الفرنسيين، ومحاربة لغته وفرض مكانها اللغة الفرنسية لهؤلاء الأجداد، بل هي فخورة بانتمائها للهوية الشيلية ومعتزة بلغتها الشيلية التي لا تألو جهدا في الدفاع عنهما وحمايتهما وتنميتهما دون أن يكون لأصولها العرقية الفرنسية أي تأثير على هويتها الشيلية التي تستمدها من الانتماء إلى الأرض الشيلية وليس من أصولها العرقية الفرنسية. وكذلك الوزيرة السابقة (1997 2001) للخارجية الأميريكية «مادلين والبرايت» Madeleine Albright، ذات الأصول اليوغوسلافية الصربية، لم تكن تمارس سلطتها باسم الانتماء اليوغوسلافي ولم تستعمل منصبها لنشر اللغة اليوغوسلافية بالولايات المتحدة، بل كانت تدير وزارتها كأميركية «أصلية»، وباسم الانتماء الأميركي ومع استعمال اللغة الأميركية، رغم أصولها اليوغوسلافية المعروفة. الرئيس الحالي (2010) للولايات المتحدة، باراك أوباما، ذو أصول إثنية كينية كما هو معروف، لكن الشعب الأميريكي انتخبه رئيسا، ليس لأنه كيني الأصل، بل لأنه ذو هوية أميريكية استمدها من هوية الأرض الأميركية التي ينتمي إليها، كأي مواطن أميريكي آخر، منذ أن أصبح يعيش بها بصفة قارة ودائمة ونهائية. نفس الشيء بالنسبة لرئيس «البيرو» السابق «فوجيموري» Alberto Fujimori (1990 2000) ذي الأصل الياباني كما يدل على ذلك اسمه. فلم يكن يحكم «البيرو» باسم الانتماء إلى الشعب الياباني ولا عمل على فرض اللغة اليابانية على شعب «البيرو»، بل كان يحكم باسم الانتماء الهوياتي إلى «البيرو» مع استعمال اللغة الوطنية لهذا البلد رغم أصوله اليابنانية التي يعرفها مواطنو «البيرو» جميعهم. كذلك لم يكن الرئيس الأرجنتيني السابق «كارلوس منعم» (1989 1999)، ذو الأصل العربي السوري، يحكم الأرجنتين باسم الانتماء العربي، ولم يستعمل سلطاته كرئيس دولة لتعريب الأرجنتيين وفرض اللغة العربية عليهم لكونه من أصل عربي، بل كان يسيّر الأرجنتين باسم الانتماء إلى الهوية الأرجنتينية ومع استعمال اللغة الإسبانية للأرجنتين، رغم أصوله العربية السورية. أما إذا انتقلنا إلى مستوى الملكيات والملوك، وهي الحالة التي تطابق أكثر المغرب الذي يحكمه نظام ملكي، فسنجد نفس القاعدة حاضرة ومؤكدة: فملك إسبانيا خوان كارلوس مثلا، ذو الأصول الفرنسية البوربونية (Les Bourbons)، وكذلك زوجته يونانية الأصل وليست إسبانية لا يمارس الملك باسم الانتماء الفرنسي ولا يستعمل سلطاته لفرنسة الشعب الإسباني وفرض اللغة الفرنسية الأجنبية على الإسبانيين، بل يتصرف ويحكم كإسباني ذي هوية إسبانية مع إتقان واستعمال اللغة الإسبانية للشعب الإسباني، رغم أصوله الفرنسية الأجنبية. كما أن الأسرة المالكة بإنجلترا، والتي ترجع أصولها إلى منطقة هنوفر Hanovre الألمانية، لا تحكم انجلترا باسم الانتماء الألماني ولا يستعمل ملوكها اللغة الألمانية ولا يستغلون سلطتهم كملوك لألمنة (جعلهن ألمانيين) الشعب الإنجليزي، بل يمارسون الملك باسم الانتماء إلى الهوية الإنجليزية وليس الألمانية مع إتقان واستعمال اللغة الإنجليزية للشعب الإنجليزي، رغم انحدارهم من أصول عرقية ألمانية. القاعدة إذن أن من ينتقل أو من ينحدر من هذا الذي ينتقل من بلده الأصلي ويستقر ببلد آخر على وجه الدوام والبقاء، يحكم هذا البلد، عندما تصبح في يده السلطة السياسية، باسم الانتماء إلى هوية هذا البلد، إلى جانب ضرورة إتقان واستعمال لغة هذا البلد الأصلية، مع الدفاع عن هذه الهوية وهذه اللغة. وفي الحالة المخالفة، أي الحكم باسم انتماء هذا الحاكم إلى هوية شعبه الأجنبي عن هذا الشعب الذي يحكمه مع فرض لغته الأجنبية وإقصاء لغة السكان الأصلية، فإن ذلك سيكون احتلالا بينا واستعمارا ظاهرا، كما سبق أن شرحنا في البداية. وماذا نجد في المغرب؟ نجد هذه الحالة الأخيرة المخالفة للقاعدة العامة التي استقريناها من نماذج وأمثلة للعديد من الشعوب والبلدان التي يحكمها مواطنون ينحدرون من أصول عرقية خارجية وأجنبية. نجد أقلية تدعي أقول تدعي لأنها في الحقيقة أمازيغية لكنها مستلبة أنها ذات أصول عربية، تواصل حكم هذا البلد الأمازيغي باسم الانتماء إلى الشعب العربي مع فرض لغة ذلك الشعب العربي على السكان الأصليين، ونهج سياسة التعريب العرقي والسياسي والهوياتي واللغوي لإدماج هؤلاء السكان الأصليين ضمن الشعب العربي، الذي يقول أولئك الحكام إنهم ينحدرون منه. فهذه إذن حالة نشاز تشبه وضعية الاحتلال والاستعمار، كما سبق أن شرحنا، ينبغي العمل على تصحيحها. وكيف يمكن تصحيحها؟ يكون ذلك بكفّ هؤلاء الحكام عن الاستمرار في ممارسة سلطاتهم باسم الانتماء العربي، ووقف سياسة التعريب العرقي والسياسي والهوياتي واللغوي للسكان الأصليين، أي للشعب الأمازيغي، والإعلان رسميا انتماءهم إلى الشعب الأمازيغي الذي استضاف وآوى أجدادهم عندما فروا من شعبهم العربي ولجأوا إلى الشعب الأمازيغي بالمغرب، مع ضرورة إتقانهم واستعمالهم للغة الأمازيغية وفرضها كلغة للحكم والسلطة، وانسحابهم مما يسمى «الجامعة العربية» لأنهم يمثلون شعبا أمازيغيا لا يمكن أن يكون عضوا في جامعة هي مقصورة على الشعوب العربية. وهذا هو الجواب كذلك على المناوئين للمطالب الأمازيغية الذين يهوّلونها كخطر ينذر بالفتنة والتفرقة عندما يسألون بخبث وسوء نية مخاطبين نشطاء الحركة الأمازيغية: وماذا ستفعلون بمن هم عرب؟ هل تلقون بهم في البحر؟ سيكون إذن هؤلاء «العرب» مثلهم مثل باقي الأمازيغيين الأصليين، شريطة تبنيهم للهوية الأمازيغية واندماجهم فيها وإتقانهم للغة الأمازيغية واستعمالها مع الدفاع عن هذه الهوية وهذه اللغة الأمازيغيتين. بعد ذلك يبقى لهم كامل الحق في «الافتخار» بأنسابهم العربية وأصولهم العرقية غير الأمازيغية، لأن الذي يهمنا هو الهوية المرتبطة بالموطن وما يتصل بها من لغة خاصة بسكان ذلك الموطن، وليس الأصل العرقي الإثني الذي قد يكون من مصادر مختلفة ومتنوعة وأجنبية، والذي (الأصل) لا يدخل في تعريف وتحديد الهوية التي تتحد أصلا بالموطن واللغة كما أشرنا. فهل سيغلّب حكامنا، المدّعون أن أصولهم «عربية»، منطقَ الهوية الجغرافية الموْطنية بدل المنطق العنصري للأصول والسلالات والنقاء العرقي وخرافة "النسب الشريف"، فيعلنون أن المغرب دولة أمازيغية ذات شعب أمازيغي وانتماء أمازيغي ولغة أمازيغية؟