أعلن عمدة فاس مدينته عاصمة "مقدسة"، و هو أمر ليس مستغربا بعد اكتشاف الرجل قبل أزيد من سنة ل"حديث شريف" يتحدث فيه النبي محمد عن فاس قبل بنائها بقرن و نصف (كذا!)، و قد قال العمدة ذلك على مرأى و مسمع من الحضور في قاعة عمومية دون أن يرف له جفن، مستخفا بذكاء الناس، و هو ما يعطي صورة عن مستوى بعض الأشخاص الذين يتصدرون الحياة السياسية، و يطمحون إلى تسيير البلد. ذكّرنا هذا الرجل برئيس المجلس العلمي لمدينة "سلا" الذي أعلن بدوره قبل عمدة فاس بقليل، أن مدينة سلا مدينة "مقدسة" أيضا لأنها "موطن الأولياء و الصلحاء و العلماء و لا يجوز بيع الخمر فيها"، و معنى ذلك أن سلا مدينة ينبغي أن يحكمها الموتى ، و على الأحياء أن يخضعوا لهم في حيواتهم و أذواقهم و اختياراتهم اليومية. و السؤال المطروح هو ماذا يتبقى لباقي مدن المغرب إذا ذهبت فاس و سلا بكل القدسية و بكامل الطهرية ؟ بغض النظر عن مناورات عمدة فاس و دسائسه و صراعاته الشخصية الظاهرة و المستترة و تلاسناته السمجة التي لا تهمّ المغاربة في شيء، و التي لا علاقة لها بأي دين من الأديان بالمرة، فإن إعلان "فاس مدينة بدون خمور"، عبارة لا يمكن أن ينطق بها إلا من يجهل تاريخ فاس و يجهل أهلها و طبائعهم و ثقافتهم، فللمدينة العريقة تاريخ حافل مع "النزاهة" بحلالها و حرامها، و لها تقاليدها العريقة في صناعة أنواع المعجون و "الغريبة"، هذه الأخيرة التي ارتبطت في الذاكرة الشعبية بالطرب الأندلسي، كما أنّ فاس قريبة من عاصمة الخمور منذ آلاف السنين منطقة أسايس و أمكناس، و لفاس أعلامها من الشعراء و أهل الأدب عبر القرون الذين جاوزوا كل التحفظات في ذكر الطيبات و الملذات الحسية و الروحية، و من هذا المنطلق نُذكر العمدة الذي يبدو أنه أصيب بجنون عظمة كاذبة بالحقائق التالية: 1) سبق لسلاطين و أمراء و قضاة أن حاولوا لأسباب ظرفية في كل مرة منع الخمور بفاس، و ليس عمدتها الحالي وحده من سبق إلى ذلك، غير أن الناس كانوا في كل مرة يعودون إلى سابق عهدهم لسببين بسيطين: الأول أن الخمر ثقافة ملازمة لحياة البشر منذ آلاف السنين، تماما كالرقص و الغناء، وليست مجرد "ضلالة" و "انحراف" كما يعتقد أهل التقليد من السلفيين و الفقهاء، و لسبب ثان هو أن الذين يسعون في كل مرة إلى منع الخمر يفعلون ذلك في سياق ظرفي سرعان ما يزول و يذهب بذهابه قرار المنع الذي ينساه الناس كأن لم يكن. 2) أن العمدة يتصرف كما لو أن منصبه دائم خالد لا يزول و الدوام لله كما يقال، و يتصرف كما لو أن الناس بضاعة يتحكم في مصائرهم خارج أي قانون بمزاجه و على هواه، و الحال أنه في يوم ما سيصبح من الذين غطى غبار النسيان على ذكرهم و أسمائهم، و إذا لم يكن الرجل قد فعل خيرا يذكر به بعد مغادرته لمنصبه أو رحيله عن هذا العالم، فمن المؤكد أنه لن يُذكر بمنع بيع الخمور بفاس ، لأن ذلك لم يكن قط ضمن أولويات مطالب السكان لا بفاس و لا بغيرها. 3) لوحظ أن العمدة يتحدث عن منع بيع الخمور بفاس دون اكتراث بالمواطنين الذين يستهلكون هذه البضاعة، فصراعه مع خصومه أعمى بصيرته لدرجة نسيان ما هو أساسي، و هو أن قضية الخمر ليست مشكلة الباعة أو الرخص فقط، بل هي قبل ذلك قضية حقوق الناس في حياتهم الخاصة التي ليس من حق العمدة و لا غيره التدخل فيها لا بالزجر و لا بالمنع، و الإحتكام إلى القانون يكون ضدّ الذي اعتدى على غيره أو أساء إليه سواء بسبب الكحول أو بسبب فرط التديّن و التشدد الأعمى. 4) أن سلوك العمدة ينبئ عن وجود استخفاف كبير بالدولة و بالمؤسسات، فتطاوله على صلاحيات غيره و تهديده بالقيام بأمور لا تدخل ضمن صلاحياته و لا تحت وصايته هو من العنتريات التي تعرض أصحابها للسخرية، فمنع الخمر أو إباحتها هو قرار للدولة يعمّ كل التراب الوطني و لا يمكن بحال السماح لبعض مرضى النفوذ أو السلطة أن يقتطعوا مناطق يحولونها إلى إمارات خاصة بهم، و إن هم نجحوا في ذلك لبعض الوقت، فإن ذلك يعتبر من مهازل الحياة السياسية و مظاهر ضعف أسس المشروع الديمقراطي المتعثر. 5) أن مدينة فاس تعاني من مشاكل كثيرة تذكرها الصّحافة كل يوم، و على رأسها مشكلة الأمن التي أصبحت تقضّ مضاجع السكان، و مشكلة النظافة و المزابل، و مشكلة الإنارة في بعض الأحياء، و مشكلة تصريف المياه المستعملة، و هي المشاكل اليومية للسكان البسطاء التي يعرفها العمدة و أشياعه، و التي عليهم إيجاد حلول ناجعة لها عوض اصطناع المشاكل الوهمية و الصراعات الدونكيشوتية. 6) أن منع بيع الخمر بفاس إن حصل فعلا و لن يحصل، فإنّ ذلك لن يكون مانعا من "تدنيس" المدينة "المقدسة"، لأن لا أحد يمكن أن يمنع الناس من اقتناء بضاعتهم و استهلاكها في بيوتهم، حيث ستنشط كما هي العادة في مثل هذه الظروف حركة "مقاومة" شعبية عفوية عبر خلق سوق سوداء تلبي حاجات المستهلكين بشكل منقطع النظير بالمدينة المقدسة، التي سيكون عليها تحمل تبعات القرارات الخرقاء لمسيريها. إنّ بيع و استهلاك الخمور هو من الأمور الطبيعية التي لازمت المجتمعات البشرية منذ أقدم العصور، وهو أمر يتم في الدول الديمقراطية المتقدمة وفق قوانين معروفة و متداولة، و لم تستطع السياسات و لا الديانات منع البشر من ممارسة حرياتهم في اختياراتهم المتعلقة بحياتهم الخاصة، و التي لا تعتبر مسّا بحقوق الآخرين، وإن الترويج لثقافة المنع و الحظر ليس من المؤشرات الإيجابية التي تبشر بخير، و إنما هي الطريق المؤدية إلى توترات لا يمكن أن تسهم في الإنتقال المطلوب نحو الديمقراطية، و على الفاعلين السياسيين أن يحرصوا على عدم التلاعب بالحقوق الأساسية و الحريات الفردية للمواطنين بغرض الإثارة والتهييج أو خلق الصراعات وإيقاظ الفتن، أو طلبا لتصفية حسابات صغيرة، وإنما المطلوب تعليم المواطنين احترام غيرهم، و السعي إلى خلق وعي مواطني يرتكز إلى الحقوق المدنية التي تساوي بين الجميع و لا تفاضل بين الناس لا بالدين و لا باللون و لا بالعرق و لا اللغة. إنّ المفارقة التي يعيشها هؤلاء السكيزوفرينيين هي أنهم لا ينتبهون إلى أنّ اختيار الديمقراطية لا يحتمل التضييق على الحريات، وإذا كان الخمر يباع بدون أي مشكل خلال سنوات الرصاص والقمع الوحشي، فكيف يتصور السعي إلى منعه و تنميط القيم و الأخلاق وفق منظور سلفي معين، في مرحلة تنعت بالعهد الجديد و يُتنادى فيها ب"المجتمع الحداثي الديمقراطي". * الحوار المتمدن