انطلقت جماعة العدل و الإحسان سنة 1981 بقيادة المرشد العام الأستاذ عبد السلام ياسين باعتبارها حركة تربوية و دعوية و سياسية مسترشدة بمخطط تنظيمي و دعوي يعمل على هندسة التربية و التنظيم و التوسع الدعوي هو كتاب " المنهاج النبوي تربية و تنظيما و زحفا " الذي ألفه الأستاذ المرشد على مدار عشر سنوات تقريبا خضع فيها الكتاب لمجموعة من التعديلات و التصويبات قبل أن يستقر على صيغته الأخيرة في سنة التأسيس. ومنذ انطلاقتها و الجماعة في توسع و تطور مستمرين في عدة شرائح و مجالات و اتجاهات العمل المختلفة شبابيا ونسائيا ومهنيا و اجتماعيا و علميا و سياسيا .. حتى أضحت اليوم بفضل الله تعالى قوة بارزة وحاضرة ومؤثرة في المجتمع وذات صيت على المستوى الإقليمي والدولي. وأهدف من خلال هذا الموضوع إلى الوقوف عند بعض المبادئ و المواقف المميزة للجماعة من أجل الإسهام في تواصل أكثر مع كل مهتم بالجماعة وبالشأن الإسلامي والتغييري بشكل عام. وسأتناول هنا التربية وعلاقة الدعوة بالسياسة في أدبيات جماعة العدل والإحسان، والشورى والمشاركة السياسية والمشروع السياسي للجماعة. التربية في الجماعة يقصد بالتربية في الجماعة تزكية النفوس باللغة القرآنية. قال تعالى {قد أفلح من تزكى و ذكر اسم ربه فصلى، بل توثرون الحياة الدنيا و الآخرة خير و أبقى} سورة الأعلى. و مدار التربية على صفاء القلوب و النفوس من سوء الظن و من النفاق و من الكبر و العجب و من كل الأخلاق الذميمة و تحليتها بكل الخصال الحسنة المقابلة و منها حسن القصد و الإخلاص لله تعالى و الحب في الله و البغض في الله... كما أن مدارها على تألق القلوب بالوهج الإيماني المستمر الدافع إلى الإقبال على الله تعالى بشكل دائم من خلال العكوف على كتاب الله و ذكره تعالى وصلاة الليل ( فضلا عن المكتوبة جماعة و في أوقاتها ) و التعرض للنفحات المباركة من صيام و اعتكافات و رباطات .. و هذه الأعمال أصول للنور الذي يهتدي به المؤمن في حياته كلها . قال الله تعالى { أو من كان ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها } سورة الأنعام . معنى النور هو الورع فيما بين يديك من أموال و مسؤوليات ، هو الصدق في الإنجاز، هي نية العبادة و التقرب إلى الله عز و جل بإنجاز ما ينجز ، هي الأمانة و صيانة العهد و عدم الخيانة ، هي التضحية من أجل صالح الوطن و صالح المستضعفين و صالح الإنسانية ، هذه التضحية التي لا تقف عند حدود التعويض المادي عن العمل .. هي البركة من الله تعالى في الجهد و الوقت و الرزق والعمر. كما أن مدار التربية على ترسيخ قوة اليقين في الله تعالى في القلوب حتى لا تخشى إلا الله تعالى. قال الله تعالى : { الذين يبلغون رسالات الله و يخشونه و لا يخشون أحدا إلا الله و كفى بالله حسيبا } الأحزاب. و قال عز وجل أيضا: { و جعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا و كانوا بآياتنا يوقنون } السجدة . إن التربية بهذا المعنى الجامع و الفاعل و الموجه لحياة المسلم هي التي كانت حاضرة في العهد النبوي ( صلى الله على رسول الله ) و في عهد الخلافة الراشدة. و بعد الانقلاب الأموي و تحويل الحكم الراشد إلى حكم مستبد انصرم العقد الجامع و أصبحت دوائر الحكم و الشأن العام ( باستثناء بعض مجالات القضاء... ) لا خبر لها بهذه التربية . و تخصصت فئة من الأمة في مجال التزكية ( كما تخصص غيرها في الفقه و الحديث و التفسير..) لكن تخصص هذه الفئة كان عموده أن تعيش هي هذه التزكية ورعا و ربانية وتبتلا حتى فتح الله لها في مجال تزكية الغير و توجيهه (واضح أننا نتحدث هنا عن التزكية القرآنية النبوية البعيدة عن البدع والضلالات). و توارثت الأمة هذه الحكمة النورانية النافعة كما توارثت العلوم الأخرى ، و حظيت بتقدير كبار علماء الأمة بل منهم من كان ضمن هذه السلسلة و منهم من أخذ هذه التزكية عن أقطاب هذه الحكمة في تربية القلوب و تزكية النفوس ، " و لا نجد في كتابات محدث فقيه مجتهد كابن تيمية ، رحمه الله ، إلا تبجيلا لهم . هذا الفقيه المجتهد أثنى على الشيخ عبد القادر-الجيلاني- ثناء كثيرا و اعتبره من "مشايخ أهل الاستقامة" و من "أئمة المسلمين" و سماه ابن القيم "الشيخ العارف القدوة " . و كان ان تيمية رحمه الله يقرأ "قوت القلوب" المرة بعد الأخرى و أثنى على أبي طالب-المكي- ثناء حسنا ، و استصوب عقيدته في كتاب " الإيمان. "المنهاج النبوي" ص 56 لقد يسر الله للأستاذ ياسين التتلمذ على يدي الحاج العباس رحمه الله في هذا المجال و استفاد من ملازمته و صحبته استفادة غيرت مسار حياته كلها. و لقد علمنا نحن عندما صحبنا المرشد العام الأستاذ ياسين أثر ما أخذه عن الشيخ العباس رحمه الله ، حينما وجدناه و هو إلى اليوم كذلك صواما قواما عاكفا على كتاب الله تعالى ذاكرا الله تعالى وقافا عند حدود الله تعالى متسامحا إلى أقصى حد مع كل من آذاه أو ظلمه ، جلدا في مواجهته الباطل و الاستبداد و الظلم الجاثم على صدر هذه الأمة . لهذا كان التأكيد في منهج الجماعة من قبل الأستاذ ياسين على أمر التزكية في تربية أجيال الصحوة بعدما تشرب معانيها من ملازمة الشيخ العباس رحمه الله و من صحبته ، مع الحرص كل الحرص على موافقتها التامة لسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و طرح كل ما يخالف هذه السنة. يقول الأستاذ المرشد : " و كيفما كان فضل الرجل الصالح فإن الله عز و جل أعطانا معيارا للأفضلية حيث قال : {فضل الله المجاهدين بأموالهم و أنفسهم على القاعدين درجة و كلا وعد الله الحسنى ، و فضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما . درجات منه و مغفرة و رحمة و كان الله غفورا رحيما } ( سورة النساء) و قد تجد وليا يجمعك على الله مع القعود. خير منه ولي لله يجمعك على الله مع الجهاد . " المنهاج النبوي ص-132. إن المرشد المربي الذي يجمع على الله تعالى في ميزان الشرع يحظى بالمحبة الخاصة و بالتقدير و الاحترام الكبيرين . وإن الاطلاع على سير هؤلاء الصالحين من باب الاعتبار بهمم ارتفعت فسمت عبر التاريخ مؤكدة خلود منهج التزكية في هذه الأمة من حيث الصلاحية ، و يبقى نموذج الاقتداء و التمثل الأعلى ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه و صحابته الكرام ، لا نبغي عن منهاجهم سبيلا. الدعوي والسياسي داخل الجماعة تعتبر التربية في منهاج العدل و الإحسان جامعة لأمر الأعضاء خصوصا المسؤولين منهم بمختلف درجات و مجالات المسؤولية تنظيمية كانت أم سياسية . فإذا كانت المهام وظيفية في تخصصاتها كاشتغال المسؤولين التنظيمين بأمور التنظيم و المسؤولين السياسيين بأمور السياسة ، فإن مجالس النصيحة التربوية و الرباطات و الاعتكافات التربوية جامعة للجميع و بدون شارات قيادية ، بل إن تسيير هذه المجالس و إلقاء الدروس فيها غير خاضع لمعيار درجة المسؤولية أو لمعيار التخصص الوظيفي و لا وجود فيه لأي شكل من أشكال التمايز المجالي (مجال الدعوة أو مجال السياسة أو مجال التنظيم). والأستاذ المرشد عبد السلام ياسين صاحب المواقف السياسية التاريخية من الاستبداد و الظلم و المدونة في كثير من مكتوباته ك" الإسلام أو الطوفان" و غيره، هو نفسه المرشد المربي الذي أسس لهذه التربية السارية في الجماعة و التي أشكل على البعض فهم أبعادها لأسباب منها أن هذا الأمر قد لا يفهم على حقيقته التامة إلا عندما يعاش و يجرب ، و منها الإسقاط المغلوط للمفهوم الكنسي للدين على الإسلام الذي يصور تدخل الإسلام في الحياة العامة بمثابة إخضاع أعمال مدنية لهيمنة أو طقوس دينية تلغي العقل و تلغي سنن التصرف في الحياة التي تجري على الناس جميعا مسلمهم و كافرهم . و من هذه الأسباب أيضا الحملة على الإسلام و التي تريد أن تلبسه لبوس الدين النصراني خلال الحقبة ما قبل النهضة الأوروبية في محاولة لتشويهه و قطع الطريق على مشروعه التغييري.. ومن الأسباب كذلك محاولة إسقاط التناحرات والصراعات على المواقع التي تعج بها الهيآت الانتهازية على الجماعة... يقول الأستاذ المرشد " الجماعة المؤمنة المجاهدة تركيب عضوي كالجسد الواحد. فقيادة تمثل الرأس المفكر دون أن تكون في نفس الوقت قلب الجماعة الحي قيادة لا تجمع الكفاءتين الإيمانيتين : الرحمة القلبية و الحكمة العقلية . و قيادة ذات رحمة في القلب و نورانية و كرامات لا تقدر على فهم الواقع و التخطيط للمستقبل و التنفيذ قيادة كسيحة بميزان ما نرى و نحكم " المنهاج النبوي ص 133. الشورى واتخاذ القرار الشورى في الجماعة عبادة و آلية ملزمة لتحديد الاختيارات و اتخاذ القرارات بعد التداول الحر و الصريح و الناصح و الصادق في المجالس . و غالبا ما تتخذ القرارات في الجماعة بأغلبية الثلثين أو أكثر ، و في بعض الحالات بالأغلبية المطلقة. و تخضع المسؤوليات في الجماعة للانتخابات و تحدد مهامها بقوانين تصدر عن مجلس شورى الجماعة، بما فيها مجلس الإرشاد و اختصاصاته ، و المرشد العام و مهامه و طريقة اختياره ، و طريقة إعفائه أو إعفاء عضو مجلس الإرشاد إن ثبت – طبقا للمسطرة القانونية – ما يدعو لذلك . و يحظى المرشد العام بمحبة خاصة و تقدير و احترام كبيرين لا يخرجانه عن دائرة البشرية ، فالمقدس في الجماعة هو الله تعالى و المقدس هو القرآن و المعصوم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم و الراشدون هم أصحابه و خلفاؤه و الأبرار هم الصالحون من أمته ومن سلك مسلكهم إلى يوم الدين . وإنك لتعجب عندما تجد بعض من يكتب عن الجماعة يرجع في باب التنظيم إلى ما كتب سنة 1981 في المنهاج و لا يكلف نفسه بذل أبسط جهد من أجل الاطلاع على ما استجد من عمل الجماعة ، مع العلم أنه قد تم تجاوز مجمل ما كتب في هذا الفصل الرابع منذ زمان. لأن المبادئ والأصول تحفظ ويبنى عليها، أما الآليات و القوانين فيتم تطويرها باستمرار نظرا لتوسع الجماعة و لحاجات العصر و للتنوع المطرد لهياكل و مؤسسات الجماعة... الجماعة والمشاركة السياسية المشاركة السياسية الحقيقية هي المشاركة في نظام سياسي ديمقراطي مفتوح تحكمه قوانين و يحتكم مباشرة لنتائج الاقتراع دون تدليس أو تزوير و يتصدى الفائز لتسيير الشأن العام في إطار صلاحيات حقيقية و يعمل على تطبيق برنامجه الذي دافع عنه أمام الشعب، و يكون مستعدا للمحاسبة في نهاية ولاية الانتداب. والسائد الآن في العالم العربي هو نظام مستبد مطلق و مغلق يستحوذ على السلطة و الثروة والذي ومن فرط فضائح استبداد بعضه فكر في ديكور ديمقراطي يلهي به الشعب و يعمد من خلاله على ترويض مجموعة من المعارضين المنخدعين أو أصحاب مصالح و مآرب آنية، أو إدماج تيارات، و منها التيار الإسلامي أساسا، ضمن اللعبة الملهاة بهدف تذويبهم في هوامش النظام القائم. لقد أساء -في نظرنا- دخول الحركة الإسلامية لهذه اللعبة للمشروع الإسلامي و كذلك للتعبئة الشعبية المناهضة للاستبداد بما غلفه من وهم التغيير لسنوات قبل أن تنفض الجماهير أيديها من هذا الديكور الهجين. لقد أحدث الإدماج السياسي للإسلاميين رجات و تصدعات في قواعد المدمجين ، كما مكن الأنظمة المستبدة من توظيف بعض أبناء الحركة الإسلامية و من كان يدور في محيطها في البنية السياسية لهذه الأنظمة و أفادت من خبرتها في مزيد من التمويه غير المباشر على الأمة في مجالات مختلفة و منها المجال الديني في حد ذاته ! و يحاول بعض الإسلاميين القياس على التجربة التركية و هو قياس فاسد لأن النظام السياسي التركي نظام برلماني رئاسي ديمقراطي حقيقي خاضع للقانون و الدستور. و العسكر عندما يريد أن يقلب الطاولة فإنه إما ينفذ ذلك عبر بوابة القانون الدستوري أو يلجأ إلى الانقلاب العلني الواضح . أما في البلاد العربية فإنه لا ديمقراطية هناك و أصلا الطاولة مقلوبة على الشعب و على نخبه من الأساس! لذا فإننا نرفض الدخول ضمن هذا النسق السياسي المغشوش و نؤمن بالتدافع السلمي السياسي و الاجتماعي الأهلي و نحرص على استمرار التمايز الواضح بين البنية السياسية المستبدة و بين الأمة بطليعتها المعارضة التي لا تساوم على المبادئ .وندعو إلى قطيعة نهائية مع الاستبداد وإلى إرادة حقيقية ومقاربة جماعية للتغيير. قال عليه الصلاة و السلام في الحديث الحسن (محجة القرب، العراقي عن معقل بن يسار المزني) :" لا يلبث الجور بعدي إلا قليلا حتى يطلع فكلما جاء من الجور شيء ذهب من العدل مثله حتى يولد في الجور من لا يعرف غيره ثم يأتي الله تبارك وتعالى بالعدل فكلما جاء من العدل شيء ذهب من الجور مثله حتى يولد في العدل من لا يعرف غيره ". المشروع السياسي للجماعة كان هم الأستاذ عبد السلام ياسين و هم الجماعة دائما كيف نقدم للأمة و للواقع إجابات تجديدية و علمية تتجاوز العموميات و تغطي جميع المجالات الفكرية و التنظيمية و السياسية و غيرها .. وعلى المستوى الفكري التنظيري يسر الله تعالى للجماعة على يد مرشدها منظومة فكرية بمثابة نظرية متكاملة تجلت في الكتب التي ألفها المرشد و التي تجاوزت الأربعين (40) و منها من لم يطبع بعد. و التي شملت مجالات متنوعة في التربية و السياسة و الهوية و التنظيم و سنن التغيير و القراءة التاريخية و غيرها. و في سنة 1998 انطلق مركز الدراسات و الأبحاث في الجماعة (و الذي يضم مجموعة من مكاتب الخبرة المتخصصة في مجالاتها كالاقتصاد و التعليم والقانون و الفلاحة ... ) بتوجيه من الأمانة العامة للدائرة السياسية في إنجاز "المشروع السياسي" للجماعة و الذي يعد بمثابة اجتهادات في تقديم إجابات دراسية و علمية انطلاقا من تصور الجماعة لمجالات الحياة المعاصرة المختلفة. وقد أنجزت النسخة الأولى بعد سنوات من البحث المنطلق من تشخيص الواقع و الاستفادة من التجارب العالمية في الموضوع، ثم خضعت بعد ذلك للنقد والمراجعة من قبل لجان خبرة موسعة، ليتم تجميع التصويبات في النسخة الثانية... و كذلك عدلت النسخة الثانية و صدرت في نسخة ثالثة . و ما زالت مجالات متنوعة قيد استكمال الدراسة و تقديم الاقتراحات المناسبة. *عضو مجلس الإرشاد لجماعة العدل والإحسان وعضو الأمانة العامة لدائرتها السياسية. موقع " الإسلاميون"