لا يشك أحد في أن الديمقراطية ليس غاية ومرتجى بل مجرد وسيلة، وان قيمة كل عملية ديمقراطية، تكمن في أهمية وقوة المؤسسات المنتخبة التي تفرزها، من أدنى مستوى محلي إلى أعلى حلقة في تدبير الشأن العام، الذي تمثله الحكومة كجهاز تنفيذي، والبرلمان كجهاز تشريعي، وقوة ومصداقية المؤسسات المنتخبة رهينة بحجم المشاركة في الاقتراع الذي أفرزها، فبقدر ارتفاع نسبة المشاركة، ترتفع قوتها ومصداقيتها، وكل مشاركة ضعيفة تنعكس سلبا على هذه المؤسسات، وتجعلها مؤسسات هشة ومهزوزة، لذا نرى كيف يرتفع الإقبال على صناديق التصويت في الديمقراطيات التي تتمتع بقدر مرتفع من المصداقية، وكيف تتدنى مستوياتها في الديمقراطيات الشكلية، حيث تكون العملية مجرد شكل بلا مضمون، وجسد بلا روح، ومؤسسات بلا صلاحيات، ومنتخبين بلا برامج ولا تصورات، وكراسي بلا مسؤوليات، فيكون الحل الأسهل، والحالة هاته، تدخل التزوير، والنفخ في النسب، وإعلان أرقام يعلم الجميع بعدم صدقيتها. إن السبيل الأمثل لرفع ثقة الناخبين في العملية السياسية عموما، والديمقراطية خصوصا ، يبقى في ضخ جرعات معقولة من المصداقية في المسلسل الانتخابي، جرعات تشمل القوانين والمؤسسات والأحزاب السياسية، كهيآت وكمنخرطين، باعتبارها الفاعل واللاعب المباشر في العملية السياسية والديمقراطية، فلا ديمقراطية بلا أحزاب ؛ وكل إهمال لهذا الورش الإصلاحي المستعجل، ناهيك عن معاكسته، لن يؤدي إلا لمزيد من العزوف واللامبالاة، بل والازدراء للمسلسل السياسي والانتخابي برمته، حتى نصل يوما لانتخابات بلا ناخبين، ومؤسسات لا تمثل إلا نفسها. لقد تابعنا كيف صدم الجميع من نسبة المشاركة في الانتخابات التشريعية لسنة 2007، التي لم تتجاوز، بأصواتها الملغاة الكثيرة، وحسب الأرقام الرسمية 37% من المسجلين في اللوائح الانتخابية، وهم ليس كل البالغين السن القانوني للانتحاب، وشاهدنا كيف تباكى الجميع على هذه النسبة، واعتبرها إنذارا من الناخبين، وتعبيرا منهم عن عدم الثقة في العملية الانتخابية والمؤسسات المنتخبة، وبالغ المهتمون في البحث عن الأسباب وتشريح الوضع الذي أنتجها ، وكانت الخلاصة المتفق عليها، أن الداء يكمن في انعدام المصداقية، في القانون والمنتخب والمؤسسة. لقد اعتقدت كمتتبع، أن الجميع قد اكتشف الخلل، الدولة والفاعلين، وأن الكل سينكب في اليوم الموالي على العلاج، كل في ما يخصه، فتسرع الدولة إلى التفكير في إصلاحات سياسية ودستورية عميقة، على الأقل في ما ظهر كأولوية، بتقوية مؤسسة البرلمان، وتقوية دوره التشريعي والرقابي، وتقوية الحكومة وخصوصا مؤسسة الوزير الأول، وأضعف الإيمان التطبيق الكامل لمقتضيات الدستور الحالي، في انتظار تعديلات قادمة تجعل صوت الناخب ينعكس بشكل واضح على التركيبة الحكومية والسياسة العامة، وأن تبادر الأحزاب لتمحيص صفوفها، وتحيين برامجها وأفكارها، ودمقرطة حقيقية لهياكلها وقوانينها، غير أنه مع الأسف لاشيء تم على الإطلاق. لقد عرفت السنتان الماضيتان بعث كم هائل من الرسائل السلبية للناخبين، لا يمكن إلا أن تزيد العازفين منهم تشبثا بموقفهم، والمشاركين منهم ندما وحسرة حتى قضم الأصابع، على المرات التي ذهبوا فيها للاقتراع بمختلف مستوياته، المحلية والتشريعية؛ وهاهي مجموعة من هذه الإشارات المحبطة، مما رصدته كمتتبع بسيط، وطبعا ما خفي كان أعظم : 1- حزب يحصل على أكبر عدد من الأصوات، ويأتي حزب حصل على أصوات أقل منه ب 10000 صوت، متقدما عليه في عدد المقاعد بمقعدين اثنين، مما يتنافى مع جوهر الديمقراطية التي تجعل للصوت قيمة واحدة، مما يشعر المصوت للحزب الأول بالدونية، ويتعلق الأمر بحزبي العدالة والتنمية والاستقلال. 2- مرشح يصبح نائبا عن الأمة بأقل من 2000 صوت وآخر يحصل على أكثر من ضعف هذه الأصوات ويعلن راسبا، مما يكرس الفرق في قيمة الناخب كمثل الحالة الأولى. 3- حزب يدعى للمشاركة في الحكومة، وتقدم له لائحة وزرائه من خارج صفوفه، كما وقع للحركة الشعبية، فلما رفض الأسماء المقترحة عليه، استغني عنه، واستوزر المعنيون باسم حزب آخر. 4- حزب يصرح بأن تراجعه يعتبر عقابا له من الناخبين، ومع ذلك يصر زعماؤه على المشاركة في الحكومة، ليس من أجل تنفيذ برنامج معين، وإنما استحلاء للمقعد الوزاري، حتى لو كان بدون حقيبة، والكلام هنا عن حزب كان ينسب يوما ما للقوات الشعبية. 5- وزير أول، آخر من يعلم بتشكيلة حكومته، ويتسلم لائحة وزرائه كأي غريب آخر، مع أن الدستور في فصله 24 واضح في كونه هو، وليس أي أحد غيره، من يقترح الوزراء دون أي تفريق بين وزراء سيادة من غيرهم. 6- برلمان يعرف حركات ترحال وتغيير ألوان، أكبر بكثير من انتقالات اللاعبين المحترفين بين الأندية الرياضية، حتى أصبح عاديا أن يصبح يساري اليوم يمينيا غدا، والعكس أيضا صحيح، لحد أن بعض البرلمانيين لا يرتبطون بالفرق البرلمانية إلا بزواج متعة، ويتزوجون خلال نفس الولاية التشريعية، مثنى وثلاث ورباع ، ضاربين بعرض الحائط الفصل 5 من قانون الأحزاب، الذي قيل أنه سيجتث هذه الظاهرة الخبيثة من سياستنا الغريبة. 7- حزب لم يؤسس إلا بعد الانتخابات التشريعية يصبح أكبر فريق في مجلس النواب، كما حصل مع الأصالة والمعاصرة، لنكتشف أن أحد مؤسسيه أسندت له حقيبة وزارية سلفا، ليصبح حزبا حكوميا بأثر رجعي، وبدون سابق إنذار ينتقل للمعارضة محتفظا بوزيره في الحكومة، في ثامن عجائب الدنيا السبع. 8- سيدة كنزهة الصقلي ترفض الترشح للبرلمان كثانية في لائحة حزبها الوطنية مخافة الرسوب، وتتمرد على قرار حزبها لتكافأ بحقيبة وزارية. 9- أشخاص تقدموا للانتخابات، وقال لهم ناخبو دوائرهم لا، فكان الجزاء منصب دبلوماسي يمثلون فيه المغرب برمته، بعد أن رفض جزء بسيط من هذا الشعب أن يمثلوه في البرلمان، كحال الاشتراكي بنعبد الله والاستقلالي عبد الخالق. 10- برلمان يضم في غرفتيه حوالي 600 شخص لا يمرر القوانين الأكثر أهمية، وفي أحسن الأحوال بأكثر من 100 برلماني، لتبقى الكراسي الوتيرة تحن لمن يجلس عليها، في عرض بدون ممثلين ينقل أسبوعيا مرتين مباشرة على الهواء. 11- وزير ينتخبه مناضلو حزبه كاتبا أولا للحزب، بعد وعد بالاستقالة من الحكومة،والتفرغ للحزب، يسرع للتنكر لوعده بمجرد انتخابه، بدعوى رغبته في إنهاء ورش إصلاح قطاعه، قبل أن يجد نفسه مستغنى عنه، دون أن يُرى أثرٌ لهذا الإصلاح؛ فكيف لمن تنكر لوعد بسيط داخل حزبه، أن يثق به الناخبون في وعود أهم. 12- حزب كالحركة الشعبية لا يتردد في الالتحاق بالحكومة في أول عرض قدم له، رغم هوان ما قدم له مقارنة مع ما اقترح عليه في البداية، دون أن يستحي أن يصبح جزءا في حكومة، قال فيها العنصر ما لم يقله مالك في الخمر، ولكن لذة الاستوزار لا تقاوم. 13- حزب لازال مولودا فتيا، يحصد معظم مقاعد المجالس المحلية، وهو أمر لا يمكن أن يتحقق عقلا، لو كانت اللعبة نزيهة، وما لم يكن هناك تحيز واضح للحكم، مهما بلغت عبقرية المدرب ومهارة اللاعبين. 14- ناخبون كبار يباعون ويشترون بالجملة والتقسيط، في منظر لا يختلف كثيرا عن أسواق عيد الأضحى. 15- مرشح لرئاسة مجلس المستشارين من المعارضة، وهي أقلية، يصبح رئيسا للمجلس، وبفضل أصوات أحزاب الأغلبية، رغم أن هناك مرشحا منها. 16- شخص آخر تسقطه الجماهير، فيتجند للدفاع عن ضرورة انسحاب حزبه من الحكومة وتشكيل جبهة معارضة قوية مع الإسلاميين تعيد لحزبه مصداقيته، قبل أن ينسى كل ذلك ويصبح هو شخصيا وزيرا في الحكومة، ويبتلع طبعا لسانه، ويدهس أيضا ما تبقى من مصداقية مزعومة. 17- رئيس حزب يفقد منصبه الحزبي، في حركة ظاهرها تصحيحي داخلي، وباطنها انقلابي عقابي، على تقرب متوهم من فاعل سياسي شرعي، وعلى زلة لسان قصدت الرجل القوي، لم ينفعه إنكاره لها، واعتذاراته عليها. 18- وزراء باسم حزب، دون أن يعرف لهم سابق عهد به، وبدون حياء يتصدرون المشهد كزعماء لما يسمى بالحركة التصحيحية داخل الحزب. فهل بعد كل هذا، ناهيك عن ما يعرفه الناخبون من تنكر منتخبيهم لهم، بمجرد ظفرهم بالمقاعد، حيث يسرعون بتغيير مساكنهم وأرقام هواتفهم، وتغيير قناعتهم، واغتناء بعضهم في رمشة عين، دون أن يقال لهم من أين لكم هذا، ودون أن يحاسبهم أحد بعد انتهاء ولاياتهم، هل بعد كل هذا ستعود الثقة للناخب، ونرى الإقبال على الحياة السياسية، والازدحام على مكاتب التصويت، شخصيا لا أعتقد إطلاقا. [email protected] mailto:[email protected]