استوقفتني ابتسامته .. ربّما غرّه بريق حذائي الأسود الذي غنمته من صاحب لي , لم تعد تريحني ابتسامة القوم هنا, لا تعدو كونها قنطرة يعبرونها للوصول إلى مصالحهم . لا أظنّه من المخابرات , من يدري !! فقد سمعتُ أنّ رأس مخابرات دمشق كان يبيع الجرائد في كشك من خشب على شارع الجامعات بالبرامكة . أهلا بالباشا .. نوّرت المقهى . تَقدَّمَنِي خطوات .. نحافةُ جسمٍ حدَّ المرض, لا يعلمُ النّاظر إليه أمُقبِلٌ في سيره أم مدبر . تفضّل .. هذا مقعد أحتفظ به للمميّزين فقط . وما المميّز فيَّ سوى أنّي أشاركُه نحافتَه. هل تتوقّعُ حضورَ إحداهنّ ؟؟ لا , ولا أحدهم . هذا أحسنُ لكَ وأسلم , سَلْنِي أنا , فإنّهنّ يُنكرن العِشرة ولا يحفظن الجميل. ملامحُكَ تدلّ على أنّك لستَ ابنَ البلد. أنا وافد من بلاد بعيدة . ستعودُ إليكم بلادُكُم, وسيُقامُ فيها العدلُ ويعمُّ الأمان . الأمان .. العدل ؟؟!! قال مسترسلا, ألستَ من سوريا ؟ مررتُ من هذا الاستجواب الرّوتينيّ مرّات عديدة .. لكنّي اليوم أسْتصِيغُه. أنا مغربي , وكان لي في دمشق مقام. أطرقتُ برهة .. مرّت صورة بشّار عبر الذّاكرة , مزّقتها بشراسة. زمن الأخطاء ؟ عنوان جميل . محمد شكري ؟؟ إلى أيّ محافظة مصريّة ينتمي ؟؟ مغربيّ ريفيّ . تركني وانصرف إلى زبونٍ آخر, يطلبُ فحما لِشيشَتِهِ يُحيِي به نفسا خامدا.. تجاهلته بدوري, وأضفته إلى قائمة من يرون أنّ كلّ وافد فاسد, وأنّ ابن البلد أولى بالولاء ممّن تطفّل بفكر مستورد , وانصرفتُ أقرأ الصفحة .. ألحقها بأختها . عاد بعد حين . جرّ كرسيّا .. طرح عظامه عليه . وأسند ظهره للفراغ.. اه مين ؟؟ والكتاب بيحكي عن إيه ؟؟ أديب مغربي يسرد في الكتاب جزءا من سيرته الذّاتية .. معلش .. نسيت أن أسألكَ .. ماذا تريدُ أن تشرب ؟ شاي أبيض لو تكرّمت ( شاي بالحليب ) انصرف يسابق الزّمن .. عاد على عجل . ارتمى على الكرسيّ مرّة أخرى . فشرعتُ أقصّ عليه نبأ الكاتب , وأحوال عيشه , ممّا جادت به عليّ الذّاكرة ممّا علق بها من قراءتي لثلاثيّته ( من أجل الخبز وحده) هدوء مطبق يخيّم عليه .. وشرود مكسوّ بالحيرة والعجب .. بيد أنّ بلل عينيه واحمرارهما أثارا في النفس فضولها . أتممت ما جادت به الذّاكرة .. وسألتُه عن رأيه فيما قصصت . ابتسمت عيناه .. سحب من فضاء المقهى من الهواء الملوث ما يكفي صدره المهتري .. ثمّ نفخه بشدّة , فخيّل إليّ لوهلة أنّه سيلفظ جمرا .. وقد كان . أنا من محافظة الملوفيّة .. ولي بالكاتب صلة وثيقة . صلتي به أنّ الفقر المذلّ أخرجني وأمّي من قريتنا قاصدين القاهرة .. وأنا اليتيم ابن الثكلى . نزلنا بها كما ينزل الأجرب .. بعيدا في أحياء الصّفيح . عشنا زمنا نقتات على القمامة نقاسم الجنّ والكلاب غذاءها. نداء زبون قطع السّرد .. فرصتي لأتناول كوب الماء .. بلّلتُ ريقي . عاد بحد حين ليقول لي : مضى من عمري ما يزيد على السّتين .. أمضيتها يا بنيّ أصارع الفقر والذّلّ .. أنشد الكفاف فلا أبلغه, وها هي ذي الحال كما ترى . ولقد كان يصعب عليّ أن أجهر للنّاس بقصّتي كي لا أعكّر عليهم هناءهم ورغدهم . وشفقتي على نفسي أنّي أخرج من هذه الدّار صفرا .. لا مالا جنيت ولا دارا عمّرت .. وأمضي تاركا أبنائي عالة يلعنوني دهرا . فلا الدّار الأولى عشتُ منعّما ولا للأخرى ضامنا .. وتنهّد طويل ثمّ قال : لكنّي اليوم جدّ فرح .. لأنّي ما كنتُ أعلمُ أنّ هناكَ على ظهر البسيطة من سقته الدّنيا مرّ حنظلها .. فتنكّر له بعد تنكّرها له .. وفضح صنيعها به. بلّغ سلامي للكاتب .. إذا أنت زرت قبره يوما .. وأخبره أنّ لكَ إخوة لم يبلغوا من البيان ما بلغت .. لكنّهم توسّدوا الأرض التي توسّدتها .. التحفوا السّماء .. أكلوا الخبز الحافي بلذّة وشراهة . عاشوا أمواتا .. وماتوا طمعا في الحياة . ( تمّت )