عادة اقتناء الصحف تلازمني، مع أني توقفت منذ زمن عن قراءتها بتفحص أو حماس وجدية. أكتفي بإلقاء نظرة على العناوين، وقد أطالع الأسطر الأولى لبعض المواد، أوأقرأ الأعمدة التي يعجبني قلم كتابها وأتابعها منذ سنوات، لا أكثر. مقابل عزوفي عن قراءة الجرائد ، صرت مدمنا على حل الكلمات المتقاطعة. أجد في حلها متعة لا تضاهى. مع الوقت وتراكم الخبرة صرت أبحث عن أكثرها صعوبة، بمرادفات نادرة ومعاني عميقة، تلك التي يتطلب ملأ خاناتها مخيلة واسعة ونباهة وحضور البديهة ومعارف متنوعة، وفي حالات كثيرة تتم الاستعانة بالقواميس والمعاجم للعثور على الكلمة الملائمة والسليمة. وقد تطور شغفي بالكلمات المتقاطعة حتى صرت "أؤلف" بنفسي شبكات أجتهد أن تستجيب لمختلف الاهتمامات وتحتوي على أكبر قدر من المعلومات الصحيحة والمفيدة . كنت أؤلفها وأوزعها على أصدقائي ومعارفي من زبناء المقهى الذي أرتاده وأقضي به معظم الوقت، فصرت مرجعا في حل الشبكات المستعصية ، بل وصرت أشارك في في مسابقات لحل شبكات كاملة، تنظمها مجلات متخصصة. وقد أسعفني الحظ مرتين وفزت بمبلغ مالي غطى جزءا من تكاليف المطبوعات التي أقتنيها والسجائر التي أدخنها ساعات حل الشبكات. وقد صار لي أصدقاء نتقاسم الاهتمام بهذا الشغف وصرنا نتشارك ونتبادل الشبكات والمعلومات حول أصنافها ومستوياتها وحيلها وخفاياها...الخ، وانتهى الأمر أن أسسنا " نادي الخانات المتقاطعة"، نادي سرعان ما التف حوله مئات المولعين بهذه الهواية الطريفة والمفيدة. لم أكن أعرف من قبل أن أغلب مقتني الجرائد واولئك الذين يقلبون الصفحات في المقاهي إنما غايتهم الأولى هي الشبكات! كنت في ذلك الصباح الخريفي الذي لن أنساه أشغل مكاني المعتاد في الزاوية النائية من المقهى، وعلى الطاولة المحاذية جلس اثنان من زملائي في النادي. كان الصمت مخيما، فكل واحد منا منكب على شبكة كلمات أمامه على الطاولة، عندما دخل زميل لنا متعب وشاحب الوجه يمسك بعصبية مطبوعة بين يديه، ودون سلام ولا مقدمات فتح المطبوعة أمامنا على الصفحة حيث كانت شبكة كلمات متقاطعة كبيرة تحتل صفحتين . أغلب الخانات مليئة، إلا زاوية في الأعلى كان واضحا أن كلمات كاملة تلزم لملأ خاناتها الفارغة. فوق تلك الزاوية نصف الفارغة وضع صديقنا سبَابته مشيرا إلى ست مربعات أفقية أحاطها بخط أحمر ليبرزها داخل الشبكة ، قم قال متوترا : هنا العقبة التي وقف عندها حمار الشيخ . ليلة كاملة سهرتها ولم أفلح في حزر الكلمة المطلوبة، وبسبب ذلك تعثرت في ملأ الخانات العمودية التي تتقاطع معها. سارعنا بتلقائية إلى حيث اصطفت الأسئلة، فوجدنا السؤال عاديا لا يفترض أن يمثل عقبة أمام حمار شيخ له باع في فك طلاسم شبكات أعقد وأسئلة أصعب مثل صديقنا. المطلوب كان : مدينة إسبانية. تفحصنا الشبكة ، كان المطلوب إذن مدينة إسبانية من ستة أحرف. وقبل أن نغوص في التفكير سارع صديقنا هاتفا : حتى لا نضيع الوقت أقول لكم أن المدينة الوحيدة القريبة من الجواب الملائم هي مدينة طليطلة، ولكن نصف أحرفها فقط ينسجم مع الكلمات العمودية المتقاطعة معها، وهي الحرف الثاني (اللام) والثالث (الياء) والأخير (التاء المربوطة) ، أما النصف الآخر من الأحرف فغير ملائم إطلاقا لملأ الخانات المتبقية. .. كان تحديا بالنسبة لنا جميعا. فرشنا خريطة إسبانيا فوق الطاولة، ثم أخرجنا الموسوعة الجغرافية وتطوع واحد من الشباب فأتانا بموسوعة حول تاريخ وتطور المدن في إسبانيا، فقد يكون المقصود أسماء قديمة تغيرت ونسيها الناس أو لعله إسم مدينة اختفت واندثرت ... فتحنا "اللاب توب" أيضا للاستنجاد بمحركات البحث.. كان الفجر قد لاح، ولم نكن بعد قد حزرنا إسم المدينة الإسبانية الملائم، بحثنا وحاولنا واستنجدنا بكل المعارف بلا جدوى، استعصى واستحال علينا ملأ الخانات الجامدة الباردة المستفزة بفراغها. تعبنا وتسرب إلينا إحساس بالقهر وغادرنا المقهى وكل منا يحمل في صدره غلا وإحساسا بالهزيمة ، ولكن أيا منا لم يكن ليشير إلى ذلك جهرا، حتى لا يتحول إلى هزيمة رسمية معلنة...كان يخالجنا شعور أن في الأمر خطأ ما أو لعلها مزحة سمجة من أحد الثقلاء.. مرَ شهر، لم أفتح خلاله أية مطبوعة، اكتفيت بالتلفزيون مصدرا لأهم عناوين الأخبار. نادي "الخانات المتقاطعة" انفرط عقده عمليا، دون إعلان رسمي، فقد اعتكف كل من تجرَع هزيمة تلك الليلة، ولم نعاود الاتصال ببعضنا، كأنما نخاف رؤية الانكسار في أعين بعضنا . كنت قد رميت في أحد الأدراج الملف الورقي الذي يحمل الشبكة وكل مسودات الحلول التي تداولناها قبل شهر ، وحاولت أن أجد لنفسي فضاءات أخرى تنسيني شغفي الأول.. الواقع، أني ورغم محاولاتي الانشغال باهتمامات أخرى، كنت أعاني من رغبة جامحة في العودة إلى عالم الكلمات المتقاطعة الفاتن. كلما وضعت أمامك شبكة جديدة نظيفة ، فكأنما تشق العباب وتغوص في المحيط بحثا عن الصدف النادرة ومخلفات سفن القراصنة والحيوات الغامضة الساحرة. كل شبكة هي جزيرة مجهولة تجد فيها نفسك وحيدا وعليك كشف أسرارها، سرا سرا، وأنت تخترق تفاصيلها بأناة وصبر وأمل ورهبة، متنقلا من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب، حتى تكون فاتحها ثم ملكها . لكن آخر جزيرة استعصت عليك ورمت بك إلى البحر قبل أن تلمَ بكل ضفافها... كنت ليلتها فريسة لهذه المشاعر المتلاطمة في نفسي وأنا مستلق في سريري أتابع ببلاهة الصور المتتالية في الشاشة الصغيرة، حتى استرعى انتباهي مشهد حشد من الأطفال بزي المدارس، أمام السفارة الإسبانية بالرباط، يهتفون ويرفعون لافتات . لم أتبين بم كانوا يهتفون، ولكني رأيت بوضوح اللافتات التي كانوا يرفعون والشعارات المكتوبة عليها بالأسود والأحمر وبالبنط العريض جدا. فاستطعت أن أقرأ على الخصوص : "سبتة مغربية مليلية مغربية" و " زحفا زحفا حتى سبتة زحفا زحفا حتى مليلية" و " مدريد مُغتصِبة ومليلية المُغتصَبة" ...لم أشعر متى وجدت نفسي أردد بصوت متلعثم : مليلية مليلية مليلية...ثم قفزت إلى الدرج وسحبت الملف الورقي ، فتحته وتناولت بأيد مرتعشة وأنفاس متقطعة الشبكة التي استعصت علينا والسؤال عن إسم المدينة الإسبانية الذي لم نحزره . تمنيت لحظتها لو أني لم أهتم بالبحث عن حل للغز، فالمدينة الإسبانية المقصودة في سؤال الشبكة بالمطبوعة الوطنية لم تكن سوى مليلية...مليلية المغربية!!!