الحمد لله الذي أنزل كتابه صراطا مستقيما ومنهاجا قويما ، من اتبعه سار على السبيل ، ومن خالفه فقد الدليل ، أنزل الكتب ، وأرسل الرسل ، ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور، جعل اتباعه تحقيقا لمصلحة الدارين ، ومخالفته فقدانا وخسرانا لهما ، وأكد لهم أن اتباع الحق هو الصراط المستقيم ، وأن اتباع الشيطان والهوى مخالف لقصده من الخلق ومورد للهلاك ، فمن اتبع شرعه وخالف هواه فقد حصًل مقصود الشارع من شرعه ، ومن أعرض عنه ، فسيحشره أعمى ، فسبحانه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ، أمرنا بتحرير النية والقصد إلى مرضاته ، وأن نجعل قصدنا تابعا لقصده ، وأن نجعل حياتنا كلها مبنية على قوله تعالى قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) 1 - سورة الأنعام الآيات 162= 163 والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وأصحابه ، وأزواجه ، وذريته ، ومن سار على دربه من الأئمة والعلماء والصالحين إلى يوم الدين . لم يعد يخفى على ذي عقل متابع لما يجري عالميا أن الأسرة باتت تعاني من إشكالات نفسية واجتماعية واقتصادية ، واستحضارا منا للخطر الداهم المتجسد في العولمة الاقتصادية والثقافية والاجتماعية ، التي تهدف أساسا إلى محو معالم الأسرة المسلمة. والأكثر من ذلك إنتاج مجتمع ممسوخ الهوية لا أسرة فيه . إدراكا منهم لمكانة الأسرة في بناء المجتمع الإسلامي ، لذلك لم يأل أصحابه جهدا في تفكيك الأسرة ، وبالتالي انهيار المجتمع وانغماسه في مستنقع الرذيلة ، وشتان بين شاطئ الماء الطهور، والمستنقعات النجسة. وآثار ذلك واضحة تثقل كاهل الدول ، والعلماء ، والمثقفين والهيآت السياسية والمدنية ، في البحث عن حلول لانتشار المحذورات والانحرافات الخُلقية ، وارتفاع نسبة الإجرام في صفوف الأطفال . والسجون أصدق معبر على ما نقول ، إذ عجت بالأحداث دون السادسة عشرة من العمر، وهذا ناتج عن تشرد الأطفال وزيادة المشاكل الاجتماعية والنفسية لديهم ، والسبب الرئيس هو تفكك الأسرة. وبدل أن تهتم الدول ومراكز البحث العلمي ، وهيآت المجتمع المدني في المجتمعات الإسلامية ، بالتفكير في برامج من أجل مستقبل أفضل ، تنشغل بذاتها في مشاكل صُدرت إليها ، أو استوردتها عن طريق عرابي المجتمع الغربي ، الناطقين بلسان عربي ، أبناء جلدتنا ، وتحت شتى المسميات ، وبشتى الطرق إغراء وتحذيرا ، لفرض نموذج عالمي واحد ووحيد ، وإلغاء ما عداه من الخصوصيات الثقافية والثوابت المجتمعية ، ومحولات حثيثة لضرب الأسرة المسلمة في ثوابثها الشرعية باسم حرية التفكير، وأحيانا باسم الدفاع عن المرأة . إن قضية الأسرة في بلاد الإسلام ، شرقا وغربا ، شغلت الرأي العام ورجال الفكر سواء بقصد معرفة مشكلاتها ، وتشخيص عيوبها وإيجاد طرق إصلاحها ، أو بقصد تشتيت الأسرة ، وهدم المجتمع من خلال الإجهاز على نواته الأساسية ، التي نعتقد أنها إن حافظت على تكوينها وسيرها على منهج الإسلام ، وإذا أسس بنيانها على كتاب الله وسنة رسوله 2 ، ستكون حصنا حصينا لأفرادها وللمجتمع ككل وإلا فالعكس ،لأنه بصلاح الأسرة يصلح المجتمع وتصلح الأمة ، وبفسادها يفسد المجتمع وتفسد الأمة . فثمرة الأسرة إما أن تكون طيبة فيعم طيبها ، وإما خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار. قد تختلف زوايا النظر إلى أي موضوع ، ولعل موضوع الأسرة من أكثر المواضيع التي تتناول عند المفكرين باختلاف مشاربهم ، نظرا لأهميتها وخطورتها في آن واحد ، ولهذا سأتناول موضوع الأسرة من خلال ما تغي الشارع من تكوينها ، كحفظ النسل ، والنسب ، والدين ، وعدم الإضرار بالمرأة ، والبناء المالي للأسرة ، و تنظيم العلاقة بين الجنسين ، والسكن والمودة والرحمة ، و الاستقرار .... وغيرها من المقاصد . مع استحضار الحديث عن المطالب الغربية العلمانية التي تسعى عن طريق لجنة المرأة في الأممالمتحدة الى تمرير قرارات غربية ، واستنبات أفكار غريبة عن المجتمع الإسلامي ، تضربه في ثوابته الشرعية ومسلماته الدينية ، و قطعياته في الثبوت و الدلالة ، التي لا تحتمل تأويلا أو تفسيرا ، كالحديث عن التساوي في الإرث مثلا ، والحديث عن إلغاء استئذان الزوج في السفر والخروج والعمل ، وسحب سلطة التطليق من يد الزوج وجعلها في يد القاضي ، وإعطاء الحق للزوجة أن تشتكي بزوجها بتهمة الاغتصاب أو التحرش ، بل والمتابعة الجنائية للزوج في ذلك.....وغيرها من الأفكار الغريبة عن المجتمع المسلم . إن أهمية الحديث عن الأسرة في بنائها بالمنهج المقاصدي ، تبرز أهميته في خضم الصراع الحضاري والثقافي الذي تعشيه الأمة الإسلامية سواء من أبناء جلدتها ، أو مع الأمم الأخرى ، التي صوبت سهمها الفكري والسياسي ، ودعمها المالي والفكري لتفكيك الأسرة المسلمة ببرامج علمية ، تسهر عليها بما تملكه من عناصر القوة التي مكنتها من فرض هذه البرامج ، وتهيئ الشروط التي تيسر عملية الاختراق الثقافي للشعوب الإسلامية ،وبالتنصيص على ذلك في دساتير وقوانين الدول العربية والإسلامية ، والتدخل العسكري والإكراه الإقتصادي للشعوب ، ودعم الانقلابات العسكرية على الشرعية ، والتمردات داخل المجتمع الإسلامي ، إذا كانت خادمة لمصالحها ، أو محافظة عليها ، أو العكس ، وتقوم بذلك بما تملكه من قدرات مالية تتحكم بها في خيرات هذه الشعوب ، أو تشتري قياداتها السياسية والفكرية والجمعوية لتمرر من خلالها مشاريعها الفكرية. وتكمن أهمية الموضوع أيضا ، في كون الحديث عن الأسرة برؤية مقاصدية يستكنه حِكم الشارع في شرعه ، لأن "من فهم حِكمة الشارع كان هو الفقيه حقا " . ولأن كتاب الله وسنة رسول الله 3 « مملوءان من تعليل الأحكام بالحكم والمصالح ، وتعليل الخلق بهما ، والتنبيه على وجوه الحِكم التي لأجلها شَرع تلك الأحكام ، ولأجلها خلق تلك الأعيان »4 . لذلك تعتبر الأسرة جزءا من التشريع الذي تضمن من الحكم ما بيًن العلماء الأجلاء بعضه في ثنايا كتبهم . الهوامش: 2 - لعل خطوة الدستور المغربي 2011 تعتبر خطوة إيجابية في موضوع الأسرة في الفصل 32 حيث يقول { الأسرة القائمة على علاقة الزواج الشرعي هي الخلية الأساسية للمجتمع... يحدث مجلس استشاري للأسرة والطفولة } ، وهي خطوة تحتاج إتماما من أهل العلم والتخصص للحفاظ على الأسرة من الانحراف المؤطر بالقانون . لأن القوانين وأولها دساتير الدول الإسلامية وسيلته إلى مقصود ، فإما أن يكون موافقا للشرع ، وإما أن يكون غير ذلك لأنها إذا لم تتضمن نصوصا واضحة بينة تحمي وتسيًج الأسرة بقوانين تحفظ كيانها ، فلن يؤدي ما ذكرنا مفعوله ، لأن واقع حال الأمة ، وتطورها المدني جعلها تتحاكم إلى شرائع مبنية على دساتير وضعية نبتت في أرض غريبة عن المجتمعات الإسلامية ، وعدم التنصيص على تشكيل الأسرة وحمايتها بنصوص تحفظ كيانها واستقرارها وتمتن روابطها سيعقد مهمة القائمين على تنزيل الدستور ، ونعتقد أن الإشارة إلى ذلك في الدستور الجديد ربما يزيد من آليات بناء وحماية الأسرة المسلمة في المغرب ، وان كان هذا المجلس لم ير النور بعد ، وقد مرت أكثر من سنتين على التصويت على الدستور . 3 - إقامة الدليل على بطلان نكاح التحليل لابن تيمية { بتصرف} 1/161 ( مطبوع ضمن الفتاوى الكبرى المجلد الثالث) . دراسة وتحقيق حسنين محمد مخلوف، الناشر دار المعرفة بيروتلبنان . 4- مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة ص 337 لابن قيم الجوزية (المتوفى: 751ه). مكتبة الصحابة الإمارات الشارقة، الطبعة الثانية 1425/2004 - الدكتور عبد العالي الخالدي أستاذ بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين مكناس