على رغم أنه يبدو ظاهريا مجرد فيلم عن مراهقتين، إحداهما مغربية والثانية هولندية، ورحلة بحث كل منهما عن هويتها وذاتها، فإن فيلم "دنيا وديزي" ( Dunya & Desie )يحمل في الوقت ذاته وجهة نظر أوروبية/هولندية عن الثقافة العربية/الإسلامية، من خلال بطلة الفيلم مغربية الأصل، وهي الممثلة الهولندية مريم حسوني، وعائلتها المغربية التي تقيم في أمستردام. الفيلم كان في الأساس مسلسلا عرض لسنوات عدة في التلفزيون الهولندي، وتم تحويله فيما بعد لهذا الفيلم.. وفي البداية نتعرف شخصياته من خلال التعليق الصوتي الداخلي لشخصية دنيا، الفتاة المغربية التي تعيش مع عائلتها المهاجرة منذ سنوات طويلة إلى هولندا. هذا الحديث الداخلي يستمر طوال الأحداث.. ويتنوع ما بين رواية ما يحدث أو التعليق عليه أو نقل وجهة نظر شخصية مريم التي تبدو أكثر عمقا وعقلانية من شخصية ديزي صديقتها ورفيقة عمرها الهولندية. وبرغم اختلاف الخلفية الثقافية والاجتماعية لكل منهما، فإن مريم تتعجب من استمرار هذه العلاقة وعمقها.. حتى إنها تعتبرها جزءا من أوتوماتيكية الحياة الإنسانية من وجهة نظرها.. أي قدرية الحياة.. فمريم تعتبر أن كلّ شيء في الحياة قدري، ويسير بشكل أوتوماتيكي، وأنه ليس هناك تدخل من الإنسان "يدويا" فيما يحدث له.. بينما ديزي تعيش الحياة بعشوائية تكاد تقترب من الفوضوية.. فهي تتعرف شبانا كثيرين وتضاجعهم.. بل إن أول مشكلة حقيقية تواجه الصديقتين هي أن ديزي تكتشف أنها حامل من إحدى العلاقات الجنسية في حياتها، وبالتالي يتولد لديها شعور رهيب بأهمية أن تختار بين أن تحتفظ بالطفل أو تتخلص منه.. في دولة ليست لديها قوانين تمنع الإجهاض! العريس المنتظر منذ المشاهد الأولى في الفيلم، يدخل بنا السيناريو في مقارنة مستمرة بين دنيا وديزي.. وهي مقارنة تأتي مباشرة جدًّا في بعض الأحيان.. فدنيا من أسرة مسلمة محافظة، لكنها تعاني من ازدواجية في الهوية، نتيجة أنها تعيش في مجتمع مفتوح لكل شيء من الجنس للمخدرات. بل إن أخاها الشاب الذي يحاول أن يمارس عليها دور الرجل.. يقف عاجزا أمام منعها الذهاب إلى إحدى صالات الديسكو، عندما تهدده دنيا بأن تفضحه أمام الأسرة بأنه يضاجع فتيات ويشرب مخدرات. فالشاب هو الآخر مثل أخته يعاني من أزمة ازدواجية المعايير الأخلاقية والاجتماعية.. هذه الازدواجية تبدو المؤرق الأساس لشخصية دنيا.. وربما لهذا جعلها السيناريو تتحدث بشكل داخلي معنا أو مع نفسها.. أما ديزي، فهي أقل عقلا من دنيا، وتبدو من خلال تصرفاتها الهستيرية الهوجاء كيانا غير مفكر يعيش الحياة بانفعالية، ويتخذ قرارات متسرعة دون التفكير فيها. وبينما تعاني دنيا من تزمت أسرتها –من وجهة نظرها- الذي يتجسد في ظهور عريس منتظر في الأفق.. هو ابن عمها الذي ينتظرها في المغرب.. تعاني ديزي من مشكلة الحمل سفاحا؛ لأنها هي نفسها كانت نتيجة حمل سفاح، ونشأت في كنف أم عزباء ربتها بمفردها، بعد أن هجرها والدها. وهنا يتوقف السيناريو في منتصف الفيلم عند سؤال مهم يخص هوية كلا الفتاتين.. فديزي تريد أن تتعرف والدها الحقيقي لكي تسأله سؤالا واحدا هو: هل كان يريدها أم كان يفضل أن تجهضها أمها مثلما تريد هي إجهاض نفسها؟ أما دنيا، فتجد نفسها مضطرة للسفر إلى المغرب لكي تتعرف العريس المنتظر وتكتشف حقيقة جذورها المغربية الإسلامية! الفساد.. والعرافات تاليًا ينتقل بنا الفيلم إلى المغرب، من خلال رحلة أسرة مريم إلى بيتهم هناك.. وتلحق بهم ديزي بعد أن تصارحها أمها بأن أباها الحقيقي مهاجر هولندي يعمل في المغرب.. وهنا بالطبع مفارقة واضحة، فالمغاربة مهاجرون إلى هولندا والهولنديون مهاجرون إلى المغرب! وبمجرد أن تصل ديزي إلى منزل دنيا، يتحول الفيلم إلى وجهة نظر تتبنى الدراما السياحية.. أي الدراما المكتوبة بعين سائح لبلد عربي أو شرقي، وليس من خلال معايشة حقيقية لواقع البلد. فديزي تثير لغطا كبيرا بملابسها الساخنة ومايوهاتها البكينية على الشاطئ، ما يسبب كثيرا من الحرج لأهل دنيا.. وعندما تغادر ديزي إلى كازبلانكا تلحق بها دنيا هربا من فكرة العريس الذي وجدته مجرد طفل دميم لم يملأ عينيها مثلما امتلأت بمشاعر تجاه سامر العامل المغربي الشاب الذي يقوم بطلاء منزلهم. وتبدأ رحلة الفتاتين؛ إحداهما بحثا عن والدها، والثانية بحثا عن معنى لحياتها وذاتها.. وفي كازبلانكا يتعرضان للسرقة كسائحتين من خلال اختطاف شابين لحقائبهما، بعد أن أوهماهما أنهما يمكن أن يوصلاهما إلى مراكش. وعندما تتقدمان ببلاغ للبوليس، يكتشفان أن اللوم يقع عليهما؛ لأن هناك قانونا يمنع طلب التوصيل من الأغراب، وذلك للحدّ من الجرائم.. بل وتقع عليهم غرامة 400 درهم.. ما يثير دهشتهما وغيظهما، فهم الضحية وهم الملومون! بل إن الضابط المغربي يقوم بطلب رشوة 100 درهم منهما لكي يتغاضى عن الأمر ويتركهما.. وفي مراكش يجلسان إلى إحدى العرافات، التي تبلغهما بكثير عن ماضيهما وتلمح لهما عن بعض ملامح مستقبلهما، وأجواء العرافات أجواء مثيرة بالنسبة للمتفرج الأوروبي، لما يرتبط بالشرق من حديث عن السحر والأمور الغيبية. هنا تتجلى النظرة الأوروبية السياحية للواقع المغربي من خلال الفيلم.. بل يمكن أن نقول إنها نظرة غير منصفة؛ لأنها قامت بتسطيح قضية الازدواجية الثقافية أو هموم الهوية التي تعاني منها كلا الفتاتين. الحياة ليست أوتوماتكية في النهاية عندما تصل ديزي إلى والدها، تكتشف أن سؤالها لم يكن صحيحا بالمرة، فليس المهم من هم أهلك أو ما إذا كانوا أنجبوك برغبتهم أو غصبا عنهم، لكن المهم هو من أنت.. وماذا يمكن أن تقدم للحياة؟ بل، هل تريد أن تحتفظ بما لديك أم لا؟ إن ديزي تقرر أن تحتفظ بالتوأم الذي اكتشفت أنها حامل به، بغض النظر عن موقف أبويها منها عندما كانت مجرد جنين.. أما دنيا فتكتشف أنها سعيدة بأصولها المغربية، وأنها وجدت الحب الحقيقي في المغرب، وذلك عندما شعرت به تجاه سامر، وأن المسألة ليست مجرد عناد لوالديها أو رغبة في مناوأة أفكارهم.. ولكنه ذلك الشعور الذي ينتاب المرء ويشعره أنه ينتمي لشخص ما، وأن هذا الشخص ينتمي إليه. فالحياة في النهاية ليست أوتوماتيكية، لكن الإنسان يملك الحق في الاختيار؛ لأنه يملك إرادة الفعل.. وهكذا تكشف لنا دنيا -من خلال حوارها الداخلي مع نفسها في آخر مشاهد الفيلم- أن واحدة من التفاصيل يمكن أن تغير من مصير الإنسان بأكمله. وبرغم ما في الفيلم من رؤية أوروبية، سواء للواقع المغربي أو لطبيعة الأسرة المغربية، فإنه استطاع أن يصوغ عملا ممتعا وشائقا.. يحتوي على قدر من الطرافة والمواقف المضحكة.. برغم أن بعضها كان سخرية من بعض التقاليد المغربية أو العربية؛ مثل زواج الأقارب أو الزواج في سن صغيرة أو السخرية من محافظة الأسرة المغربية في مقابل تحرر الفتاة الهولندية، بينما كانت السخرية من الطرف الهولندي المتمثل في أسرة ديزي، من خلال شخصية أمها وزوج أمها شبه المخبول.. ولكن بالطبع هناك فارق بين أن تسخر من شخص وأن تسخر من ثقافة بأكملها. mbc.net