كالعادة رن جرس باب المنزل ولكنها لم تكن كالعادة. فعند فتح الباب كان وراءها رجلين وامرأة. بابتسامتهم استقبلوني. لم تتمكن شفتاي من النطق بكلمة لكون عيناي أخذتا البادرة وركزتا، مليئتين لا أدري هل بالحذر أم بالاستغراب أم بالتساؤل أم بهذه الأمور كلها... لا أدري، على شخص واحد ربما لكونه كان يتقدم مرافقيه أو ربما لكونه كان أكثر بشاشة. كان هاتفه النقال بيده اليمنى و محفظة بيده اليسرى. حينها كانت ابنتي وإبني واقفين بجانبي يحملقان بعينيهما البريئتين تارة إلي وتارة إلى هؤلاء الغرباء. ولم أشعر بشيء أنذاك سوى بيد ابنتي التي تمسكت بي بشدة لأجدها قد تسلقت جسدي ولفت ذراعيها الرقيقتين حول عنقي لتكون هي، بعد أن اطمأنت وجسدها ملتصق بي، من سيكسر الصمت والاستغراب بمسائلتي عن من يكونوا هؤلاء... أنا ممثل الحي وهؤلاء مساعدي رد عليها وعلي الرجل الذي كان يتقدم الاثنين الآخرين. فهرول إبني إلى داخل المنزل مناديا على أمه ناقلا إليها الخبر- الحدث. سمعه الرجل ينادي على أمه فقال هذا جيد لكوننا سنتمكن من الإنصات والتحاور حول حاجيات ومتطلبات كل أفراد الأسرة كما فعلنا مع جيرانكم. استأذنني بالدخول، فطلبت منه أن يدلي لي ببطاقة تثبت فعليا كونه ممثل الحي... فرد علي مبتسما، هذا أمر طبيعي - موافيا إياي ببطاقته الشخصية - لكون الأسر لم تتعود من قبل على مثل هذه الزيارات. ألا تتذكرني خلال الحملة الانتخابية؟ لا، ولكن كانت حينها تلقى تحت باب المنزل بعدة أوراق حاملة لعدة صور من دون أي لقاء مباشر مع أصحاب الصور. فتشابك الأمر علينا. علاوة على هذا، كانت هناك أوراق لا صورة عليها ولا برنامج بل لا تتضمن سوى رمزا عليه علامة X ويد تمسك بقلم... وبحزم وصرامة قال لنا ممثل الحي انسوا كل ما جرى خلال الحملة الانتخابية لأنه سيعاد النظر في تدبيرها وتنظيمها بجدية وثقوا بي أن ذاك الزمن وتلك الممارسات قد ولت وحل مكانها زمن آخر. إنه زمن التقرب من المواطن والإنصات لمعاناته ومتطلباته والعمل على إشراكه في معالجتها. فهل لنا أن ندخل لنجلس ونتحاور بخصوص أحوالكم في راحة وطمأنينة عوض المكوث واقفين بباب المنزل. استسمح يا سيدي، لقد أخذنا الحديث ونسيت أن أدعوكم لدخول المنزل ذلك أن هذه الزيارات غير مألوفة لدينا. ج: إننا نعمل على تغيير العمل السياسي في المغرب انطلاقا من الحي والدوار والقبيلة ليشمل المجتمع كله. س: هذا ما يقال. ولكن كيف؟ ج: إن الأمر جد هين إذ اننا سنعمل على بناء برنامج عملنا انطلاقا من الحاجيات المعبر عنها من طرف المواطن. فهذا الأخير سيكون في نفس الوقت فاعلا ومشاركا ومتتبعا ومحاسبا لبرنامج تفعيل متطلباته. إذ اننا سنقوم بجرد الحاجيات الآنية لساكني الحي وسنقوم بعقد اجتماع حول جدولة هذه الأولويات وفقا للموارد المالية والبشرية المتوفرة لدينا. س: أعتقد أن ما تقوله يا سيدي يذكرني بمصطلح يتردد على أفواه الناس في الشارع ويمكن تلخيصه في سياسة القرب. فهل هذا ما تقصده يا سيدي؟ ج: بالفعل، إن ما نحن بصدد القيام به هو تجسيد وتفعيل لهذا المصطلح أي لسياسة القرب. ما نود القيام به هو الإنصات إلى المواطن والعمل على إشراكه في تحقيق متطلباته. وستتاح للمواطن الفرصة عند حضوره الاجتماعات التي سنعقدها داخل الجماعة على الوقوف على كيفية اشتغالنا وسيكون له الحق في إبداء رأيه أو اقتراحاته خلال هذه الاجتماعات التي سنتفق على تواريخ عقدها حتى نضمن حضورا مكثفا لساكنة الحي. أضف إلى هذا اننا سنعمل على صعيد جماعتنا بإعداد مجلة الجماعة حيث سيتم توزيعها على ساكنة الحي وستنشر بمكان خاص داخل الجماعة لتشكل ميثاق اتفاق والتزام عمل وشراكة بيننا. س: تتحدثون عن شراكة بيننا، كيف ذلك يا سيدي؟ ج: المسألة سهلة جدا إذ سنقوم بما علينا وستساعدوننا بالقيام بما عليكم. مبدئيا ومما لا شك فيه أن تحسين الأوضاع المادية والمعيشية لساكنة الحي يشكل هاجسنا واهتمامنا وهدفنا المشترك. س: أليس كذلك؟ ج: بالفعل. س:وما علينا القيام به؟ ج: أولا تشكيل ودادية الحي لتكون المحاور، إذا اقتضى الحال، الأسبوعي مع ممثل الحي وفي نفس الوقت إبلاغه بمجريات الأحداث اليومية أو الأسبوعية العاجلة في الحي. وبهذا الخصوص سأضع رهن إشارتكم أرقام هاتفي ومساعدي. إن تجربة القرب والإنصات والتعاون المتابدلة التي سنعمل يدا في يد على تفعيلها ليست بفكرة جديدة ولكنها الدور الحقيقي والفعلي الذي كان يجب على كل ممثلي الشعب على مختلف المستويات القيام بها لكي لا نصل إلى ما وصلنا إليه من تباعد وتغييب العلاقة الوطيدة الواجب قيامها بين المواطن وممثليه الذين عهد إليهم تدبير شأنه المحلي. س: ولكن، سيدي المحترم، هل هناك إجماع بين أعضاء مجلسكم؟ ج: بالرغم من الخلافات على مستوى الرؤى الحزبية هناك إجماع وإرادة فعلية على تبني سياسة القرب والإنصات للمواطن وفقا للتوجيهات السامية. فالجماعة هي جماعتكم وحاجياتكم وأفكاركم ومقترحاتكم سيشكلون برنامج عملها. حتى إننا بصدد الشروع في برنامج طموح يبدأ بتحسيس وتكوين أطر الجماعة بخصوص تبني أساليب جديدة لاستقبال المواطنين والإنصات إليهم علاوة،في مرحلة موالية، على توفير الظروف المادية والمعنوية لهؤلاء الأطر كالمكاتب والحواسيب والتجهيزات وغيرها من الضروريات التي ستمكنهم من مواكبة ما نطمح إليه جميعا. س: مع كل احترامي لكم سيدي، إن كل كلامكم يتحدث عن المستقبل وما تنوون القيام به وقد سئمنا من مثل هذا الحديث "المستقبلي". ج: إنني أتفهم قولك هذا ولقد سمعت مثله من طرف العديد من ساكنة الحي ذلك أنهم كلما انتخبوا ممثلا لهم فإنهم لا يرونه إلا في الانتخابات الموالية... لا بأس. لقد قلت بنفسك في بداية حديثنا أن مثل هذه الزيارات لكم من طرف ممثل الحي غير مألوفة. أليس كذلك ؟ إذا، من هنا يمكن لك أن تستخلص أننا جادون في ما نعتزم القيام به يدا في يدا بإيمان وثقة في مستقبل أفضل. وإن نفس المبادرة/الواجب الذي أقوم به اليوم في حيكم، يقوم بها في أحياء أخرى زملائي الذين وضعت ساكنة الأحياء ثقتهم في كفاءاتهم ونزاهتهم. وإننا عازمون، بعد هذه الزيارات التشخيصية لمتطلبات الساكنة على عقد اجتماع للتنسيق بين المشاريع التي تلبي رغباتكم لنضمن بذلك نوعا من الانسجام والتكامل بين هذه المنجزات لتشمل المدينة كلها. س: ولكن طريقة تحديد الأولويات وإنجازها من خلال الإعلان عن طلبات العروض يقال بشأنها الكثير مما هو سلبي أي الغموض والبطء وغياب النزاهة خصوصا في تمرير الصفقات... وبالتالي فإنها تنعكس سلبا ليس فقط على ساكنة جماعتنا بل تتعداه إلى أكثر من ذلك لتهم التبذير والاختلاسات وغيرها. ج: أولا وبخصوص الأولويات لقد أشرت في البداية إلى كوننا فاعلون سياسيون جدد متفقون وجازمون على تبني سياسة القرب والإنصات إلى المواطن وهذا مبدأ لا جدال فيه لأنه السبيل الايجابي العملي الوحيد والأوحد لكسب ثقة المواطن، هذا مع العلم، أن هذا المبدأ هو مبدأ سامي أكد جلالته على ضرورة تفعيله خلال افتتاح جلالته للدورة التشريعية الأولى. فالثقة المشار إليها سابقا تتجلى في ضرورة إذ لم أقل في إلزامية إشراك بعض السكان بالتناوب في حضور اجتماعات اختيار وجدولة المشاريع والتي كما قلت سابقا سيتم الاعلان عليها من خلال نشرة إخبارية لتكون في متناول ساكنة الحي. أما بخصوص تمرير الصفقات من طرف الجماعات المحلية فهذا أمر بالغ الأهمية كما ذكرت بالنظر لانعكاساته. ولكن قبل أن أجيبك لدي سؤال: هل أنت من متتبعي الأخبار الاقتصادية والسياسية والاجتماعية اليوم التي تروج ؟ ج: نعم ولكنها لا تشفي غليلي... س: لماذا ؟ ج: لكونها ولا أريد التعميم لا تتضمن سوى صورا لبعض الجرائم وحوادث السير لتتلوها بعض صراعات الأحزاب دون تحليل أو تعمق في الموضوع ثم تليها أخبار متنوعة حول دول أجنبية لتنتهي بأخبار رياضية وشبكات الكلمات المتقاطعة والموجهة... وهذه الأخيرة هي التي تجد بعض زبناء المقاهي مجتمعون حولها ويجتهدون في ملء خاناتها. ومنهم من لا يتفحص بتاتا الصحف بل يكتفي بشراء نسخة من شبكة الكلمات المتشابكة ليشغل بها عقله مع فنجان من القهوة. وعند مساءلته عن نهجه يجيبك بأن الأخبار يتابعها من خلال شاشة التلفاز. هل تشاطرني الرأي في كون بعض الصحف فقدت جاذبيتها الثقافية والتوعوية للمواطن ؟ تعقيب: ربما معك حق وربما لا لكون المسألة جد متشعبة تتداخل فيها عدة اعتبارات والخوض فيها سيبعدنا عن ما نحن بصدد الحديث عنه. ما أريد الإشارة إليه هو أننا في الوقت الحاضر بدأنا نقرأ في بعض الصحف ومن خلال أخبار التلفاز على المتابعات القضائية والاعتقالات التي بدأت تتعقب كل من تبت في حقه التلاعب بالمال العام أو ما شابه ذلك من شطط في استعمال السلطة أو النفوذ... وهل تعلم يا صديقي أنه بخصوص صرف ميزانية الجماعة فقد تقرر تعزيز أطر هذه الأخيرة بمراقب مالي بغية ضمان احترام القوانين الجاري بها العمل في مجال تمرير الصفقات. توضيح: إنني، وستشاطرني الرأي، على يقين أن المسألة هي مسألة ضمير واحترام للمسؤولية والوفاء بالأمانة. فالجماعة، كمؤسسة ستظل قائمة والآيل للزوال أو للاستمرارية هم من يكونون مجلسها ومن يترأسه. المواطن المغربي يعيش مرحلة بات فيها تقييمه للأمور السياسية والاقتصادية والاجتماعية تقييما واقعيا وبالأصح تقييما مبنيا على تجارب عايشها حيث أصبح شعاره اليوم: "إما أن يكون رئيس الجماعة رئيسا عمليا بالمعنى السامي للكلمة أو لا يكون...". وكذلك البرلماني إذ يمكن للمرء أن يتساءل عن إمكانية تشكيل برلمان من برلمانيين متطوعين بحيث يكونون مستغنين عن الأجرة التي يتلقونها لأننا نجدهم في الواقع أناس أثرياء يصرفون خلال حملاتهم الانتخابية الملايين من الدراهم. فلما لا يخصصون هذا الملايين لتغطية مصاريف تتعلق بتنقلاتهم ومهامهم البرلمانية لإبراز وطنيتهم ومغربيتهم وتآزرهم مع كافة شرائح الشعب المغربي. بل أكثر من هذا لن يكون من حق أية جهة إما وطنيا أو دوليا الحديث عن خروقات أو تزوير في الانتخابات وما يتخللها وما يليها من صراعات لها تأثير جد سلبي على شخصية البرلماني وعلى المشهد السياسي برمته. فإذا كان اللجوء إلى المؤسسة التشريعية على هذا النحو، أي تطوعيا، فلن تشمل هذه المؤسسة إلا أناسا يعملون ويكدون غير مبالين، لأنها لن تعود متوفرة، لا بالأجرة ولا بالامتيازات المادية والمعنوية ولا بالحصانة وغير آبهين بكلام الصحافة (لأنها أصلا لن تجد ما تنتقدهم به) ولا بالمتابعات القضائية... مثلهم في ذلك كمثل المتطوعين ضمن العمل الجمعوي الذي حقق، بفضل المبادرات السامية واقتداء بمبادئها وإستراتيجيتها، خلال العشرية الأخيرة ازدهارا ونموا تشهد العديد من الأوساط بمختلف مشاربها بوقعه الايجابي وبفعاليته و...فجأة، يعكر حوارنا هذا رنين جرس... من يكون؟ لا، لم يكن جرس الباب كما كان في البداية ولكنه كان رنين جرس منبه الساعة الذي يرن كالمعتاد يوميا على الساعة السادسة والنصف مبشرا بحلول يوم عمل وكد جديد. استيقظت جسديا ولكن لم استيقظ فكريا ذلك أن فكري بات متشبثا بذلك الحوار آملا أن لا يكون مجرد حلم بل أن يكون رؤيا ستحقق على أرض الواقع.