في الحقيقة لقد أصبح من البديهي، وسط الرأي العام الوطني، الاستياء من المستوى الهزيل الذي آلت إليه ممارسة السياسة في الوقت الحالي من طرف مختلف الأطياف السياسية سواء كانت تمثل الأغلبية الحكومية أو المعارضة أو حتى الأحزاب والمنظمات التي تعتبر نفسها راديكالية. وإذا كانت الأحزاب التي انخرطت في مشروع الإصلاح السياسي من داخل المؤسسات لم تستطع أن تحقق الحد الكافي من المطالب والأهداف التي رسمت الخطوط العريضة لمشاريعها وبرامجها، فإن الأحزاب الجذرية بدورها لم تقدم بدائل ناجعة لإخراج البلاد من نفق التأخر الديمقراطي الجلي لتبقى المؤسسة الملكية هي الرابح الوحيد نسبيا من واقع الحال بحكم أنها تستمدّ شرعيتها من الصورة التي تحاول أن تعطيها لنفسها باعتبارها الحكم الساهر على وحدة الأمة ومستقبلها خارجا عن أي توجه سياسي. وما قضية الصحراء المغربية إلا أبسط مثال على تقاعس السياسة في هذا البلد السعيد على الرغم من كونها تحقق إجماعا وطنيا قلّ نظيره. ففي الوقت الذي كانت بعض العناصر تقوم بتحركات مدروسة من الخارج على المستوى الجمعوي والدبلوماسي من داخل الصحراء المغربية مستغلة موجة الانفتاح والحريات التي عرفها المغرب مؤخرا، كانت أحزابنا راكدة بترديدها نفس الشعارات التي تجعل منها واقفة وراء مشروع جلالة الملك بدلا من الجري وراءه والتعبئة له بكل الأشكال المطلوبة. هذا الجمود للأسف أعطى فرصة لبعض الشوائب السياسية للظهور على السطح لدرجة أننا بدأنا نسمع عن وجود تيار يسمي نفسه بوليزاريو الداخل وكأننا في إسرائيل تضمّ سكان 48 ولاجئي 67. إن طرح المغرب لمشروع الحكم الذاتي لم يكن اعتباطيا وإنما جاء بصفته مشروعا كفيلا بإخراج ملف الصحراء من ركود وتعثّر دام أكثر من 35 سنة، وهو ركود كان ومازال يتأثر بإكراهات داخلية وخارجية. وبالتالي فإن هذا الطرح يفرض علينا، أحزابا ومؤسسات وأفراد، العمل على جعله واقعا سياسيا من خلال خلق دينامية حقيقية بهدف التواصل المثمر والمستمر مع كافة الشرائح الاجتماعية الصحراوية وكذا تدبير الآليات التي تمكنّ المغرب من تطبيق مفهوم الجهوية الموسعة سياسيا عن طريق خلق مراكز قرار سياسي مستقلة على مستوى الأحزاب حيث تكون مرتبطة بشكل مباشر مع المواطن الصحراوي باعتباره ناخبا وشريكا في نفس الوقت، ومن خلال ذلك يتم انتخاب المؤسسات التي ستمثل السلطات التشريعية والتنفيذية للجهة. إن هذه الخطوات التي كان يجب على الطبقة السياسية الحية أن تبادر بها وأن تدعو إليها تمثل الإطار العام لتنزيل مشروع الحكم الذاتي في الصحراء، وهي الطريق كذلك لتطبيق الجهوية الموسعة في باقي جهات المملكة بما تحمله من احترام لخصوصيات كل جهة ولثوابت الأمة. لكن، وخلافا لما تلا، لم تشكل قضية الصحراء المغربية بالنسبة للأحزاب الوطنية أكثر من شعار ثابت في أجندتها إذا لم نستثن بعض اللقاءات والتجمعات المناسباتية والتي غالبا ما كان يسيطر عليها الطابع الانتخابي الصرف وكأنها فقدت زمام المبادرة معوّلة في ذلك على السلطة التي تتعامل مع هذا الملف بحساسية خاصة يتداخل فيها الهاجس الأمني و الضغوط التي يمارسها علينا المجتمع الدولي. فإلى متى سوف نبقى نراهن على الأممالمتحدة ومجلس الأمن والدول العظمى وقد استنفذ منّا ذلك الكثير من الجهد والوقت دون جدوى. الآن وبعد تطور الأحداث وبروز مسألة احترام حقوق الإنسان في الصحراء، بدا من المضحك والباعث على السخرية تهافت بعض القيادات الحزبية للتوجه إلى العيون والسمارة وغيرها من مدن الصحراء من أجل عقد تجمعات جماهيرية وهم يرتدون بدلات صحراوية تعبر عن ارتباطهم بسكان الصحراء ليس لكون هذه التحركات قد جاءت متأخرة عن موعدها ولكن لأنها تدخل في خانة رد الفعل حول موجة الأحداث الأخيرة. فيعطيها ذلك صورة الأراجوز الذي يتحرك تحت التصرف أو تحت الطلب. فالقضية هي قضية إرادة سياسية للانخراط في الرهان الديمقراطي الحقيقي وتتحمل فيها الأحزاب المسؤولية الكبرى بعد الدولة، ثم تأتي بعد ذلك مسؤولية المواطن والمجتمع المدني التي لا تقل أهمية كذلك. إن قضية الصحراء المغربية هي مثال حي على تقاعس دور النخبة السياسية المغربية وهي مثال واضح لأنه يخرج إلى العلن ويمكن أن يشكّل صدمة بالنسبة إلينا بصفتنا متتبعين للشأن العام أو منخرطين فيه بشكل من الأشكال. أما فيما يخص باقي الملفات والقضايا التي تهم المواطن المغربي دون أي تمييز جغرافي فإنها تندرج في نفس السياق الذي يجعل منها مرتبطة بالإرادة السياسية التي تكلمنا عنها. فالاختيار الديمقراطي يجب أن يكون حاسما لا تردد فيه وهو حصانة لنا من كل انفلات. وبالنسبة لمسؤولية الأحزاب في هذا المجال فإنها جسيمة بحكم أنها تمثل الروافد الأساسية للمجتمع الذي يريد أن يعبّر عن آرائه وانشغالاته. وهي بذلك لا يمكن أن تكون إلا من خلال تطوير آليات عملها وتحوّلها إلى مؤسسات حقيقية تتبنّى المفهوم الديمقراطي التداولي باستقلال تام عن السلطة. ليس من السهل الوصول إلى ذلك لكن الأسهل الطموح إليه . يكفيها في ذلك خلق حركية تنظيمية متجددة تسمح بتداول المسؤوليات بين مناضليها. كما يجب أن يصاحب ذلك عمل إشعاعي متواصل يخرج الأحزاب من جمودها الفكري ومن خندقتها في صراعات ضيقة كذلك الذي يحدث حاليا بين حزب إسلامي وآخر اشتراكي وآخر ملكي وآخر تقليدي وآخر إداري وآخر يساري، وتعددت الأسماء وغابت البرامج. نعم إننا بحاجة إلى برامج ملموسة على أرض الواقع، برامج تكون موجّهة إلى المواطن الذي يشكل 99% من هذه الأمة وينتظر حلولا لمشاكله في مجالات مختلفة من قبيل الصحة والسكن ومستوى العيش وغيرها. بالمقابل فإن مسؤولية الدولة والإدارة هي الأكبر والأعظم في بلاد لم تصل بعد إلى مستوى مقبول من النماء خاصة في المجال السياسي. فالدولة مطالبة أساسا بالتزام الحياد السياسي والابتعاد عن منطق الوصاية والتحكم في دواليب الأحزاب أو خلق أحزاب مهيمنة. وهي مطالبة كذلك بسن قوانين في مستوى تطلعاتنا نحو ترسيخ الديمقراطية الحقة بما في ذلك من إصلاحات دستورية وفي النظام الانتخابي على الخصوص والتي تتجلى في فصل السلطات ومنح مسؤوليات أكبر للسلطتين التنفيذية والتشريعية وتكريس القطبية في الانتخابات بإتباع نظام الدورات المبني على تحالفات مسبقة حتى لا تختلط البرامج وتغيب المسؤوليات. نعم إن التغيير المنشود لن يكون دون توفّر الإرادة السياسية لدى كل الأطراف المعنية كل على قدر إمكانياته، لكن توفر هذه الإرادة لا يكفي لأن تفعيل الإصلاحات لابد أن ينطلق من البداية. والبداية تكون عبر تعاقد سياسي واجتماعي تشارك في كل الأطراف وتتفاعل معه بجدية ليكون عنوانها الأكبر احترام القوانين وحب الوطن والبقية على الله.