اختار قسم الأخبار بالقناة الثانية، عبر برنامج "مباشرة معكم"، أن يدلو بدلوه في الحراك الدائر هذه الأيام بخصوص الزوبعة التي أثارتها أميناتو حيدر، حول مغربية الصحراء. وقد استهل مقدم البرنامج حلقته بطرح سؤال أولي على كل ضيف من ضيوف بلاطو البرنامج على حدة، وهو (ماذا يعني أن تكون مغربيا؟). وهو سؤال غريب ليس في مضمونه، بل في توقيت طرحه، وهو على العموم – طرحه – محمود وإن جاء متأخرا. فهو من جهة سيميط اللثام عن مقومات، كل مقومات الشخصية المغربية، ومن جهة أخرى سيسهم في تقريب مشكل الوحدة الترابية من أذهان فئات ليست بالقليلة من جمهور البرنامج. والأكيد أن طرح سؤال الهوية في هذا الوقت بالذات، أي في عز الأزمة المفتعلة، سوف لن يمكن من تحقيق الهدف، أو بالأحرى الغاية المنوطة منه، ألا وهي رص الجبهة الداخلية وتعبئنها للانخراط، أو على الأقل لفهم أبعاد المنعطف الحساس الذي تمر منه القضية الوطنية الأولى. ذلك أن جهودا ليست بالهينة، بذلت خلال سنوات خلت، من أجل سلخ المجتمع المغربي عن هويته بكل مكوناتها، ونعني بها البعد العقائدي، والبعد اللغوي، والبعد المتعلق بنظام الدولة بمختلف مكوناته، ممثَْلَةً على التوالي بالإسلام، واللغة والوطن والملكية. وقد تعرض البعد الأول من أبعاد الهوية لوطنية – الإسلام – لحملات شعواء من أجل استئصاله من نفوس المواطنين، بل لعله أكثرها استهدافا، تارة بشكل مباشر، وتارة أخرى بأساليب وخطط ملتوية ظاهرها فيه المصلحة، وباطنها من قِبَلِه الاستئصال والعلمنة. كما أن اللاعب الرئيسي في استهداف مكون الإسلام كان هو الإعلام المرئي والمقروء بامتياز، ونستحضر هنا على سبيل المثال لا الحصر: الحملات التي شنتها الصحافة الفرونكوفونية وحتى الناطقة ب"العربية الدارجة" على بعض القيم السائدة في المجتمع، والتي تمتح من معين الدين، وترتبط به في أذهان المواطنين كالبر بالوالدين، والمواظبة على أداء الفروض الدينية، والعفة، والاستحياء من إعلان الإفطار في رمضان، وغيرها من القيم التي حاولت تلك المنابر الصحفية اجتثاثها من النفوس، وتقديمها للقارئ باعتبارها من زمن التخلف، وبالتالي وجب القطع معها لمسايرة ركب الحداثة المزعوم. أضف إلى ذلك ما ينشر على أغلفة المجلات الفرونكوفونية خصوصا من صور خليعة تتغيى تطبيع المجتمع مع نشر هذه الصور، وإزالة الحرج من التعايش العلني معها. كما أن للقناة الثانية نصيبها الأوفر مما سبق، خاصة المادة المقدمة في البرامج الشبابية والمسابقات الغنائية، والتي لا تنتج إلا شبابا مائعا، يظهر بجلاء من خلال مظهره غربته عن دينه وقيمه. وفي علاقة بالمكون نفسه، يزخر الواقع المغربي بألوان من التناقضات الصارخة، بحكم القانون والدين على حد سواء، إذ يتم تقريب الخمور من المواطنين وتوفيرها بأبخس الأثمان لكل فئات المجتمع، من خلال الأسواق الممتازة والمساحات الكبرى التي اقتربت من الأحياء الشعبية، وقربت منها أم الخبائث، التي تتوالى قصاصات إخبارية يومية عن آثار تناولها في صفوف الأسر، وفي حرب الطرقات، كل ذلك في تحد صارخ للدين، وللقانون الذي يمنع بيعها لغير الأجانب. ولعل ثالثة الأثافي هي ما حصل هذا الأسبوع بمدينة المحمدية، حيث تم تنظيم حفل عمومي لتذوق الخمور، ولا داعي للدخول في تفاصيله. والمجال هنا لا يسمح بالإشارة إلى غارات أخرى تعرض لها هذا المكون، من قبيل الحركات التبشيرية التي تعمل – أمام أنظار العام والخاص – على " زعزعة عقيدة المسلمين " على حد تعبير دستور المملكة، فحققت نتائج مبهرة، حيث بلغ عدد من غيروا دينهم أكثر من أربعين ألف شخص، حسب إحصائيات الاستخبارات المغربية. أما مكون الوطن وما يتعلق به، خاصة الوحدة الترابية وقضية الصحراء، فقد تم تناوله خلال المرحلة السابقة بشكل فج: فلا الدبلوماسية المغربية أفلحت في الدفاع عن الملف في المحافل الدولية، بسبب إسناد الأمر إلى غير أهله، ولا أجهزة الدولة عبأت المواطن وجعلته يستوعب تفاصيل المشكل، استعدادا للانخراط في خيارات قد تُضطر البلاد إلى تبنيها أو الدخول فيها، إذ كان من الممكن تحقيق ذلك مثلا بوصلات إعلامية تبثها وسائل الإعلام المسموع والمرئي من حين لآخر، ولو توفرت الإرادة لما أعوزتها الوسائل لجمع الشعب على كلمة سواء، إلا أن الدوائر المسؤولة ارتأت أن تجعل التداول في الملف حكرا على نادي الكبار. كما أن المقاربة الأمنية التي حكمت هاجس من أشرفوا على التدبير المحلي لشؤون الصحراء، وفساد تسييرهم، ساهم بشكل كبير في تفشي الفكر الانفصالي. أما البعد اللغوي في الهوية الوطنية، فقد اتسم كغيره من ملفات هذا الوطن العزيز بسوء التدبير. فقد تجاهل صناع القرار لردح كبير من الزمن أحد المكونات الأساسية للهوية المغربية، وهي اللغة الأمازيغية، حيث همشت في الإعلام والتعليم، وغيرهما من أوجه الحياة العامة. ولم يكن التهميش ذات بعد لغوي فقط، بل امتد إلى الجغرافيا أيضا، حيث ظلت ملامح الحياة البدائية مهيمنة على مظاهر عيش سكان عدد من المناطق القروية (الأمازيغية خصوصا)، الشيء الذي غذى الإحساس ب"الحگرة" لدى فئات عريضة من ساكنة هذه المناطق، وما دفع أيضا الكثير من نشطاء الحركة الأمازيغية إلى تبني أطروحات متطرفة، ضدا على مكوني العروبة والإسلام، ظنا منهم أنهما المسؤولان عن التهميش والإقصاء الذي طال اللغة والمناطق الأمازيغيتين، فأقدموا على تأسيس "جمعيات للصداقة الأمازيغية الإسرائيلية"، في غمرة الهجمة الشرسة التي شنها الاحتلال الصهيوني على غزة، وفي أثناء الحصار المطبق الذي اشتدت وطأته على قطاع غزة الجريح... أما الطامة الكبرى فتمثلت في الزيارة التي قام بها مؤخرا عشرون أستاذا من نشطاء الحركة الأمازيغية، بدعوة من أحد المتاحف الصهيونية، للمشاركة في أيام دراسية حول المحرقة النازية، عائدين بتوصية من الصهاينة، تدعوهم لشرح المحرقة النازية (التي اعتبرها المفكر الفرنسي روجيه گارودي من الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية) للتلاميذ المغاربة، حتى يتفهموا كل الممارسات الإسرائيلية في حق شعب فلسطين الأعزل. أما اللغة العربية، فلم تسلم هي الأخرى، رغم أن الدستور نص على اعتبارها اللغة الرسمية للبلاد. وما تغول المد الفرونكوفوني (وليس الفرنسي) في الإعلام والدعاية (اللوحات الإشهارية في الشوارع)، وتغييب اللغة العربية في المراسلات والوثائق الإدارية، إلا نزر يسير مما استهدف اللغة العربية. بعد كل هذه الغارات التي تعرضت وتتعرض لها مقومات الهوية المغربية، نجد أنفسنا في منعطف شديد الحساسية، فإما أن نكون أو لا نكون، ولعل طرح سؤال الهوية في هذا التوقيت هو من حسنات الضجة التي أثارتها أميناتو حيدر. فهل يستفيق صناع القرار من سباتهم، لعل أجيالنا اللاحقة تنجو من دوامة التيه التي تعصف بأعداد غير قليلة من الأجيال الحاضرة؟