إن العالم السياسي للإنسان يحتوي وجوده الاجتماعي، و انطلاقا من كون الإنسان حيوان إيديولوجي فان عالمه سيكون حبيس تصوره لفهم هذا العالم، من هنا يمكن أن نقول أن العالم السياسي للإنسان الإيديولوجي قار لا يتحرك لأنه منغلق في دائرة مثل و قيم، يتوفر على أدوات بدائية و منسجمة، و لا يمكن تغييره و تطويره إلا باصطدام ثقافي يخلخل المعتقد السائد و يضعه محط المساءلة و المقارنة. فالإنسان بطبعه الإيديولوجي حامل لحدس افتراضي للواقع، ينبعث هذا الأخير من أسطورة قبل علمية ما دام لم يخضع لمناقشة نقدية، و إن الانتقال من العالم الافتراضي إلى عالم الواقع يستدعي طرح الفرضيات و الاستبعاد النقدي للأطروحات الخاطئة. إن الجانب الحدسي في السياسة يعد مظهر من مظاهر غياب الفكر السياسي لأنه لا يستند للمنهج العلمي، يخاطب العواطف و لا يبحث عن مخاطبة العقول، و هذا الأمر يحتاج إلى نخبة ثقافية لا تنخرط في النسقية و لا تعجز أمام الخوف أو الجهل بل مبدعة و جريئة، ترفع الأسئلة الحقيقية أمام المتداول. إذا عملية تطوير العالم السياسي للإنسان تحتاج لعمل شاق و متعب، لأنها ستنتقل بالمرحلة الحدسية إلى المرحلة العلمية، أي أنها ستطرح الإشكاليات المطروحة في المرحلة البدائية و ستعمل على مناقشتها عقلانيا بوعي نقدي من أجل تفنيد الأخطاء الابستمولوجية و الاحتفاظ بالأطروحات الغير المفندة إلى حدود لحظة المناقشة النقدية، و لهذا الغرض وجبت المجابهة و الاصطدام النظري بين الأفكار المتنافرة أي إخضاع النظريات للمقايسة، أملا في الوصول لنتيجة متطورة ترفض الدوغما و تقبل التعدد. هذه العملية تحتاج إلى تراكم معرفي مستعد لطرح الإشكالات و مستعد لمناقشتها، هذه القدرة على تناول هذه المواضيع لا يمكن أن تكون إلا قدرة فكرية حرة ومبدعة غير قابعة في المتداول بل تمكنت من تحرير ذاتها و انتصرت على الانحياز السيكولوجي الشخصي، هذه القدرة لا يمكن أن تكون إلا المفكر السياسي. إن المعضلة في السياسة هي حينما يصبح السجال العام يتمحور حول المتداول و النسقية، فالانخراط التام في المنظومة السائدة دليل على غياب فكر سياسي، والانحسار داخل المتداول و الاستسلام اللا مشروط له، دون بدل أي عناء فكري لاختباره، يجعل الساسة و السياسة يقبعون في الرتابة دون جديد يذكر. ففي غياب نقد عقلاني و في غياب تام لاجتهاد فكري متسع الرؤية، يناقش الممنوع، يثبته أو يدحضه، لا ينطلق من حلول بقدر ما أنه يبحث عنها، لا ينطلق من مقدسات بل المقدسات نتائج علمية لوعي نقدي، لا يمكن تأسيس تقليد ديمقراطي بل سيجعلنا سجناء ميتا سياسة قابعة في إطارات نمطية.