من المعاني الغزيرة لمفردة "الامتناع" في اللغة نجد ما يلي: "امتنع من شيء أو عن شيء" بمعنى لم يقدر عليه. ونحن نرجح أن يكون التصويت ب"الامتناع" في الممارسة البرلمانية لحزب الأصالة والمعاصرة (صاحب أكبر فريق نيابي معارض: 56 نائبا) أثناء التصويت على مشروع قانون المالية رقم 48.09 للسنة المالية 2010 هو التوصيف الأنسب لمفهوم "المعارضة"، كما بشر بها الحزب يوم أعلن انتقاله إلى معارضة حكومة الفاسي. "" والحقيقة أن من تابعوا السلوك السياسي للنواب المنتسبين للأصالة والمعاصرة أثناء المناقشة والتصويت على مشروع القانون، أصيبوا بحالة من الذهول لحجم الضعف والاضطراب الذي طبع صورة وأداء الفريق بالنظر إلى أن المناقشة والتصويت على مشروع قانون يعتبر الفرصة السنوية التشريعية الأنسب لعرض واستعراض المواقف السياسية من مختلف الملفات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتلائمة مع الموقع في الخارطة السياسية (معارضة/أغلبية..)، وترجمتها إلى تعديلات ملموسة، وكذا تمثلها من خلال سلوك التصويت على مشروع القانون. وبيان بعض ذلك في ما يلي: •على مستوى الحضور في اللجن الدائمة لمناقشة مختلف الميزانيات القطاعية، سجل الغياب اللافت لأعضاء الفريق في جل المناقشات بحيث حضر في بعض اللجن أحيانا عضو واحد أو اثنين في أحسن الأحوال (تُراجع لهذا الغرض محاضر جلسات اللجن الدائمة)، مع مُرابطة ضعيفة وتدخلات فاقدة لأي تقييم نقدي أو نفس معارض للسياسات الحكومية، بل إن كثيرين من نواب الفريق نهجوا أسلوب الثناء على السياسات الحكومية والتقرب من الوزراء، وتأكد بالملموس انعدام أي انسجام تصوري أو انضباط تنظيمي أو تحضير جماعي للمناقشات، أو أي توجيه حزبي يحدد الخط العام المطلوب انتهاجه في مثل هذه المحطة التشريعية السنوية الهامة، خاصة وأن الأمر يتعلق بأكبر فريق معارض! •على مستوى التصويت، لم يصوت الفريق المعارض بالرفض على أي ميزانية قطاعية كما على مشروع القانون المالي برمته، بل اعتمد في الغالب التصويت ب"الامتناع" حتى عندما تعلق الأمر بميزانية قطاع التربية والتكوين الذي يرأسه السيد أحمد اخشيشن، والذي لا تخفى علاقته بالحزب (التصويت ب"الامتناع" عن دعم ميزانية اخشيشن، والتصويت ب"نعم" لصالح ميزانية الميداوي!). •على مستوى التعديلات على القانون المالي، تقدم الفريق ب23 تعديلا (رفضت الحكومة منها 18، وتم سحب 2، فيما تم قبول تعديلين أحدهما بصيغة توافقية والآخر بصيغة الأغلبية، وأعملت الحكومة الفصل 51 من الدستور ضد تعديل واحد). وإذا كان هذا العدد القليل من التعديلات يعكس، من جهة، مستوى القوة الاقتراحية للفريق (فريق العدالة والتنمية المكون من 46 نائبا قدم 77 تعديلا)، فإن رفض الحكومة لأغلب هذه التعديلات يؤكد حالة الشرود السياسي الذي يعيشه الفريق وهو يصوت بالامتناع على القانون المالي لحكومة لا تعير أي اهتمام لتعديلاته التي يفترض أنها تعكس انشغالاته الاجتماعية والاقتصادية، وهو تعبير عن حالة انعدام الوزن التي تصنعها التركيبة غير المتجانسة لمكوناته بوصفه فريقا نشأ بأوسع عملية ترحال عرفها المجلس وهمت أغلب الفرق النيابية. •أما على مستوى الموقف من تعديلات فريق العدالة والتنمية، فقد اتضح مرة أخرى أن منطق "معارضة المعارضة"، واعتماد التصويت الميكانيكي بالامتناع دون دراسة وتمحيص للتعديلات، أوقع الفريق في أسوأ اضطراب خلال هذه المحطة. فتصويت فريق الأصالة والمعاصرة بالامتناع أثناء عرض فريق العدالة والتنمية للتعديل المتعلق بإحداث صندوق التكافل العائلي معيب سياسيا من جهة أنه تعديل متصل بتوجيه ملكي واضح وصريح ومدرج في ديباجة مدونة الأسرة (فهل يمكن تصور أن الحزب الذي يزعم بعض قيادييه أنهم حملة مشروع الملك لا يعرف أن الملك طالب في خطاب رسمي بإحداث صندوق للتكافل العائلي حتى يكون الموقف منه إيجابيا؟)، ومن جهة ثانية يؤكد هذا الحدث افتقاد الحزب لمنظور وممارسة مسؤولة ومتزنة للمعارضة البناءة (تجاه الحكومة كما تجاه المعارضة)، والتي من أعرافها في الديمقراطيات الحقيقية التقاطع أحيانا بين مكونات المعارضة والتعاضد فيما بينها لمواجهة سياسات حكومية معينة انتصارا لملفات ذات طبيعة اقتصادية أو اجتماعية عادلة، كما هو الحال بالنسبة للنساء المطلقات والأرامل ضحايا البطء المسطري الإداري والبيروقراطية في المحاكم لتحصيل الحقوق. بناء على ما سبق، يتأكد أن الطابع السوريالي الذي صاحب الممارسة السياسية لحزب الأصالة والمعاصرة منذ نشأته الحديثة جدا يزداد عمقا ورسوخا، وأن موقع المعارضة الذي اختاره الحزب لا يقوم على إمكانات ذاتية وتصورية حقيقية كفيلة بإنتاج ممارسة سياسية تعزز الثقة في المسار الديمقراطي الوطني، ويمكن تصنيفها ضمن ما هو متعارف عليه عالميا كسلوك سياسي معارض داخل نسق ديمقراطي يتميز بالتدافع بين أغلبيات متراصة ومعارضات فاعلة وحيوية. بمعنى آخر، إن "الامتناع"، الذي حكم سلوك التصويت على أول قانون مالي من طرف أكبر حزب معارض بمجلس النواب، يؤكد أن هذه "المعارضة الممتنعة" معارضة كَمِّيَّة، ولا تقوم بما هو مطلوب سياسيا من حزب معارض للحكومة.. ولكنها تؤكد، ويا لمكر اللغة!، أن المعارضة في حق الحزب "ممتنعة" بالمعنى اللغوي الذي ألمحنا إليه في صدر المقالة.. أي إن حالة العجز عن ممارسة المعارضة حالة بنيوية تكوينية مرتبطة بعوامل النشأة غير الطبيعية وأهدافها وطبيعة التجمع البشري المنضوي تحت العنوان السياسي للوافد الجديد، والتي تجعل عدم القدرة عن معارضة الحكومة هو الأصل والطبيعة. نعتقد أن قاموسنا السياسي -للأسف- يتعزز تراجعيا وانحداريا في سلم الديمقراطية بهذه المخترعات/المُغَرَّبات: "معارضة المعارضة".. "المعارضة الممتنعة".. والبقية تأتي..! *مدير نشر جريدة المصباح