شكلت دفاتر السجن لأنطونيو غرامشي مرتكزا و أهم مراجع مفهوم المجتمع المدني في بعده الراديكالي فهو يشير بهياكله إلى كل من الجمعيات النقابات الأحزاب السياسية بمختلف توجيهاتها الجماعات الدينية والتنظيمات الطلابية الحركات الاحتجاجية وجماعات الضغط إضافة إلى البرلمان... ووظيفة المدني تنشأ بمقتضى الإرادة التطوعية الإنسانية لا صحابية، وغالبا ما يصطلح بها المثقفون باعتبارها انتلجنسيا وحراس المجتمع من غطرسة ذوي السلطة ومالكي وسائل القهر وسند المهمشين والمقصيين في زمن المصالح وقانون الغاب وهياكل المجتمع المدني تأسس وجودها وتشرعنه على هذا الأساس بحماية الشعب قدر المستطاع من شطط السلطة، حيث تضمن له نوع من التوازن والدعم لمواجهة هياكل التدجين وآليات القمع وهذا ما يعطيها بعدا مواطناتيا يرنو إلى تكريس مفهوم المواطن الفاعل المشارك يجد ذاته في النصوص القانونية والمؤسسات الرسمية والدستور عوض مفهوم الرعية، الشيء أو الموضوع الذي طالما عمل المجتمع السياسي: الدولة و من يدور في فلكها تكريسه تحت ياقضة مواطن تابع: مواطن بدون أسئلة والذي يسعى ثانية بعد أخرى على تطوير آليات الإخضاع القسرية و أساليب الاحتواء للظفر بحصة الأسد والحمل فيما يجود فيها الوطن الجريح، لذلك كان المجتمع المدني دائما ومند ولادته متعارضا مع الدولة و أجهزتها الاخطوبوطية فالأول هو نداء للحرية و الحقوق والرغبات بينما الثاني فيمثل مجال الضبط والانضباط والمشروعية والهيمنة و استخلاص أكبر قدر من الطاعة وبذلك يصبح الرهان اليوم مزيد من المجتمع المدني الراديكالي مزيد من الحريات والحقوق في مقابل القليل من الدولة ، القليل من القمر والقمع و التهميش.وإذا كان النضال المدني في المجتمعات الحديثة يشير إلى عدد من الأنساق إلى تصنع المواطن شطط السلطة وسلاحا في أيدي المقصيين للدفاع به عن مصالحهم و حقوقهم في الاقتسام العادل للثروة و السلطة، هل نجد تمثيلا واقعيا لهذا التعريف في فضائنا المجتمعي المغربي؟ هل ما يتراقص في حقولنا الثقافية والسياسية وفي مختلف واجهات النضال يدل على الاتكاء المباشر على نبالة المفهوم؟ هل استطع العقل السياسي المدني تأطير المجتمع بتجاوز أغلال الماضي والقطع مع الحلقية التقليدية؟ وإذا كان طرح مفهوم المجتمع المدني يدخل في سياق إستراتجية دعم الديمقراطية -المنشودة- نالية للحد من هيمنة الأقلية على حقوق الأكثرية وكبديل للانخراط في التحديث نتساءل هل مطالب الفعل المدني ديمقراطية و حداثية أصلا؟ تساؤل أخر جوهري و أخير هل الانخراط في الفعل المدني لازال بدافع خدمة من هم تحت أم أصبح وغزا وسيلة فقط لتحقيق مآرب شخصية انتهازية و سلم للتسلق إلى نعيم من هم فوق؟؟؟ قبل الإجابة لبد من سرد بسيط لبعض أنواع هياكل اشتغاله حتى تقترب أكثر من خريطة هذا العقل مغربيا و تجول تضاريسه وحتى تتضح الرؤية أكثر لاكتشاف غرض و خلفيات النخب التي تحكمه والمسيرة لحركته. "" هنالك صيغ كثيرة ومختلفة وحتى متصارعة ومتناقضة الحضور للفعل المدني المغربي وهي صيغ تحدد طبيعتها إرهاصات و مطامح البدئ فالراديكالي منها تتربص به ومن كل جهة. عوامل الاحتواء و التدجين وتقنية الفرملة و الاختلاف التي يجابه بها مالكو وسائل القهر والإكراه كل يحاول الدخول في غمار أي منافسة محتملة لتدبير الشأن والرأي العام والمشاركة بالتالي في توجيه القرار، فكلما نجح تنظيم راديكالي في كسب ثقة المهمشين -وهم الأغلبية- تتحرك أيادي الإخطبوط المخزني: الدولة بالقمع و الإرهاب و تقليم الأظافر( الاعتقال، السجن، اختطافات...) وقد اعتقدنا و لوقت طويل انه قد تم تراجع هذا النوع خاصة بعد رحيل زعيم النظام السابق ووزير داخليته إدريس البصري الذين حكما الوطن بقبضة من فلاذ و حولا المغرب إلى دولة أمنية غابت فيها أبسط شروط الأمن والاطمئنان النفسي، إلا أن أحداث 16 مايو 2003 (اعتقالات واسعة و عشوائية لأعضاء الحركات الإسلامية )، أحداث 2007 اعتقال مناضلي الحركة الثقافية الأمازيغية، أحداث افني (تدخل عسكري بكل المقاييس )، أحداث بومالن دادس (اعتقال مناضلي تنسيقية أيت غيغوش) كل هذه الأحداث أكدت بالملموس صلاحية مقولة الابن سر أبيه وأنه لا شيء تغير عن سنوات قيل عنها أنها من الماضي وأن صفحة هذا الماضي لم تطوى بعد، ومخزن اليوم ما هو في الواقع إلا نسخة متطورة لمخزن الأمس، ومن يعتقد بأن شيء قد تغير حتى ولو من باب أن المغرب النظام يحاول تزيين صورته خارجيا لن يكون إلا واصبا.ومن تقنيات الإخراس كذلك احتواء و تدجين وشراء الصمت وتحويل المناضلين إلى دواجن تأتمر بأوامر الدولة وتنتهي بنواهيها وذلك بتقديم إغراءات مادية وهبات مخزنية ووعود بنعيم القصور وليونة كراسي المناصب كيف لا والمخزن معروف مند القدم بمكافئة الأوفياء بالمناصب والوظائف والتشريفات والأوسمة لضمان إخلاصهم " وفق صباغة متجددة لمنطق الخدمة والهبة وثقافة رعاية الأعيان وسيريان سلوك الزبونية و القرابة والوساطة و اعتماد مخيال سياسي قائم بالأساس على الرمزانية و العنف المادي بهدف الحفاظ على الوضع، رمزانية تساعد على مسرحة الحكم و أسطرة الحاكم" العصري فتتحول هذه النخب: المناضلين إلى ببغاوات و أبواق تزكي وتردد وتشر عن كل القرارات الرسمية وتبارك القائم من الأوضاع وتصد رياح أي تغيير ممكن وتعمل على استمرار ذات الأوضاع، بل تذهب هذه الدواجن أبعد مما ذكرناه بمزاحمة ميدان المجتمع الراديكالي بتوجهه تهم و نقد زائفين وتعليب وعي من اكتسب ثقتهم في مرحلة ما قبل الاحتواء. يأتي نوع أخر يتجسد في عمليات الاختراف وزرع الطحالب و الألغام والفيروسات في الخلايا النقية وهذا الصنف تتوجه به أجهزة المخزن. الوكالات الاستخباراتية والأمنية نحو التصنيفات الأكثر راديكالية والأكثر مبدئية خاصة بعد فشل الايات الاحتواء والإخراس، وتحمل ذات الأجهزة والساهرين على امن مربع السلطة واستمراره على دس عناصر -عملاء- تكون في الغالب ذات خبرة وتدريب عاليين، تسهر على كشف مداخل و مخارج التصميمات التي تنداس داخلها، وتحرص على ذكر ابسط التفاصيل (الشادة والفادة) واكبر قدر من المعلومات- تاال- في تقريرها اليومية لذلك تجدهم يحشرون أنفسهم دائما في كل شيء يتعلق بالتنظيم في الانخراط في اللجنة المسيرة و مشابه، كما تعمل في إستراتجية اشتغالها على تحريف الخطاب و إفراغه و قهقرته إلى مستوى يصعب فيه تأطيره من جديد ويصعب فيه الفصل بينه وبين خطاب المدني المزيف: الخطاب الرسمي وغالبا ما يستعين هؤلاء بافراد ينتمون إلى التنظيم غالبا ما تصل بهم علاقة قرابة أو علاقات عشائرية إما كمصدر للمعلومات و عيون للمراقبة أو كبيادق تحاول دائما شد القافلة من الخلف بإثارة أمور تافهة للنقاش. حتى ينحرف و ينحط الخطاب أو بإثارة الصراعات الداخلية والنفخ في النار لإضعاف و إنهاك قوى التنظيم أو بإنتاج قدر ممكن le maximum possible من المشاكل والمتاهات (حتى ما يبقى إبان الرأس من الرجلين ) كل هذه العوامل وفي غياب يقظة و مراقبة وصيانة دائمة لمناضلي التنظيم، تحكم عليه بالموت البطيء، وعموما فهذا النوع من المجتمع المدني الراديكالي الاحتجاجي استطاع إلى درجة ما تجسيد صورة حية وحقيقية لفعل مدني و مواطناتي، واستطاع كشف غالبية الستار عن واقع مزمن عانى ولازال يعاني جميع أنواع العلل بتسليطه الضوء على البقع السوداء و مناطق العتمة والظل وسعى إلى فضح ممارسات السلطة وتجاوزات أصحابها بالوقوف إلى جانب مقهوري العهدين الجديد/ القديم وكان درع من هم تحت ضد طعانات خناجر من هم فوق، ومن البديهي أن نلاحظ أن هذا النوع في تراجع مستمر وجسم الهياكل الراديكالية يضعف ساعة بعد ساعة كيف لا و ضريبة النضال يامضة ولتوالي الضربات الموجهة له، ودائرته تضيق ب استمرار لأسباب خارجية تكمن في ما ذكرناه ولأسباب ذاتية تكمن في ندرة المنشغلين بهذا اللون-قلة المناضلين المبتدئين- وانصرافهم إلى وضعيات أكثر أمان في مقابل ذلك نجد تزايد مستمر وتهافت وتفريغ لواجهات المدني المزيف ونذكر منها. -الهياكل الرسمية وهي هيئات وجمعيات تعلن سرا وجهرا ولاءها التام للمجتمع السياسي الدولة وتزكي كل ما يصدر عنها وهي بمثابة مؤسسات رسمية ملحقة أو ذيلية وتأسس لأغراض: منافسة المجتمع المدني الراديكالي ومزاحمتها في إطار صراع أفقي (م.م. راديكالي ≠ م.م. مزيف) عوض الصراع المفترض (م.م ≠ الدولة ) وتميع الممارسة النضالية كيف لا و هدفه الأسمى هو تحويل المجتمع إلى واجهة مدنية للسلطة ومصدر من مصادر شرعنتها، كما يستغل كذلك كقضاء لتدريب النخب على أساليب وأسرار اشتغال الميدان في أفق دمجها في الأجهزة الرسمية ( الداخلية و الاستخبارات ). -الهيئات الحزبية: وتضم كل من الأحزاب السياسية، النقابات والجمعيات التابعة، فبعد فشل الحزب المغربي في الاطلاع بدوره كما نضر له "كلسن" و "غرامسي" ونضرا لحاجته نخبة الملحة لخزان انتخابي يضمن لها عيشة الاقتراع موطئ قدم في مربع تصريف القرار أو نصيب من كعكة "قوامها من عرك" المسكين المقهورين، قد تعمل على تأسيس جمعيات و نقابات ذيلية توفر لها جميع شروط وإمكانات الوجود يحرس زعماء الحزب على حضور مؤتمراتها لتجديد الولاء كما تخصص لها جرائد الحزب مساحات للتعريف و لتعضية أنشطتها. -إلى جانب هياكل المجتمع المدني المزيف نجد الهياكل التنموية الاقتصادية التي يصطلح عليها كذلك بالهياكل المقاوالتية التي تشتغل بعيدا عن السياسة ويكون هاجسها الوحيد تنمية الرقعة الجغرافية التي تقطنها اقتصاديا بحيث تنضبط لقواعد اقتصادية محضة ولنمط تنمو احترافي بالانفتاح على مؤسسات الدعم والمنضمات المهنية والاقتصادية وتراهن على المساندة الخارجية و الدعم الأجنبي وعقد شركات و اتفاقات مع مختلف جهات حكومية و غير حكومية بهدف تحقيق مشاريع واقعية وهذا النوع كثيرا ما يسجل حضوره في المناطق الأكثر تهميشا. هناك نوع أخر يدعي انتماءه إلى المجتمع المدني و حقيقة يصعب تحديد بطاقة هويته و خانة انتماءه و قد سعين بالهياكل إلا وطنية وهي هيئات تعيش درجة من الاستلاب الفكري إذ تناضل عن قضايا بعيدة آلاف الأميال عن قضايا شعوبها و همومه وتسرح بخيالها في أحلام وهمية بشعارات جاهزة ومستوردة وهي تقف في صف المخزن لأنها تعمل على تصريف الأزمة وفي المحاولة لجدب الواقع المر في بلدها وتؤسس وجودها على دعم عرقي و ديني أو قومي تحت غطاء الإنساني و الواجب الأخلاقي .