وبصرف النظر عن كون هذا الخلاف ناجما عن أسباب ذاتية أو موضوعية أو عنهما معا، أفلم توجد آنذاك آليات أخرى لفضه بدل الانفصال؟ أقول بلى، فلقد ضمن شكيب أرسلان رسالته المذكورة ما يفيد ذلك، فبعد أن بين فيها أن الانشقاق لا مبرر له وذكر بخطورته، واقترح عدة حلول توفيقية بين الطرفين، استدرك قائلا: «ولكن الجمهور يكون هو الحاكم في المؤتمرات العمومية...» وهذا يعني في خطابنا المعاصر الاحتكام في شأن الخلافات إلى القواعد الحزبية في الجموع العامة أو المؤتمرات... أي اعتماد الآليات الديموقراطية في التدبير الحزبي، بدل حصرها في النخب المتخالفة... ولكن قبل ذلك هل كانت كتلة العمل الوطني آنذاك تتوفر على مثل هذه الآليات للاحتكام إليها؟ فلنلتمس ذلك فيما يرويه حسن الوزاني في مذكراته (5 ص13) عن نشأة كتلة العمل الوطني، فقد ذكر أن «كتلة العمل الوطني لم تحل محل الحركة الوطنية، وإنما كانت في الأصل مجرد عنوان للجنة تقدمت كوفد من عشرة أفراد برفع المطالب إلى المراجع العليا في الرباط وباريس، فكان من المفروض أن تنتهي بانتهاء مهمتها باسم الحركة الوطنية... ولكن كانت الأمور بخلاف ذلك... وفعلا فرضت نفسها بهذه الصفة فرضا، وفيما يخص تركيب اللجنة العشرية لتقديم المطالب لم يكن نتيجة انتخاب، بل خضع لتعيين سري من بعض الأعضاء فقط، كما روعيت فيه اعتبارات شخصية، لا مقاييس أهلية واستحقاق وصلاحية»، وعن عضوية كتلة العمل الوطني يقول: «لم تكن تلك اللجنة التي اشتهرت بكتلة العمل الوطني.. وهي هيأة القيادة المسلمة كلها من الأكثرية الواعية من الوطنيين، بل كانت مجرد واجهة لخلية سرية هي المسماة «بالزاوية» والتي كانت هي الأخرى مكونة، في أضيق نطاق، وعلى نسق الزوايا الطرقية...». ونزداد تمثلا لوضعية الكتلة آنذاك حين يشير الوزاني إلى أنها «جمعت خليطا من عناصر مختلفة المظهر والمخبر، وغير متجانسة الشكل والجوهر، فكان فيها على ضآلة عددها، الشبان والكهول والشيوخ، والمثقفون والأميون وأشباه الأميين، والتجار وحتى الآباء والبنون والإخوة، فمثلت الزاوية «كشكولة» عجيبة في حد ذاتها ولم يكن يجمع بين شتيتها سوى ضرورات العمل السياسي...» وكذلك حين يقول: «...وكثيرا ما كان التفاعل بين عناصرها قائما على نوع من «الجار والمجرور» و»التابع والمتبوع» إذ كانت تتحكم في هذا التدافع والتجانب صلات القرابة أو المصاحبة، أو المحاسبة أو المنفعة ماديا أو سياسيا...» إذن، كيف يمكن أن يكون الجمهور هو الحاكم في المؤتمرات العمومية، أو اللجوء إلى الآليات الديموقراطية في حركة لم تزل في بداية نشأتها متأثرة بأساليب عمل هي أقرب إلى الزاوية منها إلى حزب ذي تنظيمات مؤهلة لممارسة الأساليب الديموقراطية في فض الاختلافات وغيرها؟ لهذا علينا ألا نغفل تأثير نوع التشكيلة العضوية للحركة الوطنية ونحن نعالج مسألة الانشقاقات في صفوفها، كما لا ينبغي أن نسقط من الاعتبار كون «سفينة» الحركة الوطنية عندما أقلعت كان على قيادتها ربابنة من توجهات متباينة أبرزها شخصان أحدهما ذو مرجعية سلفية متفتحة هو علال الفاسي خريج جامعة القرويين مثابة العلوم الشرعية، والثاني هو محمد حسن الوزاني خريج جامعة السوربون معهد العلوم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، الأول شب في مجتمع مغربي تقليدي وزاول نشاطه الديني وربما السياسي في جماعات طائفية أبرزها الزاوية وخلايا طلبة القرويين، والثاني زاول دراسته في المدارس الابتدائية والثانوية الرسمية والتي أنهاها في ثانوية المولى إدريس ليتوجه إلى فرنسا لمتابعة التعليم العالي، فقضى بها سنوات تمكن خلالها من دراسة العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية والإعلامية، والاختلاط بطلاب وشخصيات من مختلف الأوطان والأجناس والتوجهات، والاطلاع على ما كانت فرنسا تزخر به آنذاك من الأنشطة الحزبية والنقابية والحقوقية، بل والانخراط في بعضها مثل «نجم الشمال الإفريقي» الذي كان يتزعمه مصالي الحاج، ثم عاد بعد ذلك إلى وطنه وكل أمله أن تنشأ فيه حركة وطنية عصرية على غرار الأحزاب التي اطلع على قوانينها وأنظمتها ضمن المقررات الدراسية أو عاينها ميدانيا خلال حضوره في كثير من المناسبات. عاد محمد حسن الوزاني إلى المغرب وفي حقيبته شهادة عليا في العلوم السياسية والاقتصادية ولديه رصيد من النظريات والتجارب، وفي التنظيم الحزبي التي يمني نفسه المساهمة بها في تطوير العمل السياسي والنضالي لتخليص بلاده مما ترزح فيه من عبودية وتخلف. لكن مع من؟ وكيف؟ فالمهمة ليست سهلة سيما والشروط لم تتوفر بعد لتقبل أو قبول قيام حركة وطنية بالشكل الذي يتصوره تنظيما وأسلوب عمل، وتقدم خطاب... فلا سلطات الحماية تقبل ذلك، ولا الأهل يتقبلون الانتقال من ردود أفعال ارتجالية ضمن حركات احتجاجية سلاحها قراءة اللطيف والاعتصام بالمساجد، والقيام بمظاهرات. وقد ظلت هذه الأشكال من الاحتجاج من غير تأطير وطني إلى أن صدر ما أطلق عليه «الظهير البربري يوم 16 مايو 1930»، فكان هذا اليوم «هو الذي علم نقطة البداية في تاريخ الحركة الوطنية الجديدة» (الحركات الاستقلالية في المغرب العربي ص140). عاد الطالب السوربوني ليجد نخبة من الشباب تنشط حسب رواية علال الفاسي، في «حركة سلفية» اتخذتها ميدانا لبذل نشاطها وتعويد نفسها على العمل لخدمة البلاد والتضحية في سبيلها، ضمن مجموعات متمركزة في كل من فاسوالرباط وتطوان، لم يلبث اهتمامها أن انتقل من تناول شؤون دينية واجتماعية إلى الانشغال بالشؤون العامة بأسلوب مغاير للذي عهدته من قبل... كان جل هؤلاء الشباب منتمين إلى جامعة القرويين وثانوية المولى ادريس بفاس، وإلى معاهد دينية كانت موجودة آنذاك في سلا وتطوان خاصة، وكان هؤلاء الشباب ينشطون داخل جمعيات محلية منها «جمعية أحباء الطلبة لمساعدة فلسطين» كما كانت لهم علاقات مع إخوانهم طلبة المغرب العربي الذين أسسوا جمعية «طلبة شمال إفريقيا المسلمين» بفرنسا وجمعية الثقافة العربية، وبالطلبة المغاربة الذين كانوا يدرسون في مصر خاصة والذين انتسبوا إلى «جمعية الشبان المسلمين» وإلى «جمعية الهداية الإسلامية». وعلاوة على ذلك كانت لهم اتصالات بعدد من الشخصيات العربية والإسلامية مثل الأمير شكيب أرسلان... حسب ما ذكره علال الفاسي في كتابه «(الحركات الاستقلالية في المغرب العربي) وباختصار، فإن حسن الوزاني عاد إلى المغرب في حقبة كانت فيها المقاومة المسلحة بالجبال قد بدأت في الانحسار لتشرع بدلها مقاومة مطلبية ببعض المدن وسائلها الاحتجاج والتظاهر، والقيام ببعض المبادرات الإصلاحية كبناء المدارس، وتأسيس الجمعيات الخيرية ومواجهة إجراءات سلطات الحماية بتقديم عرائض للرفض أو المطالبة... كل ذلك كان يتم بطرق لا يضبطها تنظيم ولا يسهر على تخطيطها قادة دائمون إلى أن تبلورت في إطار جمعيات طلابية وشبابية وإصلاحية كما سبق ذكره، ولتفرز شخصيات استطاعت بفضل جاذبيتها الشخصية والاجتماعية والعلمية (الكارزمية) أن تتبوأ مركز القيادة أو الزعامة ومن بين هؤلاء الطالب «القروييني» وخريجها علال الفاسي والذي سيجده خريج السوربون حسن الوزاني ضمن الشخصيات التي هيأت المناخ السياسي لظهور الحركة الوطنية الحديثة بعد 16 ماي 1930 -تاريخ صدور الظهير البربري المشؤوم- وبذلك التقى في هذه الحركة التوجه السلفي الذي نشأ علال الفاسي في ظله، بالتوجه الحداثي الذي استورده حسن الوزاني من الديار الفرنسية ليتعايشا بضع سنوات، شهد المغرب خلالها أحداثا لم تكن تسمح للحركة الوطنية بإدخال أي اعتبار غير مواجهة ما كانت تتخذه سلطات الحماية من إجراءات لتطبيق سياستها الاستعمارية التي يعد إدخال مواد الظهير البربري حيز التنفيذ أخطرها، وقد كانت مواجهة هذه الإجراءات بنفس الأشكال الاحتجاجية التي تعودت عليها الحركة السلفية قبل صدور الظهير البربري، كالاعتصام بالمساجد وقراءة اللطيف، والمظاهرات، وتقديم العرائض... وكان رد فعل السلطات الاستعمارية، الفتك بالمتظاهرين واعتقال الوطنيين، وفي ظل هذه المتغيرات ظلت سلفية علال الفاسي وحداثة حسن الوزاني متعايشتين وعندما اقتنع الوطنيون أن «لا المظاهرات الشعبية ولا الاحتجاجات التي أمطرها العالم الإسلامي على فرنسا لم يكن لها أثر عملي على تبدل السياسة أو محاولة العدول عنها... انتظم الوطنيون في دائرة كتلة تعمل لتنسيق الحركة الوطنية وتوجيهها» (الحركات الاستقلالية في المغرب العربي ص151). وإذا لم تسمح مرحلة تقديم المطالب في بداية الثلاثينات بالكيفية سابقة الذكر وما تخللها من قمع واعتقالات بتنافس التوجهين -السلفي والحداثي- فإن دخول كتلة العمل الوطني إلى مرحلة تجديد طرق المواجهة لتحقيق نفس المطالب الإصلاحية، فرض عليها انتقال العمل الوطني من أسلوبه التقليدي إلى ممارسة في إطار حزبي سياسي ذي هياكل مركزية وجهوية ينتظم في إطارها المواطنون، وفق قوانين وأنظمة بمقتضياتها يتسنى لكل من فيه مقدرة وكفاءة أن يشارك في تسيير الحركة بنشاطه، ويعمل بدافع من ضميره حتى تظهر الحركة في حلتها الجديدة المناسبة لروح نهضة المغرب الحديثة (مذكرات حياة وجهاد رقم 5 ص34) وهذا أفضى إلى تأسيس حزب جديد ذي أجهزة مركزية (مجلس وطني ولجنة تنفيذية) وأجهزة محلية (فروع، جماعات أو خلايا) مما اقتضى توزيع المهام وتحديد المسؤوليات، وتبعا لذلك، اختيار أحد الرجلين، أما علال الفاسي أو حسن الوزاني قائدا أو زعيما، ولما أسفر الاقتراع عن لجنة تنفيذية رئيسها علال الفاسي وأمينها العام حسن الوزاني أما باقي الأعضاء فكلهم من فريق علال وهي نتيجة اعتبرها حسن الوزاني مؤامرة وغير ديموقراطية حين قال: «وكان الحاضرون القلائل حريصين أشد ما يكون الحرص على الإسراع بتنفيذ الخطة الموسومة لعملية التصويت المدبر سلفا، فوزعت بطائق التصويت فورا، وسرعان ما جمعت لتكشف عن «السر المكنون» وهو تصويت الحاضرين على أعضاء اللجنة التنفيذية، وهم سبعة من السبعة الحاضرين، فكأنهم صوتوا تقريبا على أنفسهم وكانت بطائق التصويت متحدة في أسماء المصوت عليهم والوظائف المسندة إليهم كأعضاء اللجنة المذكورة، مما دل دلالة حسية ومكشوفة على أن التصويت نظم سرا من قبل الاجتماع حتى يخرج وفق الخطة المرسومة» (مذكرات حياة وجهاد رقم 5 ص24). والمفهوم من منطوق قولة الوزاني أن تشكيل اللجنة التنفيذية بما في ذلك توزيع المهام، لم يكن ديموقراطيا، لكن الذي يسجل عليه هو حضوره في الجمع الذي قال عنه: «أنه تم في يناير 1937 بدعوى «التصويت» في دائرته الضيقة، وفي كتمان تام عن الأغلبية الساحقة من العناصر الوطنية العاملة في فاس والمغرب أجمع، هذه الأغلبية التي لم يعترف لها بأي حق في الحضور بواسطة ممثليها وفي الإدلاء برأيها وصوتها في تقرير مصير الحركة الوطنية» (حياة وجهاد رقم 5 ص23). ومما يسجل عليه أيضا أنه شارك في الاقتراع وهذا ما نجده في نفس المرجع ص25 في العبارة التالية «ولهذا كنت وحدي المصوت المخالف لما دبر بليل من الجماعة الصغرى التي استهانت بمن عداها من رجال الوطنية والكفاح، ثم وهذا ما يدعو للاستغراب أن الوزاني إذ يعيب على جماعة علال تغييبهم لمن اعتبرهم -الأغلبية الساحقة من العناصر الوطنية العاملة في فاس والمغرب أجمع- لا يشترط لاستئناف نشاطه إلا تعيين مساعد له وإلغاء منصب الرئاسة، وهذا ما تضمنته الوثيقة التي قدمها الوزاني ردا على محاولة علال إقناعه بالعودة إلى الجماعة وقبول منصب الأمين العام، حيث جاء فيها: «بناء على اقتراح طرف الأخ علال الفاسي من أن الوزاني يقوم بمهمة الكتابة العامة في اللجنة التنفيذية طبق ذلك النظام الأول، فإنه يقبلها لكن مع مساعد، على أن تلغى الرياسة تماما أو يؤجل البث فيها إلى اجتماع المؤتمر» (مذكرات حياة وجهاد رقم 5 ص35). يتبع