وقد ضمن الوثيقة شروطا أخرى مثل «استبدال النظام الديموقراطي بالنظام التقليدي وتشريك جميع العاملين الأكفاء في وضع النظام الجديد... وإطلاع القائمين بمهمة التنفيذ والتسيير من مؤسسي النظام الجديد على مشروعات الكتلة وتشكيلاتها وأموالها...» (مذكرات حياة وجهاد رقم 5 ص36)، ولم تقبل هذه الشروط، لأن إلغاء منصب الرياسة وتعيين مساعد للأمين العام الذي هو حسن الوزاني كان معناه إما أن يسند منصب المساعد لعلال الفاسي أو يبقى مجرد عضو، وهذا ما لم يستسغه الأعضاء الآخرون... وهو في نظري ما رمى إليه حسن الوزاني لتبرير عدم قبوله استئناف نشاطه داخل الكتلة وإعلانه الانسحاب منها وتأسيس الحزب القومي... وبصرف النظر عما نجده في أدبيات الحركة الوطنية بشأن انشقاق الوزاني عن الكتلة وتأسيسه للحزب القومي، فإن الراجح في نظري هو حدوث متغيرات اقتضت تحديثا في أسلوب العمل الحزبي رأى فيه فريقه فرصة لفرض تصوره في السياسة، وإبراز تفوقه في التنظير والخطاب وتقديم المطالب ومن ثم الزعامة، بينما رفضه فريق رأى فيه بديلا يتجاوز ما ألفه من أساليب تقليدية في العمل السياسي وسيفقد «ألمعيته» ومن ثم موقعه كزعيم للحركة الوطنية ولا سيما بين أوساط الشباب والفئة المتنورة والنتيجة هي أنهما افترقا وتزعم كل واحد منهما حزبا ظل فيه إلى آخر رمق من حياته شعار أحدهما الاستقلال أولا، وشعار الثاني الديموقراطية أولا. إذن، لا أقول لو، فهي أداة مفيدة في النحو، ولكنها غير مشروعة في التأريخ، ولكني أقول: كان على الفريقين أن يستحضرا المصلحة الوطنية، ويفضا الخلاف بحسن النية كما أشار عليهما الأمير شكيب أرسلان. هذا عن انشقاق يناير 1973 فماذا عن انتفاضة يناير 1959 وهي ثاني انشقاق في الحركة الوطنية، هذا ما سيتم تناوله تحت عنوان: «انتفاضة 25 يناير 1959 أهي حركة تصحيح أم مجرد انشقاق لا مبرر له؟ وكان سر نجاح الانتفاضة وإقبال أفواج من المواطنين عليها، من مختلف الفئات هو خطابها التقدمي الداعي للعمل من أجل تحقيق الأهداف التالية: 1- بناء استقلال البلاد وتمتين وحدتها. 2- تأسيس دستور ديموقراطي، وحكومة شعبية في ظل العرش العلوي. 3- تربية الأمة تربية سياسية ديموقراطية. 4- تكوين نهضة اقتصادية تضمن السير لسائر أفراد الأمة. 5- توجيه تطور البلاد الاجتماعي والثقافي نحو حضارة وطنية عربية إسلامية. ولم تمر على عمر هذه الحركة سوى شهور معدودة، حتى أصبح لها فروع في أغلب المدن المغربية خاصة البيضاء، الرباط، أكادير، مراكش، تافيلالت، ورزازات، القنيطرة، مكناس، فاس، تازة، وجدة، طنجة، تطوان، الحسيمة، الناظور، الجديدة، ولئن سجل في البداية ضعف في الإقبال بالنسبة لبعض المناطق فقد عرفت مناطق أخرى إقبالا كبيرا فاق ما كان متوقعا، ويرجع التفاوت في الإقبال إلى نوعية السكان ودرجة وعيهم وتقبلهم لكل ما هو جديد، فبالنسبة للمدن الآهلة بالعمال والمثقفين كان الإقبال ملحوظا، مثل البيضاءوالرباطوالقنيطرةوالجديدة وآسفي وأكادير وخريبكة وجرادة وبوبكر ناحية وجدة، أما باقي المناطق فقد سجل إقبالا كبيرا من لدن المثقفين ورجال الفكر والقانون من معلمين وأساتذة وأطباء ومهندسين وإداريين ومحامين... وأن ما ميز هذه الانتفاضة أنها حركة انتظمت في إطارها فئات من مختلف القوات الشعبية، من عمال ومثقفين لا أقول ثوريين ولا حتى تقدميين لأن هذه المواصفات لم تقرر كشرط للانتماء إلى صفوف هذه الحركة رغم توجهها التقدمي، وهذا ما سينجم عنه مستقبلا. (المستقبل بالنظر العام 1959) بروز تناقضات وخلافات وأزمات عانت الحركة من تداعياتها الكثير. وقد نشأ عن ظهور هذا التنظيم السياسي الجديد خلق فضاء ملائم للتواصل والحوار، ومناخا للتلاقي والتفاهم، إذ في ظله أمكن التقاء من كانوا أندادا بالأمس، فها هو المهدي بنبركة الخصم اللدود للشوريين يجلس ولعله لأول مرة إلى جانب عبد الهادي بوطالب الخصم العنيد للاستقلاليين، إضافة إلى أحمد بنسودة الذي كان شواظا من نار يلهب جسد حزب الاستقلال بانتقاداته اللاذعة، وغمزاته اللاسعة، وإذا أضفنا التفاهم الذي حصل بين المهدي بنبركة والفقيه البصري من جهة، وعبد الله الصنهاجي من جهة، هذا الذي كان لا يني عن توجيه تهمة اغتيال عناصر من المقاومة وجيش التحرير ممن كانوا مناوئين لحزب الاستقلال إلى المهدي وإلى البصري، خاصة عباس المسعدي الذي اختطف بفاس عام 1957 وتمت تصفيته، ومن ذلك الوقت صارت قضيته كقميص عثمان يرفع من لدن جهات لا هم لها غير تشويه سمعة المهدي، منطلقة من خلفية كل ما يقال عنها أنها لا تمت بصلة لما يفعل من خير لوجه الله. فسبحان مبدل الأحوال الذي قال في محكم تنزيله «وهو على جمعهم إذ يشاء قدير». وقد تمخضت اللقاءات بين الشخصيات المذكورة أعلاه عن عقد مؤتمر تأسيسي بتاريخ 6/9/1959 بحضور ممثلين عن الجامعات المتحدة لحزب الاستقلال، وعناصر من حزب الشورى والاستقلال والحركة الشعبية، أعلن فيه عن إنشاء اتحاد أطلق عليه اسم «الاتحاد الوطني للقوات الشعبية» وقد زينت قاعة المؤتمر بلافتات كتب عليها شعارات جذابة من بينها واحدة أثارت انتباه الحاضرين وشدت إليها اهتمام المعلقين، لأنها تضمنت شعارا ذا دلالة فجرت حماس المؤتمرين ولكنها أثارت جدلا كبيرا لدى الأوساط السياسية، هذا الشعار هو «لا حزبية بعد اليوم». ولقد قوبل تأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بكامل الارتياح من لدى قوى التحرر الوطني وكل الأحزاب التقدمية في العالم، إذ أصبحت الحروف التي ترمز إليه -UNFP- مثار اهتمام لدرجة أن ماو تسي تونغ الزعيم الصيني صرح بأن الاتحاد الوطني للقوات الشعبية هو النموذج الذي ينبغي للأحزاب الثورية أن تكون عليه في بلدان العالم الثالث. وإذا كان تأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية مبعث أمل وتفاؤل بالنسبة للرأي العام المغربي والعربي، فإنه كان بالنسبة لجهات معينة مثار خوف ورعب، ذلك أن الاتحاد بخطابه الجديد المتنور الذي يجمع بين الأصالة والمعاصرة، وبنوعية رجالاته الذين ينتمون إلى مختلف الأجيال والفئات، والذين ساهموا مساهمة فعالة في الحركة الوطنية كقادة وأطر وسطى، كسياسيين مرموقين ومقاومين ونقابيين مشهود لهم بالسبق والريادة في الكفاح ضد المستعمر، أمثال المهدي بنبركة، بوطالب، والمحجوب والصنهاجي مسنودين من مختلف القوات الشعبية المنتظمة داخل هيئات لها وزنها، المقاومة، النقابة العمالية، النقابة الطلابية، الفلاحون والتجار والحرفيون الصغار، والمثقفون من مختلف المشارب والمستويات، كل هذه المعطيات اجتمعت لتجعل من الاتحاد الوطني للقوات الشعبية «حزبا جماهيريا» أكرر -حزبا- لأن شعار «لا حزبية بعد اليوم» كان الهدف منه في مفهوم واضعيه، ليس الحزبية بمفهومها السياسي والتنظيمي، وإنما الحزبية الضيقة القائمة على العصبية واحتكار الميدان، وجعل الهدف من العمل السياسي كله لخدمة مصالح «حزبيين» لا المصلحة العامة للمواطنين مما يتيح للزبونية والمحسوبية أن تصبحا ثقافة للتعامل وتدبير شؤون البلاد. وهناك عامل آخر ساهم في إقبال المواطنين على الانخراط في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية هو ما لمسوه من إنجازات اجتماعية واقتصادية من لدن الحكومة التي كان يرأسها إذاك، عبد الله ابراهيم والتي كانت تتشكل من أعضاء محسوبين على الاتحاد، أمثال المرحوم عبد الرحيم بوعبيد كوزير للاقتصاد والفلاحة، أشير إلى هذا الجانب دون أن أعني به أن الإقبال على الاتحاد كان إقبالا انتهازيا كما هو الحال بالنسبة لما وقع في أحزاب أخرى مع وجود استثناءات وهي قليلة، والذي يبعد هذه الشبهة هو أنه في ظل حكومة عبد الله إبراهيم، والتي لم تعمر أكثر من ثمانية عشر شهرا، لم يسلم مناضلو الحزب وقياديوه من الاعتقال والتعسف، من ذلك مثلا اعتقال الفقيه البصري وعبد الرحمان اليوسفي ومجموعة من المقاومين، وحجز ثم إيقاف جريدة «التحرير» الناطقة باسم الاتحاد، وإعفاء بعض الأطر من مسؤولياتهم (قياد، عمال، باشوات، إداريون...) ومع ذلك فإن الإقبال على الانخراط في الاتحاد والتعاطف معه لم يزدد إلا توسعا وتمكنا، وقد تأكد ذلك من خلال نتائج أول انتخابات جماعية جرت بالمغرب عام 1960، حيث فاز في أغلب المدن المغربية الكبرى كالرباطوالبيضاءوأكاديروالقنيطرة وطنجة وغيرها، وذلك رغم التجاوزات التي شابت عملية الانتخاب من جهة، وحداثة نشأة الاتحاد من جهة أخرى. وإلى حدود 1961 كانت جهود المناضلين منصبة على الجانب التنظيمي في جو من الانسجام والانضباط والامتثال، ولكن، وابتداء من هذا التاريخ أخذت تبرز داخل صفوف الحزب تيارات وميولات ونزوعات هي من طبيعة التشكل البشري لهذا الحزب، وانضمام فعاليات حملت معها رؤى مختلفة وأحيانا متناقضة هي حصيلة دراساتها خارج المغرب، في الشرق والغرب وهي أيضا حصيلة كل التفاعلات الإيديولوجية والسياسية والثقافية التي تزخر بها مقرات دراساتها، فهذا عائد من فرنسا متأثرا بأفكار الثورة الفرنسية ومعجبا بالتنظيم الحزبي والنقابي فيها، وذاك راجع من بريطانيا متقمصا هدوء ورزانة مواطنيها، وآخرون وافدون من بلدان المعسكر الشيوعي مهووسين بالنظرية الماركسية اللنينية، والبعض عائد من الشرق العربي إما معتنقا البعثية وإما الناصرية، وإذا أضفنا إلى ذلك الشرائح التي اقتصر تكوينها الشخصي على ما يسود البلاد من ثقافات وتقاليد، فإننا نكون أمام حزب هو «أمشاج» من العينات؛ إذ انتظم فيه الفقيه السلفي، والفقيه المتفتح، والمثقف ذو الميول العربية، والمثقف ذو النزعة الفرانكفونية، وإذا اتجهنا إلى شمال المغرب نجد الاتحاد يضم زيادة على ما سبق مثقفين باللغة الإسبانية بما تحمله هذه اللغة من ثقافات وعادات، ثم إن الاتحاد في هذه الفترة ضم في صفوفه العامل البسيط والبورجوازي الصغير، والتقدمي والرجعي، والجمهوري والملكي، والمتطرف والمرن، والثوري والمعتدل، وأخيرا -وهذا هو صلب الموضوع-كان الاتحاد جمع في صفوفه المقاوم الذي اعتاد مواجهة خصمه بالسلاح، والسياسي الذي يفضل النهج السياسي السلمي في المواجهة. إن هذا التشكل البشري للاتحاد الوطني للقوات الشعبية هو ما جعل بعض الباحثين في الظاهرة الحزبية بالمغرب يقفون حيارى إزاء هذا النوع من الأحزاب، فقد أرجعها باحثون إلى ظروف النشأة، معتبرين أن الاتحاد تم تأسيسه في مرحلة تميزت بعزوف المغاربة عن الحزبية والسياسة عامة، لما أصابهم من خيبة أمل في أحزاب الحركة الوطنية بعد الاستقلال، ولما ظهر هذا الحزب بخطاب جديد، وأسلوب في العمل متقدم، أقبلوا عليه بحماس شأن كل جديد، وقد ساعد على هذا أن الناس في البلدان العربية والإسلامية لا يتمايزون طبقيا لأنهم لما يبلغوا مستوى من الإدراك والوعي الطبقي يجعلهم ينتظمون في المؤسسات الاجتماعية والحزبية على أساس الانتماء الطبقي والمصالح الطبقية. فالانتماء إلى حزب أو تنظيم كيفما كان نوعه، لا يعدو أن يكون شكلا من أشكال الانتماء إلى الزوايا (باستثناء الأحزاب الشيوعية رغم وجود تجليات لهذه الظاهرة كتكريس الزعيم، والامتثال الصارم...) ويرجعها آخرون إلى النزعة الانتهازية لدى البعض ممن انتموا للحزب أملا في منفعة أو نفوذ. وهناك من أرجع الإقبال على الحزب إلى العصبية القبلية أو حتى المهنية، مستدلين على ظاهرة الانخراط الجماعي في الاتحاد لمجرد وجود شخصية ذات نفوذ ما في القيادة الوطنية أو الإقليمية أو المحلية، ومنهم من أرجعها إلى ظاهرة التبعية وهي ظاهرة غالبا ما توجد في المنظمات الجماهيرية، فالعمال مثلا انخرطوا في الحزب لأن منظمتهم مؤيدة له، بل وأن قادتها من أهم المؤسسين، وينطبق هذا على المنظمة الطلابية. كل هذا يمكن التسليم بصحته، ولكن دون أن ننسى أن وراء هذه الخلفيات عاملا اعتبره أساسيا ألا وهو عبقرية المهدي بنبركة رحمه الله. يتبع